لربما صح قول المتنبي"مصائب قوم عند قوم فوائد"، في وصف حال الحيوانات اللبونة، التي تسمى ايضاً الثدييات، في المرحلة التي تلت انقراض الديناصور. وثمة من يرى ان وجود الثدييات لم يتعاظم الا بعد العصر الطباشيري، الذي تميز بسيطرة الديناصور على الارض. وفي ذلك العصر، لم ينج من بطش الديناصور سوى حيوان لبون صغير الحجم، يشبه الفأر، لكنه من آكلي الحشرات. ويُسمى"الزبابة"Shrew. والارجح انه كان حيواناً ليلياً، لأن النهار كان عالم الديناصورات. ويمكن القول ايضاً، ان تطور الحيوانات اللبونة تلكأ طوال الحقبة الطباشيرية التي دامت أكثر من مئة مليون سنة، مع هيمنة قوية للديناصورات فيها. فجأة خف الضغط، واتيح لذرية هذه الزبابات، في غضون مرحلة جيولوجية قصيرة جداً، أن تنتشر وتتكاثر، لتسد الفراغ الذي خلفه انقراض الديناصور. انقرض الديناصور فتسيدت الثدييات كيف اختفى الديناصور؟ لا توجد اجابة محددة عن هذا السؤال. بيد أن هناك ما يشبه الاجماع حول وجود نشاط بركاني هائل في الهند التي كانت يومذاك جزيرة أو شبه قارة منفصلة عن آسيا، قذف حمماً غطت ما ينيف على المليون كيلومتر مربع، مما ترك أثراً كبيراً على المناخ. ويميل معظم العلماء راهناً للقول ان الضربة التي قضت على الديناصور، كانت أكثر مفاجأة واشد عنفاً. إذ يعتقد بأن جسماً من الفضاء نيزكاً أو مذنباً ضخماً اصطدم بالأرض. وكما يقول ريتشارد دوكنز، الذي نستقي هذه المعلومات من كتابه"قصة الأجداد"، الذي نُشر اخيراً، فان رجال البوليس السري يجمعون الأدلة من رماد السيكار وآثار الأقدام. والرماد هنا هو طبقة عالمية النطاق من عنصر الايريديوم في المكان المناسب من الطور الجيولوجي. والايريديوم عنصر نادر الوجود في القشرة الأرضية، لكنه متوافر في النيازك. والأثر الذي يشار اليه هو حفرة عرضها مئة ميل وعمقها ثلاثون ميلاً، في طرف شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك. إن الفضاء مليء بالكتل المتحركة، تتجول في اتجاهات شتى وفي سرعات مختلفة بالنسبة الى بعضها بعضاً. ولحسن الحظ أن معظم هذه الكتل الحجرية صغير الحجم، بحيث تحترق لدى اختراقها الغلاف الجوي للأرض. ولكن عدداً قليلاً منها، أكبر حجماً، لا يحترق كلياً، بل تبقى منه كتل صلبة تشق طريقها الى سطح الأرض. ومرة في كل بضع عشرة ملايين سنة، تصطدم بنا كتلة كبيرة جداً، فتحدث دماراً كبيراً. وبحكم سرعتها الكبيرة، تطلق تلك الأجسام الكبيرة طاقة هائلة عند ارتطامها بالارض. ويبدو أن كتلة القذيفة الفضائية التي قضت على الديناصورات كانت بآلاف الأطنان. وربما أصمّ صوت الارتطام، الذي أرعد حول الكرة الأرضية، كل كائن حي عليها. ومن لم يحترق بفعل الاصطدام، خنقته رجّة الريح، او أغرقه تسونامي بلغ ارتفاعه زهاء مئة وخمسين متراً من الموج الكاوي بحرارته المتسببة عن الارتطام. وتلى ذلك حرائق الغابات حول الكرة الأرضية، التي بعثت من الدخان والغبار والرماد ما حجب الشمس عن الارض. وحلت البرودة. وساد شتاء قاس يُقدر أنه دام سنتين، مما قضى على معظم النباتات والحيوانات التي تقتات عليها. لا عجب أن الديناصورات هلكت حينها، اضافة الى انواع اخرى، وخصوصاً الكائنات البحرية. وراهناً، تبقى الأرض معرضة الى مثل هذه الارتطامات أو الكوارث. ويتمثل الفارق بيننا وبين ديناصورات العصر الطباشيري، في أن علماءنا سيُنذروننا قبل حدوث مثل هذه الكارثة ببضع سنوات، أو شهور