لم يتحول العنف الإعلامي والسياسي الذي رافق التحضير للانتخابات النيابية التي أجريت امس في طرابلس والمنية الى اضطرابات امنية وبقي الوضع الأمني ممسوكاً على رغم المشادات الكلامية في الساحات العامة وأمام صناديق الاقتراع بين انصار لائحتي"المصالحة والإصلاح"و"القرار الشعبي"، وحال تدخل وحدات الجيش اللبناني دون تطورها الى صدامات. طرابلس والمنية استيقظتا امس، على مبارزة بين موجتين انتخابيتين غلب عليهما طابع الانقاسم الطائفي والمذهبي لكن المراقبين وجدوا صعوبة في تقدير الحجم الانتخابي الحقيقي للائحة"المصالحة والإصلاح" المدعومة من سعدالدين رفيق الحريري و"لقاء قرنة شهوان"والتكتل النيابي الطرابلسي مع ان السيطرة كانت لها على الأرض في مواجهة منافستها المؤلفة من ائتلاف سليمان فرنجية و"التيار الوطني الحر"وشخصيات طرابلسية، التي لم تتواجد ماكينتها الانتخابية بكثافة واقتصر حضورها على المرشحين الطرابلسيين في اللائحة وغاب عن محازبيها القميص البرتقالي الذي ارتداه في مناطق شمالية اخرى انصار العماد ميشال عون. إلا ان المنافسة الحادة بين هاتين اللائحتين لم تحجب انظار الطرابلسيين عن الحضور اللافت لأنصار الرئيس عمر كرامي الذي بكر في المجيء الى مكتبه الانتخابي في كرم القلة حيث اعطى تعليماته لمؤيديه بالاقتراع لمصلحة اللائحة المدعومة من عون وفرنجية باستثناء ابن عمه احمد كرامي ومحمود طبو وفايز غصن الذين نالوا نصيبهم من التشطيب المنظم. وأجريت محاولات لدى كرامي لإقناعه بعدم التشطيب لكنه اصر على موقفه من ابن عمه احمد وطبو على خلفية الاختلاف معهما ومن غصن بذريعة ان الأخير كان وراء ترتيب انضمام احمد كرامي الى اللائحة. كما ان الحزب السوري القومي الاجتماعي دخل في لعبة التشطيب لمصلحة مرشحه المنفرد في الكورة حنا العيناتي لكنه التزم في نهاية المطاف بتأييد تحالف فرنجية - عون، بينما ايد الحزب الشيوعي اللائحة نفسها لوجود مرشحه في الكورة عطا جبور عليها. وتردد ان"الجماعة الإسلامية"اقترعت على طريقتها بعدما اشيع انها ستؤيد لائحة المصالحة مع تشطيب بعض الأسماء، وهناك من يؤكد بأن قيادة"الجماعة"اعطت الجميع من طرف اللسان حلاوة وتركت لنفسها حرية الاختيار في صناديق الاقتراع، بينما احسن انصار"جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية"في لبنان الأحباش انتشارهم امام صناديق الاقتراع وتواجدوا كالعصفور الطيار، مع ان تأثيرهم بقي محدوداً. وإذا كان المشهد الانتخابي في طرابلس والمنية بقي ذاته نظراً الى اوجه الشبه بين المنطقتين، فإن معظم الطرابلسيين اخذوا يتصرفون في اليوم الانتخابي الطويل على انهم في حاجة الى زعيم سياسي وأن لا مانع لديهم من ان يكون من خارج المدينة، وهذا ما يبرر اقتراعهم لسعد الحريري بدلاً من اللائحة المدعومة منه، لما لديهم من مآخذ على عدد من المرشحين فيها تجاوزت الملاحظات الى الانتقادات. وانبرى اهل طرابلس في اظهار تأييدهم للحريري بوضوح من خلال الحشود التي تواجدت بكثافة امام صناديق الاقتراع من دون ان تبادر في الصباح الى الإدلاء بأصواتها، خلافاً للميسورين من سكان عاصمة الشمال الذين اقترعوا باكراً. وأبرز ما تميز به المشهد الانتخابي في طرابلس والمنية، الجهد الذي قام به