لم يكن الجادرجي رجل سياسة، بحسب التعريف الجاري للسياسة، أي تكريس الجهد السياسي لتحقيق ما هو ممكن إنجازه لمصلحة الأمة، وإنما كان رجل تأجيج ضد السلطة فقط، ومعارضتها، حقاً أو باطلاً، ومن دون طرح البدائل العملية، وتمييز ما هو سيئ وما هو حَسن، باعتبار السياسة فن الممكن. ومثالاً على ذلك دعوته لتأميم النفط، يوم قامت الحكومة العام 1952 بعقد اتفاق ما يسمى بمناصفة الأرباح مع شركات النفط أنظر"مذكرات الجادرجي"، طبعة 1970، الصفحات 573-579. ومَنْ يعرف طبيعة صناعة النفط آنذاك، وسيطرة الشركات السبع على نفط المنطقة بموجب امتيازات النفط، يدرك كم كانت هذه الدعوة مستحيلة. فبمقتضى تلك السيطرة كانت تجارة النفط الخام عملية تبادلية، تجري داخل شبكة تلك الشركات، أي لا وجود لسوق حرة لبيع النفط الخام، كما هي الحال في الوقت الحاضر. وبذلك تعني عملية التأميم انتحاراً اقتصادياً للعراق، الذي يعتمد على عائدات النفط بنسبة كبيرة. لقد جرى ذلك في إيران، حيث عملت الشركات على مقاطعة النفط المؤمم، وعدم استطاعة الحكومة تصديره. كانت الشركات تتعاون، في ما بينها، في شكل يمكنها من أن تنقل نشاطاتها من بلد منتج إلى آخر، في وقت لا توجد سوق دولية، كما هي الحال الآن. وكانت تجارة النفط وقتها متداولة بين هذه الشركات، لتحكم سيطرتها على إنتاج النفط الخام في العالم، خارج الاتحاد السوفياتي وأميركا. وهذا ما جرى في إيران إثر قيام مصدق بتأميم النفط، إذ كان في وسع الشركات ومن ورائها حكومات قوية، أميركية وبريطانية وفرنسية، مقاطعة النفط الإيراني وتجميد صناعته، والتعويض عنه من أماكن أخرى مثل الكويت والسعودية، الأمر الذي أدى إلى انهيار الاقتصاد الإيراني، وسقوط حكومة مصدق على ايدي الاستخبارات المركزية الأميركية. وورد في مذكرات الجادرجي صفحة 616 أن نائباً عمالياً في مجلس العموم البريطاني سأله: هل فكرتم في طريقة بيعكم للنفط في حالة تأميمه؟ فكان جواب الجادرجي:"نبيعه في السوق العالمية عرضاً حراً، علماً انه لم يكن هناك وجود لمثل هذه السوق في العالم آنذاك! إن المناداة بتأميم النفط آنذاك، إنما هو عمل سياسي غير مسؤول، وغير ممكن التحقيق عملياً. إلا أن من شأن هذه المناداة تأجيج الرأي العام، الذي يجهل هذه الأمور. وتظهر لا مسؤولية العمل السياسي للجادرجي جلياً في القضية التي حُكم من أجلها بالسجن ثلاث سنوات، وبسبب جهل الناس، ولا مسؤولية السياسيين في المعارضة العراقية، أصبح الجادرجي آنذاك ضحية للنظام الملكي، وبات أسطورة سياسية. القضية التي أدت إلى سجن الجادرجي هي أنه أبرق برقية من القاهرة إلى مجلس الأعيان والنواب في العراق، يتهم فيها الحكومة العراقية بتصدير النفط إلى إسرائيل، من طريق أنبوب النفط في حيفا. ومعروف لكل مطلع بسيط، في أمور النفط، أن خط حيفا أُقفل إثر قيام دولة إسرائيل العام 1948، مما جعل الحكومة العراقية تطلب من الشركات تحويل صادرات النفط العراقية إلى البحر الأبيض المتوسط، من طريق بانياس في سورية وطرابلس في شمال لبنان، الأمر الذي جعل التهمة التي أوردها الجادرجي في برقيته من باب القذف والحط من سمعة الحكومة، واتهامها بتهم غير حقيقية، يعاقب عليها قانون العقوبات بالحبس ثلاث سنوات. كان الحكم على الجادرجي قضية قضائية، وليس قضية سياسية، سببها احتجاج الجادرجي على تعاون حكومة نوري السعيد مع بريطانيا، وشركات النفط، كما بين محرر مذكراته في تاريخ الحزب الوطني الديموقراطي نصير الجادرجي، صفحة 15. صدر الحكم على الجادرجي وفق المادة السادسة من الباب الثاني عشر من قانون العقوبات، وتنص على السجن مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات على كل مَنْ أذاع أخباراً كاذبة في وسائل النشر، ويعلم بكذبها، أو أذاع أخباراً قصد بها التضليل، أو إضعاف الحكومة. وكان نص البرقية التي بعث بها الجادرجي إلى مجلسي الأعيان والنواب"إنزال العقوبة في حق المتآمرين، الذين ارتكبوا الجناية العظمى بالسماح للبترول