جان بول سارتر العائد في المعرض الذي يقام لجان بول سارتر في المكتبة الوطنية، باريس، فقرات من مقابلات تلفزيونية تحدث في إحداها عن رفضه نوبل الأدب. لو قبل الجائزة، قال، كانت منحته تميزاً وسلطة وأقصته كعامل فكري عن سائر البروليتاريا. حتى الحجم الكبير لموهبته، أضاف وهو يميل برأسه جانباً، لا يبرر الانغماس الخطر في خيلاء بورجوازية كالجائزة. يتجاهل المعرض بلباقة مطالبة سارتر بقيمة الجائزة المالية بعد سنوات، ويصقل صورته في الذكرى المئوية لولادته في 21 حزيران يونيو وسط تذمر الفرنسيين من غياب المفكرين لديهم. كثيرون يرون مفكريهم اليوم نرجسيين ينهمكون بالدعاية لأنفسهم حتى عندما يعملون لقضية ما. انه عصر النجومية والترفيه، ولم يعد الانغماس في الخيلاء خطراً. صحيح ان سارتر لم يكن من البروليتاريا يوماً واحداً في حياته 1905 - 1980 لكنه رأى في التزامه عملاً كامل الدوام. وعندما توفي في نيسان ابريل قبل ربع قرن مشى ثلاثون ألفاً في جنازته الى مقبرة مونمارتر"احتجاجاً على موته"وفق أحدهم. قلما تعرض مسرحيات سارتر اليوم في فرنسا التي تبدي، مع ألمانيا، اهتماماً خفيفاً بأعماله الأولى. أميركا التي احتقرها تستعيده اليوم أكثر من غيرها، ويبحث السود والراديكاليون والشابات خصوصاً عن أجوبة حول الحرية والعنف المؤسسي. جعل سارتر حياة الفرد سعياً دائماً الى الحرية، لكن هل يمكن التمتع بها على الطريقة الأميركية التي تدلل الأميركيين على حساب النساء والأقليات ومواطني البلدان الأخرى؟ هجس"الرجل الضئيل"بالعنف المنظم والإرهاب وحروب التحرير على انه لم يحسن الخيار دائماً، وأفقده تطرفه السياسي صدقيته قبل موته. من واجب الفرد الروحي أن يتحرك ضد كل أشكال الظلم، وبما ان المجتمع البورجوازي الرأسمالي تسبب بمعظمها باتت الشيوعية احدى الطرق الى الحرية. أيد الستالينية والماوية، وبرّر قتل المدنيين في الجزائر وفييتنام والرياضيين الاسرائيليين في قرية ميونيخ الأولمبية في 1972. أسف للعنف لكنه لفت الى مثيله المنظم الذي حفظ المجتمعات الرأسمالية والاستعمارية وقهر البشر. لا رد على العنف الرجعي إلا بآخر ثوري يمهد الطريق الى الحرية، ولو قُتل عدد أكبر في عهد الإرهاب في الثورة الفرنسية العام 1793 لما عاد النظام القديم. الكاتب نورمان ميلر لا يشاطر"جمعية سارتر في شمال أميركا"إعجابها بالفيلسوف الفرنسي. عالم سارتر في المرحلة المتأخرة قاتم فاسد، يتحرر من الوداع الديني والأخلاقي في سعيه الى بناء عالم سياسي مثالي. هجس بالحرية، ونُسف بيته في شارع بونابرت لأنه دعا الى استقلال الجزائر، ومشى في تظاهرات الطلاب في أيار مايو 1968 لكنه سحر بالماوية ووجد نفسه فيها أيضاً. وقف في محطات المترو في باريس السبعينات يبيع صحيفة ماوية تدعو الى القتل العشوائي لرجال الشرطة وأرباب العمل، وخطب في عمال مصنع رينو عن الجنة الماوية التي تنتظرهم على الأرض. الاتحاد السوفياتي أيضاً لم ينج من إعجابه غير المشروط:"حرية التعبير كاملة في الاتحاد السوفياتي ومواطنه يحسّن باستمرار طريقة عيشه في مجتمع يتقدم باطراد". أضاف لقب"بطل المقاومة"الى تناقضات سارتر الذي عاش حياة"نظرية"ولم يبذل جهداً جسدياً يوماً واحداً طوال حياته. كان يخدم في وحدة الطقس في الجيش عندما أسر النازيون أفرادها في حزيران 1940 وأرسلوهم الى معتقل في ألمانيا. تعرف الى جنود العدو عن كثب واكتشف فيهم بشراً عاديين."لا أؤمن بالله ... ولكنني تعلمت أن أؤمن بالبشر في معسكر الاعتقال". يرى البعض انه صاغ هناك أيضاً جملته الشهيرة"الجحيم هو الآخرون". ولئن أعطى ماتيو، شخصيته الأخرى في ثلاثية"دروب الحرية"، دوراً وجودياً بطولياً في الحرب انحصرت بطولته في الواقع في كتابة كراسات لم تنشر ومسرحيات مموهة بشدة. تغيرت أفكار سارتر باستمرار وقال ان الاخلاص هو ألا تكون مخلصاً لشيء. على ان الثابت الأكيد هو تمجيده الفرد والحرية."