عدة على الأقل. والحال ان التكنولوجيا الراهنة لا تكفي لتفاديها. ولحسن الحظ أن هذا لن يحدث في المدى القريب. ولذا، فمن سداد الرأي أن تشرع البشرية في اتخاذ اجراءات وقائية، من خلال تطوير تكنولوجيا فاعلة. وتستطيع التكنولوجيا الراهنة الحد من تأثير الصدمة، من طريق تخزين كميات معينة من البذور، والحيوانات الداجنة والآلات بما في ذلك أجهزة الكومبيوتر وأرشيف من التراث الحضاري، في مخابئ ومستودعات محصنة تحت الأرض، مع بعض الناس من ذوي الامتيازات. وقد يثير الأمر الأخير مشكلة سياسية، بحسب رأي دوكنز. وربما تمثل الحل الأفضل في تطوير التكنولوجيا لتقدر على تفادي الكارثة، إما بتغيير مسار الضيف الثقيل أو تدميره. ويقول دوكنز إن من الاجدر بالسياسيين الذين يفتعلون المخاطر الخارجية راهناً، لزرع الرعب في نفوس انصارهم، أن يتوصلوا الى قناعة بأن ارتطام نيزك بالأرض يشكل خطراً حقيقياً . ولعله خطر اكثر اهمية من"امبراطورية الشر"و"محور الشر"المزعومين، أو الشبح الاكثر غموضاً،"الإرهاب". ولعلها مناسبة للدعوة الى تشجيع التعاون العالمي بدلاً من زرع بذور الشقاق. على أي حال، ففي البداية كانت هذه الكوارث الطبيعية تطاول جميع الكائنات الحية. وتُفني الكثير من الأجناس. ومن نجا من ذلك الارتطام الكارثي الآنف الذكر، دخل في سبات شتوي مديد. ثم حصدت الكائنات التي نجت الفوائد لاحقاً. والأهم، في حال انقراض الديناصورات، ان الكائنات الناجية وجدت نفسها بمأمن من خطر ذلك الحيوان الشرس. بعد الديناصور، عالم من التطور أعقب انقراض الديناصور، عصر ازدهار الحيوانات اللبونة. وهناك ثلاث نظريات لتفسير هذه الظاهرة. 1 نظرية الانفجار الكبير. وفي صيغتها المتطرفة تزعم أن فصيلة ثديية واحدة بقيت على قيد الحياة بعد الكارثة التي أهلكت الديناصورات. ثم أخذت ذرية هذه الفصيلة بالتكاثر والتشعب. 2 نظرية الانفجار المتواني. وتفيد بأن الثدييات شهدت تكاثراً انفجارياً كبيراً بعد الكارثة. بيد أن ثدييات الانفجار لم يحدث في فصيلة واحدة. فعندما تركت الديناصورات المسرح فجأة. فلربما استطاع العديد من الثدييات الشبيهة بالزّبابة، مواصلة الحياة. فتطورت احداها الى آكلة اللحوم، وثانية الى فصيلة الثدييات الرئيسية التي تضم القردة والبشر وهكذا. 3 النظرية اللاانفجارية. ولا ترى أن الكارثة التي اهلكت الديناصور، قد رسمت حدوداً فاصلة من اللاتواصل في تطور الثدييات. وتقول إن الحيوانات اللبونة تشعبت قبلها، وظلت تتشعب بعدها. وراهناً، تميل معظم الادلة التي يجمعها العلماء الى تأييد نظرية الانفجار المتواني. اذ تُظهر ان معظم التشعبات الاساسية في شجرة الثدييات يرجع الى عمق العصر الديناصوري. بيد أن معظم تلك الثدييات التي عاصرت الديناصورات كانت مشابهة الى بعضها بعضاً الى حد ما. ولعل جدها المشترك وُجد قبل مئة وخمسة ملايين سنة، أي لزمن مديد قبل تاريخ ابادة الديناصور. والمعلوم ان تلك الوحوش انقرضت قبل خمسة وستين مليون سنة. ويثير القلق راهناً أن ديناصورات جديدة، من نوع بشري هذه المرة، باتت تتحكم في مصير كوكبنا. وتلهث وراء مصالحها الأنانية الضيقة. فتفتعل أخطاراً وهمية، أو من صنعها، كبعبع الإرهاب. وتتناسى أخطاراً حقيقية، كالتي تنجم عن تلوث البيئة والترسانات النووية. وتتراخى في مواجهة أخطار أخرى، قد تنقض فجأة من اعماق الفضاء، فتهدد البشر بمثل الفناء الذي ادى الى انقراض الديناصور.