امس الجمعة كان موعد جمهور دورة مهرجان "كان" لهذا العام، مع فيلم "اليوغوسلافي" - بحسب تعبيره الدائم، امير كوستوريتسا الجديد "الحياة معجزة". وهو واحد من الأفلام المنتظرة اكثر من سواها في المهرجان... ذلك ان كوستوريتسا يغيب عن هذه التظاهرة التي كانت خلال العقدين الأخيرين اعطته جزءاً من مكانته العالمية، منذ سنوات، اي منذ فاز فيلمه "اندرغراوند" بالسعفة الذهبية الثانية التي منحت لهذا المخرج في "كان"، إذ كانت الأولى لفيلمه "بابا في رحلة عمل" الذي كان، في زمنه، تنبؤاً بالنسبة الى ما حصل في يوغوسلافيا لاحقاً. إذا كان عنوان فيلمه الجديد يحمل كلمة "معجزة"، فإن ثمة معجزة من نوع آخر قد تكون في انتظار "الحياة معجزة" في آخر مطاف دورة هذا العام... إذ لو حدث وفاز الفيلم بالسعفة الذهبية، فستكون هذه سابقة، اذ لم يسبق لأي مخرج ان فاز بهذه الجائزة ثلاث مرات. غير اننا اذا أصغينا جيداً الى التصفيق الذي ناله الفيلم بعد انتهاء عرضه يمكننا ان نفترض، منذ الآن، ان المعجزة قد لا تقع. ليس هذا لأن كوستوريتسا لا يقدم هنا فيلماً كبيراً بل على العكس، فيلمه الجديد كبير وثاقب النظر ويصرخ عالياً بأفكار مخرجه واختياراته السياسية والجمالية. المشكلة معه انه فيلم يضع الإصبع على الجرح اكثر مما فعل اي فيلم قبله لكوستوريتسا... وخصوصاً "اندرغراوند". ذلك ان هذا المخرج يبدو هنا وقد وصل الى مستوى من الناضج ينحو به نحو البساطة المطلقة، بعيداً من الحس الباروكي المركب الذي كان صبغ افلامه السابقة وأعطاها نكهتها الخاصة. وهذه البساطة الناضجة من الممكن ألا تثير رضا الكثر. هنا يبدو كوستوريتسا اقرب الى شاغال الرسام وقد غزاه عالم نيكيتا ميخالكوف صاحب "عبد الحب" و"حلاق سيبيريا" بين تحف اخرى، منه الى ذلك السوريالي الذي كانه هو نفسه في افلام سابقة. ومع هذا، فإن الموضوع واحد: ضرورة انتصار الحب على الحرب، وإدانة كل حاملي السلاح مفتتي الأوطان أياً كانت هويتهم. وفي طريقه لقول هذا، يمر كوستوريتسا بريشته السوداء على المؤسسة العائلية وعلى الإعلام العالمي الكاذب، وعلى تدخل الأممالمتحدة... وعلى كل صيغ التكاذب السياسي المشترك. لكن كوستوريتسا لا يقول هذا بلغة سياسية او فكرية جافة. بل يقوله بلغة شكسبيرية واضحة. ولربما يصح ان نقول ان التقارب بين "الحياة معجزة" و"روميو وجولييت" لشكسبير يأتي هنا اشبه بتحية من السينمائي الأربعيني الى عبقري المسرح التراجيدي... وصاحب اجمل قصة حب في تاريخ المسرح. إذاً، على موضوع شكسبيري خالص - استحالة الحب في زمن الحرب - ثم انتصار الحلم على رغم كل شيء، يبني كوستوريتسا فيلمه حافلاً بالمشاعر، بالموسيقى والأغاني، بالاحتفالات الشعبية، بالصراعات ثم خصوصاً بتعاقب الفصول - تماماً كما عند شاغال - وبالحيوانات ايضاً - تماماً كذلك كما عند شاغال. الحيوانات هنا تلعب دوراً اساسياً في تحديد الأحداث، وربما احياناً في تحديد هوية الأشخاص. لم تشهد السينما العالمية، منذ زمن بعيد، من هو، اليوم، اقدر من كوستوريتسا على تصوير الحيوانات، وجعلها - برمزية او من دون رمزية - جزءاً من البنيات الأساسية للفيلم. وبعد هذا هل يبقى مكان لحكاية الفيلم؟ بالتأكيد. فساعتان ونصف ساعة العرض، تبدو كافية لقول الكثير، ولا سيما تلك العبارات الحاسمة ضد منطق الحرب... ولكن ايضاً لتصوير الكثير. وعالم كوستوريتسا يتسع عادة للكثير، بما في ذلك لمباراة لكرة القدم تصوّر مثل باليه راقص، ثم مثل معركة في حرب اهلية. ويتسع اخيراً لقصة الحب بين مهندس سكك حديد لوكا يبني أنفاقاً تصل بين اراضي صربيا والبوسنة ويعيش قرب محطة السكة، ثم تأتي الحرب لتفاجئه... حتى على الصعيد الشخصي. فزوجته نصف المجنونة تغادره مع موسيقي مجري وابنه الذي يجند يختطفه البوسنيون، فهو صربي. وفي خضم هذا تهبط على لوكا هدية من السماء: صباحا المسلمة، الممرضة، التي يؤتى بها إليه لكي يبادلها بابنه... فيقع في غرامها وتغرم هي به. عرف كوستوريتسا، من خلال هذه الحكاية البسيطة، ان يقول ما لم يقله احد بعد عن تلك الحرب الطاحنة التي، بالنسبة إليه، دمرت وطناً... ولكن ليس هناك سوى الحب وسيلة لمقاومتها.