من الصعب الإدعاء بأن شعوب العالم احتفلت فعلاً بيوم النصر ال60 على ألمانيا النازية في التاسع من أيار مايو بحسب تقويم الجيش الأحمر. فقد استقبل إجمالاً بمناسبات رسمية"من مؤتمرات المؤرخين الأكاديمية الى حفلات استقبال الرؤساء. وهذا مفهوم، فالحديث عن 60 عاماً، وهي كافية لتحويل عملية التذكر إلى اختصاص، وهذه المهنة تدعى علم التأريخ. ومن زاوية أخرى يمكن أن تسمى عملية التذكّر أيديولوجية وصحافة بل سياسة أيضاً، وإلا فكيف يمكن فهم الذاكرة السياسية الإنتقائية لدولتين من دول البلطيق هما ليتوانيا واستونيا رفضتا المشاركة في إحتفالات النصر في موسكو؟ اذ أصدر البلدان، في التوقيت نفسه أي السابع من آذار مارس، مواقف متشابهة، فرفض رئيساهما فالداس أدامكوس وأرنولد روتل زيارة موسكو للاحتفال لأن بلديهما لم يمارسا حرية الاختيار بعد تحريرهما من الاحتلال النازي. أما رئيسة لاتفيا فالرا فايك - فرايبرجا فأكدت لمواطنيها انها ستزور موسكو لكن ليس للاحتفال، وإنما لأمور أخرى. وعقبت صحيفة"برافدا"10 أيار على هذه الإهانة الموجهة لروسيا من جمهوريات سوفياتية سابقة بأن خسارة روسيا من غياب هؤلاء ليست كبيرة، ومن الأفضل ألا يأتي ممثلو دول ومجتمعات شاركت في قتل الأسرى السوفيات وفي ملاحقة مواطنيها اليهود وفي التواطؤ مع المحتل النازي. كما عيَّرت الصحيفة هذين الرئيسين بإقامة نصب لضحايا ال"إس إس"البوليس السري النازي في تالين قرب ضريح الجندي الروسي المجهول. لم يدم الاتفاق على الذاكرة في أوروبا طويلاً، إذ أخضعت فوراً للسياسة القومية ولسياسات الهوية وبلورتها. مع ذلك ورغم سياسات الهوية الروسية والبلطيقية كان بناء التحالف العالمي ضد ألمانيا النازية حدثاً كونياً مثلما كان النصر عليها. أزال التحالف تهديداً فظيعاً للانسانية، لكن ليس قبل أن يودي بحياة أكثر من 50 مليون إنسان ويأتي على يهود أوروبا جماعياً في فترة قياسية بقصرها. أخضعت الحرب الباردة بين نظامين ورؤيتين للعالم، والتي تلت الإنتصار، تحليل النصر على النازية وتنسيبه وأيضاً تحليل ظاهرة النازية، لقوانينها. فالنازية كانت بنظر الشيوعيين نظاماً رأسمالياً يمثل أكثر أشكال نظام الاحتكارات عدوانية. أما بالنسبة الى الدول الرأسمالية فكانت النازية جمعاً بين القومية المتطرفة والاشتراكية، وبهذا المعنى لم تختلف عن شمولية النظام الشيوعي الا بأن الأخير أقام، خصوصاً في المرحلة الستالينية، نظاماً بطبيعة النظام النازي الشمول نفسه من أجل أهداف سامية، أي مع فرق كبير في الاهداف المعلنة وليس في بنية النظام والممارسات والنتائج. أما حركات التحرر الوطني فأجمل مزاجها السياسي تجاه النازية بجملة لم تقلها هي، وأصيغها عنها: أن النازية هي استعمار لم يجد ما يستعمره خارج الدولة فتوجه نحو الداخل. ونعلم جميعاً تحليلات العدوانية الألمانية بأن الرأسمالية المتطورة نشأت فيها بعدما كان العالم مقسماً بين دول استعمارية. وطال الجدل عقوداً طويلة حول السؤال من إنتصر على ألمانيا