بين موسيقى الهيب هوب والحرب على المخدرات وثيقة. فالحرب هذه نفخت روح الغضب والسخرية في الهيب هوب، وكانت الباعث على غلبة الطابع العدمي عليها، ووراء ميلها الى الديستوبيا والتشاؤم. وأعلن الرئيس نيكسون الحرب على المخدرات. لكن الرئيس ريغن هو الذي دشن المعركة الجديدة عليها في 1982 يوم كان عود الهيب هوب طرياً. والحرب هذه خلفت أثراً بالغاً في مجتمع الاميركيين السود، ورسمت وجه الهيب هوب، وهي مرآة ثقافة السود الاميركيين الذكور الغاضبين على أمة وسمت الشباب الاسود بالمسوخ وتخلت عنهم، وأجهضت فرصة مشاركتهم في الحلم الاميركي. ويقول المغني ناس في اغنية صدرت أخيراً:» كنت لأكون من (طلاب) آيفي ليغ (أهم 8 جامعات في الولاياتالمتحدة) لو كانت اميركا عادلة». وفي اغنية أخرى يقول انه سجين حبس افتراضي. وفي مطلع الثمانينات، نظر شطر كبير من مغني الهيب هوب الى المخدرات على انها مشكلة من مشكلات الاميركيين السود، ولم تكن مشكلتهم الجوهرية. ودرجت اغاني الهيب هوب على وصف المخدرات وصفاً سلبياً. فتعاطيها كان صنو الاخفاق والعجز. ويومها، قدمت الاغاني المغني على انه متفرج عالق في غيتو (حارة)، يراقب ما يجري من غير ان يشارك فيه. وكان مغني الهيب هوب أشبه بالقاص الذي يروي حكاية أو مؤرخ. فعلى سبيل المثال، تبدأ اغنية «مسج» (رسالة) لفرقة «غراند ماستر فلاش وفوريوس فايف» بعبارة: الزجاج متناثر في كل مكان!. وتستعيد العبارة هذه نظرية النافذة المكسورة لصاحبيها جايمس ويلسون وجورج كيلينغ، ومفادها ان نوافذ المبنى المكسورة تشجع على الجرائم. فهي مؤشر الى الاهمال. والأغنية الشهيرة في 1983، «اتس لايك دات» لفريق «رن – دي أم سي»، تناقش مشكلات اوساط السود، وتسلط الاضواء على المشكلات الاقتصادية والتشرد والعنف، ولا تذكر المخدرات. وأغنية «وايت لاينز» في 1983 غردت خارج سرب الهيب هوب، وتناولت قضايا المخدرات من غير مواربة. وأولى المغني ملي مل مكافحة الكوكايين الاولوية. فتفشي «الكراك» (مخدرات مركبة من الكوكايين) لم يكن بدأ بَعد. وتوسل مل صيغة المتكلم، وخرج عن دور المتفرج أو القاص الحيادي، وأدى دور متعاطي المخدرات. ودعا الجمهور الى الابتعاد عن الكوكايين. وعلى خلاف مل، لم ينأَ مغنو الهيب هوب اللاحقون بأنفسهم عن المخدرات، وسعوا الى تجميل صورة تعاطي المخدرات وترويجها. وترافق انتقال الهيب هوب من الموقف السلبي ازاء المخدرات الى موقف متبن لها، مع بلوغ معدلات البطالة في أوساط الرجال السود ضعفي نظيره في اوساط البيض، وتجاوزها عتبة 21 في المئة في 1983. وفي 1984، زادت مخصصات ال«أف بي آي» لمكافحة المخدرات عشرة اضعاف، قبيل تفشي وباء ال«كراك» في 1985. فالحرب على المخدرات بدأت قبل سريان عدوى «الكراك» سرياناً وبائياً. وصورت الحرب على المخدرات ريغن على انه الرجل القوي. فهو البطل المقدام الذي يواجه المجرمين السود. ولسان حال اغنية «بلو ماجيك» (السحر الازرق) لجاي – زي في 2007 هو القول «لوموا ريغن على تحويلي مسخاً... لوموا أوليفر نورث (مسؤول في الامن القومي ضالع في صفقة السلاح مع طهران) وايران – كونترا...». وتزامنت غلبة المخدرات مع شح الوظائف. ولم يجد شباب سود كثر طريقاً يسلكونه غير طريق تجارة المخدرات. ومخدر «لكراك» هو بمثابة «فاست فود» (الوجبات السريعة) من الكوكايين. وأتاحت المتاجرة به لبعض الشباب كسب ما يكسبه صاحب امتياز «ماك دونالد»، في وقت كان البديل عن بيع المخدرات هو العمل في متاجر السلسلة هذه. وتوسل عدد من الشباب تجارة مخدر «الكراك» لإعالة اسرهم. وفي اغنية «رينيغايد» (المارق) الصادرة في 2001، نظم جاي – زي أغنية عن عمله في تجارة المخدرات في الثمانينات، وهي تقول: والدي تركني يتيماً/ امي لم تكن في المنزل/ لم تكن توبخني لأنني لم اكن كبيراً/ خصوصاً حين أجلب الى البيت ما يهدئ قرقرة الامعاء/ سلوكي يفوق عمري بثلاثين عاماً/ طفولتي لم تعن شيئاً يذكر». ومغنو الهيب هوب الذين شبّوا في الثمانينات صوروا أنفسهم على انهم جنود تجارة المخدرات. فهي (المخدرات) هيمنت على فرص جيل كامل من الشباب السود