الإنسان محكوم بأن يكون حراً لأنه ما أن يرمى في العالم حتى يصبح مسؤولاً عن كل أفعاله". اقتبس الكثير من أفكاره وحتى مصطلح"الوجودية"من مفكرين ألمان، وبدأت وجوديته مع روايتي"الغثيان"في أواخر الثلاثينات و"الوجود والعدم"في 1943 اللتين كرستا الانسان بطلاً مأسوياً. لا شيء يفسر الوجود، قال. الوجود يفسر كل شيء ولا شيء. ليست هناك حقائق مطلقة. لا الدين ولا التكييف الاجتماعي أو علم النفس أو التاريخ تستطيع أن تشرح سلوك الانسان. الحياة مقززة ورائعة. هي تحد فكري دائم وبطولة نفسية دائمة، وعلى الفرد أن يجد بنفسه طريقه الى الحرية والتحرر من القيم الموروثة. لم يبذل الهيبيون في أميركا وبريطانيا جهداً في مقاومة فلسفة الوجودية الجذابة في الخمسينات، لكنها لم تساعدهم عندما خرجوا من المدارس والجامعات الى العمل. لاءمت الوجودية العامل الفكري الذي وجد سارتر هويته فيه، لكنها لم تجب عن الأسئلة الأخلاقية. إذا ألغينا الدين والأخلاق ما الذي يردعنا عن الأفعال البربرية؟ أجاب سارتر بأقوال من نوع:"غياب الله إلهي أكثر من وجوده"و"كل خصوم الشيوعيين كلاب"و"الاخلاص هو عدم الاخلاص لأي شيء". هو نفسه تبع النصيحة الأخيرة في أول الخمسينات وبات أكثر التزاماً سياسياً فبدا مرتداً وفق المفهوم الوجودي الفرنسي. بات اليتيم المدلل بعد وفاة والده عندما كان عمره عاماً واحداً. تعلق بوالدته التي ألبسته ملابس البنات ولم يبال بغياب الأب. كان موته"أكبر ضربة حظ. لم يكن عليّ أن أنساه". التحليل النفسي الفرويدي رأى في طفولته ما يفسر خياره المهني لكنه احتقر فرويد وقال بحسم ان الطفولة لا تقرر مصير الفرد. كان غريباً قول سيمون دو بوفوار، ان علاقتها به كانت أكبر انجاز في حياتها. التقيا في 1929 عندما كانا يعدان لشهادة الفلسفة. نال المرتبة الأولى وهي الثانية علماً ان الفاحصين اعتبروها الفيلسوفة الأفضل وتأثروا بكونها، وهي في الواحد والعشرين، أصغر من تقدم للامتحان اطلاقاً. بهروا بجرأته وبراعته وحيوية شبابه الصارخة التي جعلته يرمي بالونات مملوءة بالماء من نافذة الصف وهو يصرخ:"هكذا بال زرادشت". سحر الفتاة الارستقراطية وأعلى الشروط منذ البداية."حبنا أساسي، لكنها فكرة جيدة لكلينا ان نختبر علاقات طارئة". طرأت عليه علاقات كثيرة قصيرة قابلتها بغيرة صامتة وعلاقات قليلة أطول أمداً. مالت الى الجنسين وسخرت من طالباتها الشابات اللواتي أغوتهن ثم عرفتهن الى"صغيري العزيز". لكن سارتر كان فقد الاهتمام الجنسي بالجميلات وان أحب صحبتهن وإغواءهن. تقول ليزا ابينيانيزي في سيرة دو بوفوار الصادرة في مئوية ولادة سارتر عن دار Haus ان العلاقة الجسدية مع سارتر انتهت تقريباً عند نهاية الحرب العالمية الثانية لكنهما بقيا يلتقيان حتى آخر حياته. "فوتردام دو سارتر"راجعت كتبه وأحبته وتدبرت أموره عندما كان في الجبهة والمعتقل واعتمدت على وجوده في حياتها. عندما توفيت بعده بستة أعوام شبه كاملة كانت أوصت بأن تدفن الى جانبه مع انه لم يترك لها حصة في وصيته، وأورث كل ما ملكه لعشيقته الأخيرة. قال عنوان صحيفة:"أيها النساء، إنكن تدينون بكل شيء لها"ومشى خمسة آلاف في جنازة رائدة الحركة النسائية الحديثة. في"الجنس الثاني"عرّفت المرأة بپ"الآخر"في عالم يشكل فيه الرجل القياس والسلطة. الأنثى ليست كذلك بالولادة بل بالصيرورة. تصبح امرأة وفق التعريف الذكوري لكي تحصل على شيء ما من دورها الثانوي. لماذا أخضع سارتر هذه النسوية اللامعة، وهل أعطته حقاً أكثر مما أخذت منه؟ في رسائلهما حنان كبير واحترام فكري متبادلان لكن لا إجابة هناك عن سر الانجذاب الغريب. الأكيد انها احتاجت اليه أكثر مما احتاج اليها، وان لا سبيل الى معرفة معنى قولها ان علاقتهما كانت انجازها الأكبر مهما برعنا في التحليلات الذكية. في"سارتر: سيرة"يقول رونالد هيمان ان المفكر"شعر بالراحة الكبرى في المقاهي والمطاعم حيث استطاع أن يقتطع المكان بالتحكم بالحديث وزفر دخان السجائر... كره الوقت الذي كان عليه ان يمضيه في الغسل والحلاقة وتنظيف الأسنان والاستحمام، ووفر الوقت بترك باب الحمام مفتوحاً ومتابعة الحديث".