النازية، الشيوعية أم الرأسمالية. وحتى عندما اعترفت الدول الغربية بالدور المصيري الحاسم للجيش الأحمر في سحق النازية، فقد عزت ذلك بالطبع إلى"الحرب الوطنية العظمى"واليقظة القومية الروسية أمام العدوان الألماني، أي الى القومية. ويقيني أن بوتين يحبذ هذا التفسير حالياً. على كل حال يبدو أنه في الحرب لا تثبت الأنظمة تفوقها الأخلاقي، ولا تتنافس في عدالتها بل بقوتها العسكرية وقدرتها القتالية، وهي لا تعتمد على طبيعة النظام السياسي السائد وحده. لم يبرهن لقاء بوش وبوتين في إحتفالات الذكرى الستين أن الجدل قد خمد وانتهى عملياً بدون أن يحسم نظرياً، وأن الصحافيين والباحثين أهدروا عقوداً على نقاشات عبثية، فحسب، وإنما أثار أسئلة أخرى طرحت على هامش الأكاديمية والفكر الغربي. فالانتصار على النازية لم يقض على الشر في العالم. ورغم أن الانتصار على النازية هو انتصار على شر، فإذا كان من يحتفل بذلك ليس سوى أمثال بوش وبوتين في موسكو، فهذا في حد ذاته إثبات ودليل قاطع الى أن الذين انتصروا ليسوا"الأخيار"، فالانتصار على شر هو خير بحكم تعريفه، لكنه ليس بالضرورة انتصار الأخيار، ولا هو انتصار على الشر بشكل عام. قال أحد فرسان"مدارس"ما بعد الحداثة، فرنسوا ليوتار:"النازية لم تدحض إنما أرديت برصاصة مثل كلب". أنا لا أوافق على صياغة ليوتار لسببين: من الممكن أن يفسر قوله على أنه كان يجب مناقشة النازية وليس إطلاق النار عليها، وأنا واثق بأنه لم يكن يعني ذلك، كما لا أوافق على أنه أُطلقت عليها النار وتم التخلص منها مثل كلب. ليت الأمر كان كذلك. فالنازية هاجمت واعتدت، وعندما دافعت دول العالم عن نفسها أبدت النازية مقاومة وقدرة قتالية عالية، وأدى كل ذلك إلى سقوط ما يقارب 60 مليون ضحية في وقت قصير نسبياً. يصغر الخيال الإنساني ويتلاشى أمام محاولة تخيل دلالات هذه الأرقام، كيف يمكن أن نبني تصوراً لمعاناة هذه الملايين من البشر؟ كل من أشار إلى استمرار خطر اسباب صعود النازية بعد الانتصار، من أمثال ليوتار ومن قبله أدورنو وهوركهايمر كتاب، جدلية التنوير وحانا أرندت كتاب، أصول الأنظمة الشمولية، وكتاب ايخمان في القدس وآخرين، لم يقصد طبعاً التقليل من قيمة الإنتصار على النازية، بل إن بعضهم كان من ضمن ضحاياها. لم تكن النازية قوة طبيعية غامضة ألمّت بالعالم الإنساني من خارجه، كما أن نعتها بكلمات مثل"الوحش"أو"الوحش النازي"الذي يتجاوز الإستعارة والمجاز إلى الإصطلاح، من شأنه أن يطمس هذه الحقيقة. هؤلاء كانوا بشراً، والبشر قادرون على القيام بمثل هذه الأعمال. لم تأت النازية من عالم ما قبل الحداثة المندثر، أو ما قبل التاريخ فاندثرت بعد النصر على المانيا النازية من العالم تاركة ذكرى مرة وإحتفالاً بالنصر، بل هي جزء من التاريخ الحديث. ولم تقم النازية ويصلب عودها في نظام إستبدادي آسيوي في بقعة نائية في الواقع"المشرقي"ذاته أو في الخيال الاستشراقي عن هذا الواقع، وإنما في مركز الحضارة الأوروبية. وفي هذا المركز