انصار الرئيس كرامي من خلال رهانهم على ان الزعامة الطرابلسية ليست طرفاً في المبارزة الانتخابية بمقدار ما انها ارادت تسليف موقف مؤيد لتحالف فرنجية - عون يقيناً منهم بأن التوازن قد يكون مطلوباً لمنع أي طرف من إلغاء الآخر، ولترك اللعبة الديموقراطية تأخذ مجراها بما يتيح لهم خروج منافسي كرامي على الزعامة منهوكي القوى، من دون ان يتمكن احدهم من التغلب على الآخر بفارق كبير في الأصوات. وفي ديوانية توفيق سلطان وجد بعض الحضور، في مقدمهم جان عبيد، رشيد درباس، فؤاد شبقلو ووسيم عز الدين ان موجتين طائفيتين تتصارعان في الشمال وأن هناك صعوبة في فرز البحر الهائج قبل فرز الأصوات وإعلان النتائج، اضافة الى ان اللائحة المنافسة للائحة فرنجية - عون ضمت مرشحين يصنفون بين مشرد من لائحة الحريري والمقصود به أحمد كرامي، وآخر يعتبر من التاريخ في اشارة الى الدكتور عبدالمجيد الرافعي وثالث وهو نواف كبارة يمثل اتحاد المعوقين ويعتبر في طليعة الناشطين في جمعيات المجتمع المدني. الا ان هناك من يأخذ على هؤلاء انهم ترشحوا على لائحة بدت فيها الشراكة الانتخابية - السياسية مقتصرة على الثنائي عون - فرنجية. مع ان المرشحين السنّة فيها ينفون ذلك، ويحملون على منافسيهم بأنهم انصاعوا لتأليف لائحتهم تحت تأثير اعتبارات شخصية لم تراع المزاج الشعبي. ورأى احمد كرامي ان اجتياح عون لدائرتي كسروان - جبيل والمتن الشمالي لم يؤثر في الحال الانتخابية في طرابلس مشيراً الى ان"الجنرال"موجود لكن بحدود بخلاف المناطق الأخرى. وأيده الرافعي غامزاً من قناة من يحاول إلغاء العائلات السنية لتكريس زعيم على طرابلس من خارجها وآخذاً على سعد الحريري بأنه اسهم بطريقة او بأخرى في شحن الأجواء الطائفية. وفي المقابل ضمت لائحة المصالحة الكثير من المرشحين عن طرابلس والمنية، لكن القليل منهم يتعاطى الشأن السياسي لأن همهم الأول والأخير الفوز في الانتخابات لينوب عنهم الحريري في خوض المعركة من الوجهة السياسية وقد تحول الرافعة الوحيدة للنهوض باللائحة، بينما انصرف اعضاء التكتل النيابي الطرابلسي محمد الصفدي، محمد كبارة، موريس فاضل وآخرين الى توفير الشروط اللوجستية والتقنية التي تحتاجها المعركة اضافة الى انصراف الجميع الى تطويق الشائعات التي اطلقها خصومهم بأنهم يلجأون الى تشطيب بعضهم بعضاً للحؤول دون تعريضهم الى خرق في حال حصوله. وكانت اللغة السياسية معدومة في المعركة بعدما اقتصرت المواقف على تبادل الاتهامات التي غلب عليها التجريح الشخصي في مقابل المخاوف التي اظهرها عبيد وسلطان وشبقلو ودرباس من التداعيات السياسية التي ستترتب على الطابع الطائفي الذي غزا الساحة الشمالية من بوابتها الانتخابية خصوصاً انه قد يحدث فرزاً مذهبياً له تأثيره السلبي على المرحلة المقبلة التي تبدأ قريباً لمواجهة استحقاقين: انتخاب رئيس جديد للمجلس النيابي وتشكيل الحكومة الجديدة لأن الحكومة الحالية تعتبر مستقيلة بدءاً من اليوم. ولم يكن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعيداً من هذه المخاوف وهذا ما لمح إليه في منزله بعد ان اقترع، لافتاً الى ان عاطفته مع سليمان فرنجية لكنه لا يستطيع تجييرها لمصلحته في صندوق الاقتراع طالما ان السلطة على الحياد.