الاقتصادية. ففي نهاية الثمانينات، تغيرت موسيقى الهيب هوب رداً على تفشي مخدر الكراك، وعلى وقع بروز أمراء المخدرات الاثرياء والمتعسفين، وعسكرة قوات الشرطة، وبلوغ العنف مستوى غير مسبوق منذ عهد حظر الكحول، وطول مدة العقوبات الجزائية، وتدمير المخدرات حيوات كثيرة. وفي منتصف التسعينات، بلغ معدل السجناء في الولاياتالمتحدة الاعلى في العالم. والاعتقال هشم اعداداً لا تحصى من عائلات السود، وساهم في تفكيكها. وتظهر الدراسات ان عدد السجناء ارتفع الى مليون ونصف سجين في التسعينات، بعد أن كان أ على أقل من 500 ألف سجين في الثمانينات. وشطر كبير من السجناء الجدد يومها كانوا من السود الذين وقعوا في شراك المخدرات. وفي 1995، بلغت نسبة السجناء من الشباب السود من غير اصحاب الشهادات الجامعية 16 في المئة. وارتفعت النسبة هذه في العقد اللاحق. وتوسل مغنو الهيب هوب صيغة المتكلم في الكلام على بيع المخدرات، والادمان، والعصابات، والشرطة، والسجون. فصارت اغاني الهيب هوب في مثابة قصص حرب المخدرات. وفي 1991، اصدر المغني دي لا سول اغنية «شقيقي المدمن» المستوحاة من قصة شقيق مغني الراب بوسدنيوس الذي انزلق الى الادمان. والاغنية هي مجاز يصف اجتياح مخدر «الكراك» مجتمع السود. والانتقال الى صيغة المتكلم هو مرآة انتقال المشكلة الى عرين السود ومنازلهم. والهيب هوب هو نتاج جيل من الشباب السود الذين لم يعرفوا آبائهم. وفي غياب الآباء، تماهى هؤلاء مع تجار المخدرات. وصار اعلان الواحد انه تاجر مخدرات سابق جسراً الى التربع على كرسي مغني الهيب هوب. وفي حالات كثيرة، لا يصدق الزعم هذا. ولكنه يعبّر عن اعجاب المغني بتجار المخدرات وافتتانه بهم. وفي كتابها الصادر في 1999، «لون الجريمة»، دار كلام المشرعة كاثرين راسل – براون على اسطورة «الرجل الاسود المجرم»، مصدر الجريمة، والدليل على ان ثمة صلة طبيعية بين العرق والاجرام. ولاحظت ان البيض كانوا 70 في المئة من المقبوض عليهم من التسعينات، و40 في المئة من السجناء. ولكن نسبة الجريمة العالية في اوساط البيض لم تؤد الى وسم البيض كلهم بالاجرام. ويدعو الى الاستهجان تبني الهيب هوب اسطورة الرجل الاسود المجرم. وتفسر ميشيل الكسندر في كتاب صدر اخيراً الظاهرة هذه، وتقول أنها استراتيجية نفسية كلاسيكية. فتبني المرء وصمته هو فعل سياسي، و«فعل مقاومة وتحد في مجتمع يحط من قدر جماعة لا تملك تغيير سمتها (اللون الاسود)». وأنشد ردمن اغنية «آي ول بي دات» (سأكون على هذه الصورة) في 1998 مغنياً:» اذا وجب عليك ان تكون قرداً، فكن غوريلا». والاستراتيجة هذه تهدف كذلك الى ترويج الموسيقى. ففي الثمانينات، اقتصر جمهور الهيب هوب على السود من الذكور وأبناء المدن. ومنذ التسعينات الى اليوم، يهيمن الشباب البيض من ابناء الضواحي على جمهور الهيب هوب. ويوم كان جمهورها من السود، رفعت الهيب هوب لواء القومية السوداء، والانتماء الافريقي والوعي الجماعي. ورفعت الموسيقى هذه لواء التمرد ونبذ المخدرات. ثم استغنت الموسيقى هذه عن القومية السوداء، وشرعت الابواب امام تجار المخدرات. ويتوسل عدد من المغنين اسطورة الرجل الاسود المجرم لجني الارباح، على نحو ما فعل المغني ريكي روس. فهو الضابط السابق الذي اطلق على نفسه اسم فريواي ريكي روس، تيمناً بتاجر كوكايين اسطوري الشهرة. والحق ان المجتمع الاميركي أخفق، وخذل مواطنيه السود حين صبغهم بوصمة الاجرام، وسجنهم يوم تعاظمت معدلات البطالة واستشرى وباء ال»كراك». وتوسل السياسيون والقضاة والمدعون العامون وقوات الشرطة فزاعة الشباب الاسود، وصوروهم على انهم الاشرار، واعتقلوهم، لكسب ثقة الناخبين. وخذلت موسيقى الهيب هوب اميركا السوداء. فهي تخلت عن دورها وسيلة للمقاومة وتسليط الضوء على شوائب حرب المخدرات عوض تبنيها. ولم يكن محتماً على الهيب هوب ان تتحول شريكاً متواطئاً في نشر اسطورة الرجل الاسود المجرم. * معد برنامج تلفزيوني وصاحب «من يخاف ما بعد مرحلة السواد، وما معنى أن تكون اسود اليوم؟»، عن «واشنطن بوست» الاميركية، 13/7/2012، إعداد منال نحاس