لم ترسب مثل بقايا القرون الوسطى في إطار التاريخ الأوروبي نفسه كما بقيت اللاسامية الدينية، وإنما هي جزء من مرحلة النهضة والتنوير الأوروبيين، نشأت في الإطار الحضاري ل"المعرفة هي قوة"، و"أداتية العقل"، و"أداتية الإنسان"وتطبيق نظريات بيولوجية وجينيكولوجية على فهم التاريخ والمجتمع البشري، وتطور الدولة البروقراطية المطلقة، دولة الشرطة، وشعبوية الأحزاب التي استدعاها تطور النظام البرلماني مع مجتمع الجماهير، رفع قيمة الدولة لدرجة تصبح فيها ذات رسالة، وصنمية مفهوم الأمة يرافقه تذرير الأفراد، وإمكانية التفكير بصناعة الموت وتنظيمها بيروقراطياً، وإبادة شعوب بأكملها. ليست النازية نتاج فكر حديث علمي كاذب فحسب، وإنما حصيلة تنظيم حديث للمجتمع إلى درجة الهندسة الإجتماعية، إلى درجة محاولة خلق تطابق مطلق في الدولة الشمولية بين القومية والدولة والفرد والمجتمع. تطابق يتجاوز مصطلح المواطنة ويستبدل المواطن ب Volksgenosse، يمكن ترجمتها ك"عضوية في الشعب"، وهو في هذه الحال جماعة إثنية، وعضوية بالدم، وعقائدية إلى حد محاولة تطوير دين جديد، أي تديين الأيديولوجيا لتلتقي مع علمنة الدين الذي تحول الى مركز في الهوية التي يعبر عنها الدين الشمولي بشكل أكمل. لا يقتصر الشعب على مجموع المواطنين ولا حتى على جماعة تسعى الى تحقيق حق تقرير المصير، بل يرتفع الشعب في هذه الحال فوق الدولة وفوق المواطنين، والدولة تجسد رسالة، والقادة يمثلون العبقرية في روح الشعب التي لا تعبر عن نفسه في الإنتخابات وإنما في التجلي .Revelation لم تكن النازية ظاهرة تقليدية من باض بائد. والوحدة والتطابق اللذان تنشدهما، ليسا الإنسجام العضوي بين الإنسان والمجتمع والطبيعة الذي نفترض وجوده لفهم المجتمعات التقليدية، وإنما العكس هو الصحيح. فهي مثل أي أيديولوجية حديثة تنطلق من وجود الفصل بين الإنسان والمجتمع، وافترضت وجود الهوية مسألة، كقضية لدى الفرد الحديث، وافترضت إنفصال المجتمع الصناعي عن الطبيعة ومحاولة السيطرة عليها. ولكنها مثل أي رومانسية قومية أو أخرى، لم تعش بسلام مع هذا الفصل ومع هذه التمزقات، ولم تحاول خلق علاقات عقلانية أو منصفة بين العناصر التي انفصلت عن بعضها في الحداثة ووعيها كما حاولت النظريات الثورية والنقدية بغض النظر عن النظام الذي انتجته، وإنما حاولت أن تخلق من جديد، بالقوة، الوحدة بين الإنسان والطبيعة والمجتمع بواسطة العرق والدم والأرض والغابة في حالة ألمانيا ومناظر الوطن، وبين الإنسان والمجتمع بواسطة روح الشعب Volksgeist والتعبير السياسي عن ذلك كله في بؤرة عبقرية الفوهرر الزعيم. كانت مهمة إطلاق النار على الوحش الإستبدادي التوتاليتاري الذي نشأ، مهمة مصيرية للإنسانية، ومن الممكن رؤيتها كنصر مجيد، ولكن ليس أقل مصيرية أن نتذكر أن مركباتها وعناصرها متناثرة ومنتشرة ومتمازجة بحياة الدول والمجتمعات الحديثة دون أن يكفي أي منها على حدة ليبرر استخدام مصطلح الفاشية أو النازية"العنصرية والتطرف