كان جورج حاوي ابن المتن الشمالي بامتياز. قريته بتغرين الرابضة في أعالي المتن أمدّته بالكثير من الصلابة والكثير من الليونة، هو سليل آل حاوي، الذين عرفوا أكثر ما عرفوا بحرفة البناء وتفتيت الصخور وكان منهم خليل حاوي الذي جاء الشعر من عالم الطين والحجر. صاحب أكثر من تاريخ في السياسة والنضال والمعارضة، وسيرته الأخيرة هي سيرة الحزبي الذي ضاق بالحزب مثلما ضاق الحزب به، فأنشأ لنفسه موقعاً، هو موقع"البين البين"، بين الماضي الحزبي والمواقف الحرّة ولكن الملتزمة والصريحة والجريئة. واقترن اسمه بحركة المقاومة الوطنية وكان من مؤسسيها الأوائل. وعندما قام في الآونة الأخيرة بمبادرة شبه شخصية لإرساء المصالحة اللبنانية بين الأطراف المتباعدين بدا اشبه بداعية السلام، هو الذي خبر معنى الحرب عن كثب وتعلّم منها الكثير. وكم فاجأ هذا الشيوعي المعتدل وغير المؤدلج واللبناني، العربي الهوى، كم فاجأ المواطنين اللبنانيين بقيادته حملة الافراج عن"عدوّه"السابق سمير جعجع. وكان له دور بارز في بلورة هذه الحملة كي تشقّ لاحقاً طريقها الى المجلس النيابي. يصعب تصوّر الحياة السياسية في لبنان بلا جورج حاوي. صحيح انه لم يكن نائباً في أي يوم ولا وزيراً ولا سفيراً... لكنه كان يملك نوعاً من"الكاريزما"أو الاطلالة الذكية والعفوية التي كانت تجعل المواطنين يحبونه ولو كانوا ضده في أحيان. هذا"الشيوعي المرن والعصري والمنفتح والعلماني عرف كيف يستوعب حركة سقوط المعسكر البولشفي، وكان سبّاقاً الى توجيه النقد الذاتي الى"الحزب"ومسيرته في لبنان. ولم يتخلّ يوماً عن"شيوعيته"التي أسبغ عليها طابعاً خاصاً، وتعامل معها على الطريقة اللبنانية التي تلغي المتناقضات وتقرّب بين ما يختلف عليه المواطنون. أما جديته فكانت تعتريها أحياناً حال من السخرية والمرح، وكان هو"استاذاً"في النقد السياسي وفي مواجهة"غرمائه"السياسيين، معتمداً ذاكرته الرهيبة، وفكره الراسخ وعفويته المحببة. تاريخ جورج حاوي يبدأ في نظر بعض اللبنانيين في مرحلة ما بعد الطائف وما أعقبها، ولا سيما مرحلة خوضه معركة الانتخابات في المتن الشمالي عبر رافي مادايان الذي هو بمثابة ابنه الروحي، علاوة على كونه ابن زوجته. كان حاوي في جبهة المعارضة المتنية التي طالما حاربها ابن بلدته النائب ميشال المر، وكان يخوض معركة رافي وكأنها معركته، وكان دوماً الى جانب الشخصيات المتنية المعارضة مثل نسيب لحود وألبير مخيبر وسواهما... وفي الفترة الأخيرة، عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري أصبح حاوي من رموز المعارضة ووجهاً من وجوه"ثورة"14 آذار مارس... وعندما اغتيل سمير قصير كان حاوي في طليعة المستنكرين والمعترضين والمحتجين، بصوته الجهوري وكلامه الذي لا يهادن... أمس سقط جورج حاوي شهيداً مثل رفاقه الذين سبقوه. انفجرت العبوة في سيارته وحوّلت جسده أشلاء. ترى هل كان يتصوّر هذا المعارض - المسالم أنه سيسقط شهيداً؟ هذا الرجل الذي لم يهب الموت يوماً؟ أمس سقط جورج حاوي! هل كان خطراً الى هذا الحد؟ هل يكون خطراً من يكون ديموقراطياً مثل جورج حاوي؟ بل من يكون في جرأته وصراحته ومناقبيته؟ كيف ستكون الحياة السياسية اللبنانية و"الأهلية"بدءاً من اليوم بلا جورج حاوي، هذا السياسي الأعزل، الذي لم يكن يملك سوى ضميره الوطني ومواقفه الجريئة؟ الشيوعيون وغير الشيوعيين، المسلمون والمسيحيون،"اليمينيون"و"اليساريون"سيفتقدون جورج حاوي! سيفتقدونه كثيراً!