كنا على موعد معه لمناسبة توليه رئاسة لجنة تحكيم مهرجان"كان"السينمائي الأخير، لكن الظروف التي أحاطت بالمهرجان غيرت جدول أعمال أمير كوستوريتسا وحالت دون لقائه، بعدما وجد نفسه موضع اتهامات من جانب بعض المشاركين في لجنة التحكيم لا سيما النساء اللاتي هددن بالانسحاب اذا مارس كوستوريتسا تجاههن ديكتاتوريته المزعومة التي يقال انه يشتهر بها خصوصاً تجاه الجنس اللطيف. ينتمي كوستوريتسا 52 سنة المولود في ساراييفو الى عائلة بوسنية مسلمة آمنت بالشيوعية، ما دفعه، بحسب قوله، الى التعلق بالسينما واعتبارها علاجاً للنفس البشرية، وسرعان ما تنكر لمعتقدات أهله، إلا انه قبل أن يمتهن الفن السابع اختلط بعصابات وكاد ان يحترف الاجرام لولا اكتشافه الأفلام الهوليوودية والفرنسية الكبيرة التي فتحت شهيته على سرد القصص والروايات عبر الكاميرا وغرست في نفسه"فيروس"السينما. من بين أهم أفلام كوستوريتسا"الوالد في رحلة عمل"الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان 1984، وپ"حلم أريزونا"، فيلمه الأميركي الوحيد، وپ"زمن الغجر"، وپ"تحت سطح الأرض"الحائز بدوره على السعفة الذهبية في كان 1995، وپ"قط أسود وقط أبيض"، وأخيراً"الحياة المعجزة"المصور في منطقة موكرا غورا الصربية ذات الطبيعة الخلابة، وبين فيلم وآخر يلحن كوستوريتسا ويعزف في إطار فرقته"نو سموكينغ اوركسترا"التي تطوف العالم وتقدم وصلاتها في أكبر الصالات، غير قيامه بالمشاركة كممثل في أفلام مختلفة الجنسيات، أبرزها"أرملة سانت بيار"للفرنسي باتريس لوكونت حيث تقاسم أمير البطولة مع النجمة جولييت بينوش. في باريس التقينا كوستوريتسا على هامش"عيد الأومانيتيه"الشيوعي، وحاورناه. كيف تصف علاقتك بمهرجان كان علماً أنك فزت فيه بالسعفة الذهبية مرتين قبل أن تتولى رئاسة لجنة التحكيم فيه وسط ظروف صعبة هذا العام؟ - دعنا ننسى حكاية الظروف الصعبة ونسلط الضوء على الزوايا التي أضافها هذا المهرجان الى حياتي المهنية، فأنا لولا كان لما نلت الشهرة التي أتمتع بها الآن، وبالتالي لما استطعت تنفيذ الأفلام التي أخرجها، لأن الجوائز تلفت الأنظار وتفتح أبواب وحافظات نقود شركات الانتاج يضحك. وكي ألخص الاجابة عن سؤالك أنا مدين بالكثير لمهرجان كان ولا أحمل ضده في نفسي وفي قلبي أي شعور سلبي أو عدائي. هل ترفض إذاً الكلام عما حدث في المهرجان الأخير؟ - أنا لا أرفض الكلام أبداً، لكن الحكاية صارت معروفة ويمكن سردها في كلمات قليلة وهي انني أتمتع بسمعة المخرج المشاغب أو الصبي الشقي، وهذه السمعة تسبقني الى كل مكان، ويحدث انها تخيف بعض الأشخاص الذين لا يعرفونني عن قرب، خصوصاً النساء اللاتي يعتقدن بأنني من النوع الذي لا يوليهن الاحترام اللازم ويسعى الى فرض ديكتاتورية ما عليهن. لقد عانيت من سمعتي، لكن المياه عادت الى مجاريها في النهاية عندما تعرفنا الى بعضنا البعض في لجنة التحكيم. أما في شأن المشاجرات الناتجة عن الخلافات في وجهات النظر حول هذا الفيلم أو ذاك فهي ممكنة في كل لجان التحكيم ولا علاقة لها اطلاقاً بي كشخص أو بمزاجي وطباعي. انني أحمل عن"كان"2005 ذكرى طيبة في قلبي وأتباهى بكون المهرجان قد منحني شرف رئاسة لجنة تحكيمه. وهل أنت مخرج مشاغب وصبي شقي في الحقيقة؟ - نعم، فليس هناك دخان بلا نار، ولكني من ناحية ثانية رجل طيب القلب وكريم وحنون ولكل ميزان كفتان، أليس كذلك؟ ماذا تفعل هنا في عيد الحزب الشيوعي الفرنسي علماً انك، كما هو معروف عنك، ترفض المعتقدات الشيوعية التي سادت في عائلتك؟ - أنا فعلاً كبرت في جو شيوعي بسبب أبي الذي اعتنق هذه العقيدة وآمن بها الى أعلى درجة، وثم رفضته شخصياً ولا أزال أرفضه، وأرجوك أن تنظر إلي هنا كفنان يلبي طلب هيئة محددة بخصوص احياء سهرة فنية لا أكثر ولا أقل. أنا لا أرفض أي مناسبة تسمح لي بتعريف فرقتي الموسيقية الى الجمهور، ثم دعني أعترف لك بأنني لولا قلة تأثير الحزب الشيوعي على الحياة السياسية الآن لما أتيت الى هنا بتاتاً، لكن الأمور تغيرت على مدار الزمن أليس كذلك؟ ما هو موقع الموسيقى في حياتك المهنية بالنسبة الى السينما؟ - الموسيقى هي بمثابة فترة استراحة أعيشها بين فيلمين، وعلى رغم صعوبة ممارستها وتأليفها تظل ترفه عني وتسمح لي بالتحليق عالياً في سماء الخيال وراحة البال وصفاء النفس، وهي بالنسبة إلي تعوض عن السيجارة بل عن المخدرات، فأنا أعرف في الوسط الفني أكثر من شخص سقط في هاوية الإدمان بأشكاله وأنواعه المختلفة، ولو كان هؤلاء يعشقون الموسيقى مثلما أفعل ويعيشونها مثلما أعيشها لتفادوا الجحيم الذي يعرفونه ويعقدونه جنة، وأدمنوا الموسيقى مثلي. ألا تجلب لك السينما المتعة نفسها؟ - لا، ولكنها تجلب لي مكافآت من نوع آخر مثل إشباع رغبتي الدائمة في سرد الحكايات، لا سيما تلك التي تمس بلدي، والتعبير من خلال الكاميرا عن عظمة الشعب الذي أنتمي اليه وكيفية تحمله ديكتاتورية الماضي وتخلصه منها بشجاعة وبثمن بطولات وتضحيات دامية تستحق التكريم والبقاء فوق صفحات تاريخ البشرية. ان قلمي كمؤرخ اسمه الكاميرا وأنا لا أستغني عنه ولا أقارنه بالموسيقى أو بأي شيء آخر في حياتي، ومثلما قال لي أحد أساتذتي في مدرسة السينما قبل حوالى ثلاثين سنة:"غيرك يترك وراءه عائلة وأولاد وأنت ستترك أفلاماً للتاريخ"، فأنا أتمنى أن يكون الرجل على حق وأن تدخل أعمال السينمائية الى سجل السينما العالمية في المستقبل. أنت بنيت قرية اسمها كوستندروف في الموقع الذي استخدمته لتصوير فيلمك"الحياة معجزة"في موكرا غورا، وهذا أمر نادر إلا في هوليوود بطبيعة الحال، فما مصير هذه القرية؟ - مصيرها استقبال مدرسة لتعليم السينما، وأنا لا أرى لماذا يجب أن نحرم أنفسنا في مختلف أنحاء العالم من الأشياء التي تفعلها هوليوود لمجرد انها تملك الامكانات المادية الكبيرة. ان كل ما في الأمر هو اننا نصنع في عشر سنوات ما تستطيع هوليوود فعله في عشرة شهور، ثم ماذا؟ ان أهم شيء هو عدم الخضوع لليأس واعتزال المشاريع الجبارة بحجة انها ستكون طويلة الأجل. ربما انني أتكلم هكذا بسبب انتمائي الى شعب مناضل يعرف معنى الحرمان والتضحية، وهو أمر قد يفتقر اليه بعض الشعوب الأوروبية الغربية الآن ما يمنعها من تنفيذ مشاريع جريئة تحتاج الى ارادة ثم ارادة ثم ارادة. ماذا عن تجربتك الهوليوودية في فيلمك"حلم أريزونا"مع جوني ديب؟ - انها وقعت مع الأسف الشديد في فترة زمنية حساسة عانى خلالها شعبي من مشكلات كبيرة جداً وهو شيء منعني من التركيز على عملي في شكل طبيعي وتسبب في ما بعد في فشل الفيلم، لكن علاقتي مع جوني ديب بقيت طيبة وأنا أعتبره من أكبر نجوم السينما الأميركية الحالية وفي المستقبل. أنت أيضاً ممثل، فهل تنظر الى هذا النشاط على انه تسلية مثلاً؟ - لا، أنا لا أعتبره تسلية إطلاقاً، ولكن مجرد ممارسة لأحد أوجه نشاطي السينمائي، فهو يعلمني الكثير حتى كمخرج، خصوصاً في شأن سيكولوجية الممثلين عموماً ما يسمح لي بمعاملتهم بأسلوب مختلف عندما أخرج أفلامي بالمقارنة مع المعاملة التي يتلقونها عادة من أي مخرج لا يحترف إلا الاخراج. ضد الطغيان أنت تواجه الكثير من الانتقادات منذ بدايتك الفنية، وأذكر جيداً كيف كتبت بعض الصحف الفرنسية عن اتخاذك موقفاً مدافعاً عن الديكتاتورية في فيلمك"تحت سطح الأرض"أندر غراوند وعلى رغم فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، فهل ترك مثل هذا الاتهام بصمات في نفسك؟ - في حينه نعم، ولكنني رددت على الاتهام وفسرت وجهة نظري وكيف ان الفيلم هو في حد ذاته يصور الديكتاتورية ليفضحها وليس ليناصرها، لكن هناك في كل زمان ومكان أشخاصاً يرغبون في لفت الانتباه اليهم على حساب الأعمال الفنية التي هي في النهاية مورد رزقهم. أنا أستطيع تحمل أي اتهام في العالم إلا ذلك الخاص بمناصرتي الديكتاتورية أو التفرقة العنصرية لأن حياتي مبنية على مكافحة هذه الأمور، وفني، مثلما فسرته، هو قلمي وسلاحي ضد الطغيان وليس للوقوف في صفه. هل انت غاضب على السينمائي فرانسيس فورد كوبولا الذي سألك في المطار"من أنت؟"حينما تقدمت اليه لتعتبر له عن اعجابك به وبأفلامه؟ - أنت تقصد مطار مدينة نيس الفرنسية في العام نفسه الذي شهد فوزي قبل يومين بالسعفة الذهبية في كان عن فيلمي"تحت سطح الأرض"؟ لقد صدمت في حينه طبعاً، لكنني تذكرت على الفور ان الأميركيين وإن تمتعوا بعبقرية فذة في السينما، لا يتمتعون بأدنى ثقافة تتعدى حدودهم المحلية، فنسيت غضبي وفضلت ان أحمل في نفسي عن كوبولا صورة افلامه العظيمة وأن أتجاهل الرجل في حد ذاته والظرف الذي جمعني به في يوم ما.