القومي لم يزولا، وكذلك فكرة أن الدولة ذات رسالة أكبر من الإهتمام برفاهية مواطنيها وأمنهم، وفكرة أن للدولة يجب أن يكون دور قومي أو تاريخي مقدس يتجاوز حدود المواطنة، وفكرة أن المواطنة المحسوبة هي عضوية في أمة سابقة عليها، في رابطة دم، وكذلك فكرة أن للشعب، كمصطلح سياسي، يوجد عرق، وأن الإنتماء للشعب هو إنتماء لعلاقة الدم، وأن لذلك كله دلالات سياسية. بعد النازية لم تعد الديموقراطية ممكنة إلا كديموقراطية ليبرالية، ولم يعد الاكتفاء بتعريفها كحكم الغالبية مفهوماً. وبعد النازية لم يعد بالإمكان الحديث بجدية عن نظام حقوقي متطور وعن ديموقراطية لا تضع المواطنة في مركزها، كعلاقة بين الفرد والدولة لا تمر عبر وساطة الشعب والقومية والطائفة والعائلة. ولكن من ناحية أخرى لم تدخل الدولة، وأقصد دولة المنتصرين ودولة المهزومين على حد سواء، المرحلة النازية وتخرج منها كما كانت، أي كأن النازية لم تكن. لقد تركت النازية أثراً كبيراً حتى في تفكير ضحاياها، وتركت لهم مصطلحات عديدة أكثروا من استخدامها، ويصعب ذكرها وتعدادها دون أن يشعر البعض بمهانة المقارنة. ولكن على كل حال الدولة في عالمنا بعد مرحلة النازية، وإن بدرجات متفاوتة، هي دولة بوليس. وكل الأحزاب البرلمانية باتت أحزابا شعبوية تعتمد على مخاطبة الجماهير باستخدام السجال والإعلام الجماهيري، والصورة بدل الفكرة والإثارة بدل الإقناع، وان بدرجات متفاوتة أيضاً. واحتلت الانطباعية، وجمالية السياسة، والمشهد وزنا أكبر في السياسة في كافة الدول بعد الحرب العالمية الثانية. يجب أن نتذكر أن النازية لم تكن ديكتاتورية متوسطة أو عادية من النوع الذي قام في جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية والعالم الثالث، بما فيه العالم العربي، مع نهاية عصر الإستعمار. فالنازية تتميز بأنها اسست نظاماً شموليا توتاليتارياً يجسد تماثلاً مطلقاً بين الفرد والمجتمع والدولة بواسطة الأيديولوجيا ونظام الحكم، الأمر الذي لم تنجح فيه أي دكتاتورية متوسطة من النوع الذي نعرفه في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، هذا اذا حاولت ذلك اصلاً. مع استثناءات مثل نظام بول بوت في كمبوديا وكوريا الشمالية الذي يخلط عناصر من الاستبداد الآسيوي مع الشمولية المنشودة التي تمكن منها أيديولوجية الحزب والدولة الحديثة المطلقة. ومع"حضور"المجتمع والدولة في صالون كل بيت بواسطة التلفزيون وما يسمى بوسائل الإتصال التي لا تحصى، فإن خطر نشوء مثل هذا التماثل موجود من دون أدوات ديكتاتورية تفرضه، فأدوات صنعه موجودة بشكل يفوق حتى خيال مفكري النازية، وفي المجتمع الحديث أكثر ما في المجتمع ما قبل الحديث، وفي غياب أدوات القسر أكثر مما في حالة وجودها. من المسموح، بل من الواجب الاحتفال بالإنتصار العسكري المجيد والمخضب بالدماء الذي حصل قبل 60 عاماً، رغم المعاناة الكبيرة التي انطوى عليها، لكن مهمة دحض النازية لا تزال مهمة مستمرة، لم تستكمل بعد. كاتب عربي.