تركت انتخابات المتن الشمالي أثراً سياسياً واضحاً على رغم فرعيتها، يكمن في دلالاتها وخلفياتها، التي خضعت لتقويم المراقبين والأوساط السياسية وفق بعض المعطيات، كالآتي: - مهما كانت النتائج الرسمية، حققت المعارضة انتصاراً سياسياً له دلالاته، حتى لو اقتصر على منطقة صغيرة وعلى مقعد واحد من اصل ثمانية. ومن الدلالات انه تعبير عن النقمة المسيحية ضد السلطة بفعل احداث 7 آب اغسطس الماضي التي شهدت اعتقال اكثر من مئتي ناشط من تنظيمي "القوات اللبنانية" المحظورة والتيار العوني ما زال بعضهم امام القضاء. وقد فاجأ ارتفاع عدد اصوات المعارضة ميشال المر الذي كان توقع بثقة انتصاراً لكريمته بفارق كبير. واذا بالنتائج تأتي متقاربة جداً، ما يبقي دلالات ذلك قائمة حتى لو فازت ميرنا المر. ومنها ان اعتقاد السلطة ان مفاعيل 7 آب انتهت باستقرار الاوضاع لمصلحتها كان خاطئاً، لأنه خلق، بما سبقه وتخلله وتبعه شعوراً متزايداً بالظلم والتجاهل وكان غير واقعي لأنه لم يحسب مدى تراكم النقمة، خصوصاً ان الحوار بين المعارضة المسيحية وبين الحكم توقف. ولولا وجود هذا الشعور لما كان وزير الداخلية وعد بحوار مع "المعارضة الشريفة" حول كل الملفات، بما فيها ملف العماد عون والدكتور سمير جعجع عشية عمليات الاقتراع. لكن هذا الوعد جاء متأخراً بعدما كانت وعود سابقة بإزالة مفاعيل 7 آب لم تفلح. وهذا يطرح على السلطة مسؤولية معالجة النقمة بعد الآن وإلاّ تكرر ما حصل في محطات سياسية اخرى. ويفترض ان يلعب الرئيس اميل لحود، ورئيس الحكومة رفيق الحريري الذي لم يتحمس لتغطية اي مخالفة للقانون كما فعل في 7 آب ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط دوراً في احتواء النقمة وإزالة ما يمكنهم إزالته من اسبابها. - ان الحملات التي قام بها آل المر، الأب والابن، ضد رموز المعارضة ومرشحها، غبريال، ادت الى ارتكاب اخطاء لا تحصى استفاد منها الخصوم لتجييش الناخبين لمصلحة الاخير، بدءاً بالتلويح بمعاقبة محطة "ام تي في" التلفزيونية، مروراً بالتهديدات التي اطلقها الوزير المر ضد الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي، والمرشح الشيوعي السابق رافي مادايان، والهجوم على نسيب لحود، انتهاء بالاصرار على عدم الزامية العازل في عملية الاقتراع على رغم نص القانون على ذلك... وأدت مخاطبة المر ونجله للمعارضة باستعلاء من كرسي النفوذ والسلطة الى استفزاز الجمهور العريض الذي تحمس للانحياز اليها، تماماً كما كان رد فعل الجمهور تضامناً مع المعارضة في انتخابات العام 2000 العامة. - تعتبر اوساط متنية محايدة ان التحالف المعارض استطاع بتجمع اطرافه ورموزه ان يستنهض جمهوره، بطرحه شعاراته ضد السلطة والنفوذ السوري في وضوح، ما أدى الى تعبئة هذا الجمهور بهذه الشعارات التي تتلاءم مع مزاجه خصوصاً في الوسط الماروني الذي يشكل اكثرية الناخبين، والذي كان منقسماً في السابق. وفي المقابل لم يخض نائب رئىس الحكومة السابق ميشال المر المعركة بشعارات سياسية واضحة، بل سعى الى تغليب الصفة العائلية عليها، ما وضع حدوداً لعملية الاستقطاب لمصلحته. وجاءت شعارات منظمي حملة ميرنا المر السياسية خجولة، كذلك التحالفات التي اقامتها الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب الكتائب المساندين للسلطة، لتناقضها مع مزاج الناخبين، فارتكزت فقط على "الوفاء" للخدمات التي يقدمها. - إزاء التساؤلات في صفوف المعارضة عن الموقف السوري واعتبار بعضها ان دمشق ساندت ميرنا المر على حساب غبريال، اكد قادة لبنانيون مقربون من دمشق منذ صباح الاثنين الماضي انها غير مهتمة من الاساس بتلك المعركة الفرعية وكان موقفها عدم اقحامها فيها حين كانت في مرحلة الترشيحات. ورأى هؤلاء ان ثمة تضخيماً لتلك المعركة، فحديث المعارضة عن انها معركة كل لبنان غير واقعي. كما ان خوف السلطة من نجاح غبريال المر ليس مبرراً، وليس صحيحاً ان انتصار المعارضة هو على مستوى كل لبنان لأن هذا تجاهل لقوى كبرى في سائر المناطق، كما ان نجاح المرشح المعارض ليس كارثة للسلطة. فالمقعد كان اساساً للمعارض المرحوم ألبير مخيبر ومجيء غبريال المر لا يؤدي الى خسارة الدولة اي شيء بل يحسن سمعة البلد بأن مرشحاً معارضاً نجح في منطقة، رئيس الجمهورية ووزير الداخلية ونائب رئىس الحكومة السابق منها، هذا فضلاً عن ان جلب جزء من المعارضين بعض المتشددين الى حلبة اللعبة الانتخابية، مثل العونيين يعني قبولهم بالمؤسسات. ولذلك على المعارضة والموالاة وضع الامور في حجمها ونصابها بدلاً من تضخيمها. ويؤكد المقربون من دمشق ان المسؤولين السوريين لعبوا دوراً حاسماً في نصح كبار المسؤولين بتنفيس الأجواء عبر إعلان النتائج لمصلحة غبريال المر، وعدم إقحام رئيس الجمهورية في لعبة الربح والخسارة ووضعه في مواجهة جديدة مع الوضع المسيحي. ويدعو هؤلاء المعارضة والسلطة الى إدراك ان العقل السياسي السوري بعيد كل البعد في هذه الظروف من الاهتمام بالوضع اللبناني الداخلي مهما كانت القضية مهمة، لأنه منصرف كلياً، ومستنفر بكل قدراته نحو ما يجري في فلسطين. ومن لا يدرك مدى تركيزه على الوضع الفلسطيني لتقديره خطورة اوضاع المنطقة، سيخطئ الحسابات في تقدير الموقف السوري، ويحمّله ما لا يريد. - ان المعارضة بعد انتصارها امام تحديات كثيرة: كيف التوفيق بين متطرفيها ومعتدليها؟ وهل ستتفهم الموقف السوري والوضع الإقليمي ام انها ستواصل حملتها ضد دمشق كأن شيئاً لم يحصل، لا سيما بعد اعادة انتشار القوات السورية؟ وهل ستراعي القوى التي ساندت تكريس انتصارها ديموقراطياً على رغم عدم تحالفها معها؟ وهل ستنفتح على السلطة والرئاسة الأولى ام ستسلك طريق تحديها كما ظهر من مواقف عون؟ وهل ستستمر في اعتماد التعبئة التلفزيونية؟ - ان الجيش اللبناني بذل جهداً من اجل ان تقف سائر القوى الأمنية على الحياد وضمان عدم حصول اي تدخل، يوم الأحد الماضي، وتفادي اي صدام على الأرض بدءاً من مساء الأحد...