الأمسية التي أحياها الشاعر السويدي الكبير توماس ترانسترومر في دمشق الأحد الفائت وفي بيروت أمس الثلثاء، برفقة الشاعر أدونيس، كانت حدثاً أدبياً في كل المقاييس. فالشاعر ينتمي إلى صنف الشعراء الكبار، العابرين للثقافات، ممن ترجمت أعمالهم إلى معظم اللغات الحية. صحيح أن الشلل النصفي الذي أصابه قبل خمسة عشر عاماً، وأجهز على ملكة النطق لديه، حرم جمهور دمشقوبيروت من سماع صوته في الأمسية التي أحيتها دار"بدايات"السورية، بالتعاون مع المركز الثقافي السويدي في مكتبة الأسد، احتفاءً بظهور الترجمة العربية للأعمال الكاملة للشاعر، والتي نقلها عن السويدية الصحافي الزميل اللبناني قاسم حمادي، وراجعها وقدّم لها أدونيس، إلا أنّ قصائده المترجمة إلى العربية للمرة الأولى، أضاءت الليل السوري، وقام أدونيس بدور مضاعف، فإضافة إلى مراجعة الترجمة كتابةً، كان عليه أن يقرأها إيقاعات وصوراً، فكان المنقّح والموزّع، تدويناً وتجويداً، يلقي القصائد التي نقّح كناياتها، ويبثّ فيها شيئاً من روحهِ، جامعاً بين الكلمة ورنينها، متكلماً بلسان الشاعر الصامت، ترانسترومر، الذي جلس على كرسيه النقّال في الصف الأمامي من القاعة، مصغياً الى صوت أدونيس، الذي أعلن قبل أن يبدأ قراءته، انحيازه الى اللغة العربية التي تتبدّى عبقريتها، بحسب رأيه، بتفوّقها"الشعري"على غيرها من اللغات، نادباً في الوقت ذاته، وضعها الحالي بسبب تردّي حال الناطقين بها. ووسط صمت الجمهور الكبير الذي غصّت به قاعة مكتبة الأسد الوطنية، وفي حضور وزير الثقافة محمود السيد، قرأ أدونيس مختارات من قصائد الشاعر، بعد أن افتتحت الأمسية زوجةُ الشاعر، مونيكا ترانسترومر، بقراءة بعض من قصائده مباشرة باللغة السويدية. أما في بيروت، فقدّم أدونيس الشاعر أيضاً تنشر كلمته غداً الخميس في"الحياة" في مسرح المدينة وقرأت معه الممثلة نضال الأشقر قصائد مختارة من الترجمة نفسها، وكانت القراءة بصوتي أدونيس والأشقر متناغمة وحلّقت الأشقر كعادتها بما قرأت مستخدمة البعد الأدائي الجميل. وتحدث في الاحتفال أيضاً الزميل قاسم حمادي معرّفاً بالشاعر وسيرته. في كلمته الموجهة إلى القارئ العربي، يشير ترانسترومر إلى أنّ"الشعرَ الأصلَ هو في حدّ ذاته ترجمة،"وأنّ القول الشعري"بيانٌ لقصيدة غير مرئية خلف اللغات المتعارف عليها،"مذكراً بنظرية الألماني والتر بنيامن عن حياة أخرى للنص بعد الترجمة، والتي هي امتداد لحياته الأولى، ولتاريخ متواصل من الترجمات الخفية، يتعرّض لها في كل قراءة جديدة، ليس أقلها الترجمة بالطبع، ذلك أن النص يعانق صورته الجديدة بفعل قوة التحوّل الكامنة في بنيته المجازية، القائمة على حركية الدوال واختلافاتها. فالترجمة، من هذا المنظور، ليست تجاوزاً للأصل، بقدر ما هي تجسيد آخر لطاقة خبيئة كامنة فيه، لأنّ الأصل منزاحٌ لتوّه، يتجاوز نفسه باستمرار، ويتوقّف عن كونه أصلاً أصيلاً، في كل عملية قراءة أو تأويل، ما يجعل هويته مركبةً ومتداخلةً. من هنا يرى ترانسترومر قصيدته ذاتها إفصاحاً أقرب إلى الترجمة، وهي بالتالي عصية على التأصيل، لا يمكن الجزم بمعانيها نهائياً، وإن جاءت الترجمة العربية لتضيف بعداً جديداً لها، وتوسّع من أفقها، بصفتها، الآن، ترجمة للترجمة، وهذا ما يجعل المختارات"العربية"- التي قاربت صفحاتها الخمسمئة - بؤرةً عميقة الغور، سحيقة القرار، غنية المواضيع والأساليب، لنصوص منشورة بين العامين 1954 و1990، كما يفسّر امتداح أدونيس للنص العربي في مستهلّ كلامه. في تقديمه للشاعر، يركّز أدونيس على تقاطع لحظتين مفصليتين في النص، أولاهما تشدّ القارئ إلى الصرامة الكلاسيكية، والثانية ترمي به في مهب الحداثة، وهذا يؤجّج جدلية الأليف والغريب