لمناسبة مرور أربعين عاماً على تأسيس معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، نظم الفرع الثالث للمعهد بالتعاون مع بلدية طرابلس- لبنان، معرضاً للخط العربي في صالة الرابطة الثقافية في عاصمة الشمال اللبناني، شارك فيه أكثر من ثلاثين خطاطاً وفناناً تشكيلياً حروفياً من العراق والأردن وسورية ولبنان والامارات العربية والكويت، ترافق ذلك مع ورشة عمل وسلسلة من المحاضرات ألقت الاضواء على راهن الخط العربي وأسباب تراجع مزاولة هذا الفن بين النشء الجديد. من حدائق الخط العربي يجمع المعرض، بعضاً من انواعه ومدارسه وأقلامه، في انتقائية ترمي إلى التركيز على أصوله الكلاسيكية التي تعود إلى مختلف الحقبات التاريخية، وصولاً إلى مظاهر التحرر في العصر الحديث، أي بدءاً من القصبة وحبر القوارير والقراطيس، إلى عالم التشكيل الحروفي اللوني والتقنيات الطباعية الحديثة في التجارب العربية. ثمة أعمال لافتة في استنطاقها لطاقات الحرف العربي، لدى بعض الخطاطين تفتح مجال التأويل أمام الابتكارات التصميمية - المحدثة، كما يتراءى في أعمال الخطاط الكويتي فريد العلي، الذي أوجد تنويعات زخرفية من لفظ الجلالة، في أسلبة متقنة ضمن سياق تأليفي غير تقليدي. ويعتبر الخطاط الاردني من الاساتذة المخضرمين، إذ نقل الخط إلى اعتاب العمل التشكيلي ذي الطابع النحتي. فقد دمج بين جمالية الحروفية والحضور الانساني في عبوره الأرضي وما يتركه من بصمات وآثار وأثلام على ظاهر الطين المتآكل والمتعدد السطوح والأغوار. فتقنية الغائر والنافر التي عالج بها أعماله على الخزف، تظهر كذلك على أعماله الورقية الشبيهة بالمونوتيب، التي استخدم فيها الطباعة الرأسية، من طريق الضغط، لإبراز القيمة الجمالية للحرف العربي ضمن بنية النص البصري للعمل الفني. وبين الكثافة والرقة، جعل الخطاط العراقي صلاح الدين شيرزاد، يبني تآليفه المستمدة من آيات الذكر الحكيم، بالديواني - الجلي والثلث، في تدرجات متباينة من التحبير والتذهيب. وتستعيد أعمال الخطاط السوري أحمد المفتي، براعة التذويق الزخرفي والخطي لدى جيل الرواد الكلاسيكيين. إذ من قابلية الحرف للتقلص والتمدد، تتفتح العيون مثل احداق، وترتفع الألفات كالمآذن، وتسافر الواو على جناح العبارة القدسية "وللذين احسنوا الحسنى وزيادة". ومن أسرار عظمة هذا الخط وسموه وتجرده - كما يقول الخطاط عدنان الشيخ عثمان - انه ببكاء الأقلام تضحك الصحف. ثمة ما يحيل دوماً في فن الخط، إلى الجوانب الروحية التي تنطوي عليها قدسية الكلمة وما يتغشاها من نور وحكمة. فالقواعد الرياضية التي ضبطت جمالية الحرف العربي ضمن موازين النسب والتناسق، ما هي إلا التقنية التي أمسك الخطاطون القدامى بزمامها، سبيلاً إلى الارتقاء، في مرحلة تبدأ بالتوضؤ بالماء الطهور، ثم التدبر بما يجري به القلم في توقيع الكلام الآتي من لدن عزيز حكيم، وما يرافقه من موجبات التفنن والتبصر والالهام والتفاني، كأنها مشقة العبور من الفناء الارضي إلى السماوي، من الحياة الدنيا إلى جنات النعيم. هذا الحلم المشبوب بالحنين والترفع لدى الخطاطين، هل له مكان في سرائر الخطاطين المعاصرين؟ ثمة خطاطون زاولوا هذا الفن بما ملكت ايديهم من حسن الطوية والدربة والشغف الذي ورثوه عن الآباء، منهم مختار البابا من لبنان، الذي نحا إلى جمالية لغة الأسود والأبيض، في محاكاة العين بعيداً من الاضافات الزخرفية أو اللونية، التي تحول في أحيان كثيرة، دون تذوق ايقاعات الحركة وتوليفاتها في هندسة التأليف. ومن الخطاط اللبناني الرائد، نسيب مكارم الذي عُرف عنه إلمامه بالخط الغباريّ، فكانت من مآثره الكتابة على حبة الرز، إلى نجله سامي مكارم، ثمة فروق بين جيلين، تكمن في كيفية الانصراف إلى هذا الفن. وإن بدا الميل لدى مكارم الابن إلى الخط الفارسي الرقيق في كتابة الأحاديث الشريفة والأقوال المأثورة، فإن رغبته اللونية جعلته ينتقل إلى الريشة بدلاً من القصبة التقليدية، في ايجاد لوحة حروفية حديثة ذات سمات مشرقية. إلى ذلك فقد تمتع سامي مكارم بثقافة عميقة دفعته الى التبحر في كتابات محيي الدين ابن عربي والحلاج وسواهما من المتصوفين، فوضع مؤلفات عدة تتوغل في تفسير الأبعاد الروحانية للخط العربي، مستشهداً ب"الفتوحات المكية" و"عقدة المستوفز" لإبن عربي، في حديثه عن القلم واللوح المحفوظ. فالقلم هو الفاعل لأنه أول موجود انبعاثي، واللوح هو المنفعل، والقلم عالم بذاته في ذاته، وهو الروح من حيث التصرف، وهو الباطن لأنه المعنى واللوح هو فيض القلم وهو الظاهر لأنه يترجم المعنى ويُبديه. وفي فن الكتابة وجب أن يكون الخط جميلاً، كما وجب أن يُرتل القرآن ترتيلاً. وإن كان لكل عصر ثقافته وسبله وأدواته، فإن السعي للاحتفاظ بالخط على أصوله تخالطه الرغبة في تحديث إطاره البصري، على النحو الذي انتهجه الخطاط محمود بعيون لبنان الذي أدخل تقنية البخ اللوني، على لوحاته الخطية في نطاق الخلفية، مما أضفى على المساحة خصوصية البعد وذائقة الملمس. ومن بين الفنانين التشكيليين الحروفيين، تبرز أعمال محمد غنوم وعدنان المصري ومفيد زيتوني، في تنوع استيحاءاتها لجمالية الحرف العربي، في حالين: إما احتفاظ الخط بمضمونه اللغوي، أو اقتصاره عليه كشكل وحركة في مواكب اللون. الخط العربي بين ماضيه وحاضره، يظل هندسة البصر الجميل، في الليونة واليبس والقبض والارسال سواء في ضياء القراطيس وظلام المداد، ام في التركيب والتصميم الحديث. ولئن كان الخط تراثاً وحنيناً وذاكرة، فهو يحتاج إلى الكثير من الاجتهادات لئلا يؤول إلى التبعثر والاندثار.