في كل قصيدة. في قصيدة"غوغول"التي قرأها أدونيس بانسجام غنائي، نلحظ التكثيف على أشدّه، وهي خاصية الإيجاز المقترنة بالمجاز، بحسب تعبير أدونيس. في المقطع الافتتاحي يقول ترانسترومر:"السترةُ باليةٌ كمثل قطيعٍ من الذئاب./ الوجهُ رخامٌ./ يجلس وسط رسائله في غيضةٍ تئنّ أخطاءً وسخريةً/ وقلبهُ يطيرُ كمثل ورقةٍ في الممرّات القاحلة". لعلّ هذا الوصف تفكيكٌ بالصور لروح غوغول ومزجٌ بين البصري والنفسي في رسم شخصيته. في المقطع الثاني، يتخطّى الشاعر وصف الشخصية، ذاهباً إلى تخوم اللامرئي، لتصبح الصورة المتشكّلة بمثابة"فجر الكلام"حقاً، كما يشير أدونيس، مقتبساً غاستون باشلار. وفي المقطع الثاني من القصيدة يكتمل الفجر أو الغروب بقول الشاعر:"يتسلّلُ الغروبُ الآن كثعلبٍ على هذه الأرض/ ويشعلُ العشبَ في لحظة."كأن الغروب الذي يشعل العشب ليس سوى شفق الروحِ الغاربة، يصبغُ المرئي- العشب، بضوء الانخطاف الداخلي، وهذا بالضبط ما يقصده أدونيس حين أشار إلى أن شعر ترانسترومر يتيح لنا أن نرى"كيف أن المرئي واللامرئي تركيب واحد تنبعث منه ذاتُ الشاعر، كأنها عطرٌ يفوح من وردة العالم". هذا الغوص في شغاف اللغة الحية، التي تلتصق بالجمال الحي، وتتجنب الابتذالَ معنى ومبنى، من جهة معانقة المجاز الصافي، نلمحه أيضاً في قصيدة"تأمّل مضطرب"حيث يقترب الشاعر من إيجاز قصيدة الهايكو المشدودة كوتر، مطلقاً شرارة المعنى في عتم الجملة البسيطة المعقدة، حيث الحكمة مقطّرة، مصفّاة، تجمع الرصانة بالمرونة، والشفافية بالكثافة:"عاصفةٌ هوجاء تحرّكُ أجنحةَ الطاحون/ بوحشيةٍ في عتمة الليل./ وتطحنُ العدمَ./ تلك هي القوانين التي تسلبكَ النوم". ونسأل ما هي هذه القوانين التي تسلبنا النوم، وتحيل الكائن إلى حجر تحت نظرات ميدوزا الغامضة. في المقطع الثاني يصف الشاعر رحلة غامضة باتجاه لحظة أزلية، تتجمّد فيها الكينونة، أو ربما تخرسُ فجأة، متحولةً إلى حجر:"الطحالبُ لوّنت عكازكَ بالخضرة/ الراحلُ في البحر، يعودُ من جديد، متحجّراً". هذا الراحل المتحجّر يرمي المعنى في الغرابة، ويقرّب الدلالة من معنى المعنى، وهو الأسلوب الذي أطلق عليه البلاغي الروماني لونجينوس الرفعةَ أو السمو ونلمحه متجسداً في عودة الراحل، متحجّراً، إما ليدخل أزلية الفن وخلوده، متحوّلاً منحوتة، وإمّا لينام في سرير العدم، إنساناً محكوماً بعقارب الساعة. في قصائد ترانسترومر إذاً، يتجاور الواقعي والرمزي، وتبرز في كثير من الأحيان النزعة الرومنطيقية، التي تتجلى في وصف الطبيعة، وجعلها خلفية غنائية للكثير من قصائده، ناهيك بصفاء سريرة تعود بنا إلى فكرة البراءة الأولى في قصائد ووردزورث وبايرون وشللي وكيتس. لكن المؤكّد أيضاً هو أن هذه النزعة المثالية جاءت من طريق شاعر السويد الآخر، الحائز جائزة نوبل في العام 1974، هاري مارتنسون، صاحب القصائد الغنائية الرائعة التي تحتفي بالطبيعة وكائناتها، ومؤلف الملحمة العرفانية الشهيرة"أنيارا". وقد التقى الشاعر ترانسترومر مواطنَه مارتنسون أوائل السبعينات، قبل انتحار هذا الأخير عام 1978. قد يكون الشلل اختطف لسان الشاعر، لكنه لم يستطع أن يمس صوته الشعري الذي قرأناه بصوت زوجته ثم مترجماً بصوت أدونيس، بنبرة تبدو كأنها إيقاع اللحظات التي نعيش. لعل المرض منحه قوة إضافية للسفر مع قصائده المترجمة إلى معظم لغات العالم، حاصداً أرفع الجوائز الأدبية، هذه القصائد التي جعلته، كأدونيس، مرشحاً دائماً على قائمة جائزة نوبل. وها هو لا يزال يكتب القصائد بصمت، أو يمليها على زوجته، مونيكا، همساً، ويستمرّ بعزفه على آلة البيانو بيدٍ واحدة، مثل طائر خرافي، يحلق عالياً في سماء الكتابة، مشفوعاً بجناحٍ وحيد، وأفق لا نهاية له.