العربي في العراق أن يتدفق إلى حيفا لتستخدمه إسرائيل والإنكليز والفرنسيون للقضاء على الأمة العربية"مذكرات الجادرجي، طبعة 1970، الصفحة 655. أثارت هذه القضية ضجة إعلامية كبرى، وعلى الخصوص عن طريق التضليل الإعلامي من قبل جمال عبدالناصر، والسياسيين العراقيين المعارضين، الذين لم يجرؤ أحد منهم على كشف الحقيقة. فإذا كان الجادرجي يعرف حقيقة خط أنابيب النفط، ويتهم الحكومة زوراً بتصدير النفط إلى إسرائيل فتلك مصيبة تشير إلى قدرة فائقة على التضليل. وإذا كان يجهل ذلك فالمصيبة أعظم بالنسبة لرئيس حزب ذي سمعة كبيرة لدى الطبقة المتوسطة، وهو يجهل حقائق بسيطة عن أهم مرفق اقتصادي للبلد. لم يستطع الجادرجي الدفاع عن نفسه، بل حول دفاعه إلى مسألة لا علاقة لها بالقضية وهي السعي إلى اتهام نوري السعيد بالاعتراف بإسرائيل! التسلط والفكر السياسي إن الصراعات السياسية في العراق التي تعكس نزعة فردية تسلطية هي التي أدت الى الكوارث التي نعيشها الآن. كثيراً ما يعتقد السياسي العراقي أنه على صواب، وأن الآخرين على خطأ. لذا فقدرته على الحوار والوصول إلى الحلول الوسط أو حلول التوافق تبدو صعبة للغاية. لقد أشار ما جرى في ثورة تموز يوليو العام 1958، وما بعدها، بوضوح إلى قدرة السياسيين العراقيين على فرض آرائهم على الآخرين، ولو باللجوء إلى العنف، أو سفك الدماء. بعد أيام من الثورة نشأ صراع بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، وجاء البعثيون بشعار الوحدة الفورية مع مصر، وهو شعار سياسي قابل للحوار بالطرق السلمية، ولكن حزب البعث الذي كان طرفاً صغيراً في الجبهة الوطنية العام 1957 اتجه إلى العنف لفرض هذا الرأي السياسي، وذلك في محاولة قتل عبدالكريم قاسم عام 1959. وكان الشيوعيون، من جانبهم، يرددون شعار الاتحاد الفيديرالي، وليس الوحدة الفورية. ومارس الشيوعيون العنف أيضاً، وسفك الدماء واللجوء إلى لغة الحبال لمحاورة الطرف الآخر، مما أفسد أهداف 14 تموز. وحاول القوميون، من ناحية أخرى، التعبير عن رأيهم في موضوع الوحدة مع مصر في محاولة الانقلاب على عبدالكريم قاسم، ما كانت تسمى حركة الشواف في الموصل. وكانت حصيلة تلك السياسات صراعات دموية وعداوات عميقة، في مسألة هي مسألة سياسية نظرية في جميع الأحوال. ولم يقم القوميون، حتى بعد استلام السلطة في زمن عبدالسلام وعبدالرحمن عارف، بأي خطوة باتجاه الوحدة مع مصر. لكن كان التفرد بالرأي، والتسلط على الآخرين، واستعمال العنف، واللجوء إلى الأعمال اللاقانونية هي السائدة في الحوار السياسي، وليس التفاوض، أو المحاورة السلمية للوصول إلى نتائج مرضية لكل الأطراف. ويفسر هذا حلول التدهور الكبير بوصول صدام حسين إلى السلطة. إن ما ذكرناه بشأن تسلط نوري السعيد، واستعماله العنف والقوة من جهة، وتسلط الجادرجي على حزبه من جهة، مجرد أمثلة تعكس حالات تطرفية، ولكنها تشير إلى أمر موجود في الفكر السياسي العراقي. فلسان حال السياسي العراقي يقول: أنا أفكر هكذا وإذا خالفتني في الرأي إذاً أنت عدوي، ومن حقي أن اتهمك بالعمالة وبالفساد، وإلى آخره من التهم، والتشنيع بالطرف الآخر! لمجرد أنه لا يقبل، أو يعتمد في رأيه على نظرية أخرى. يبدو أن التعايش السلمي السياسي في العراق في غاية الصعوبة، وأن تاريخ هذا البلد، حتى في العهد الملكي، كان يشير إلى مدى العنف، وعدم وجود الاستعداد للتعايش بلا عنف. ففي ذلك العهد مثلاً كان الصراع على السلطة يجعل السياسيين يمارسون أعمالاً غير مشروعة، وإلى حبك مؤامرات، وإثارة النعرات الطائفية، أو العشائرية، ثم سحقها بعنف. الكل يعرف ما كان يسمى مؤتمر الصليخ، الذي كان في الحقيقة برعاية رشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان وغيرهما، ودوره في إثارة العشائر في الجنوب، ثم سحقها من قبل بكر صدقي سحقاً دموياً. هناك قضية الآشوريين واللجوء إلى القسوة المتناهية في القضاء على الحركة، وهي قضية يمكن التفاوض بشأنها سلمياً. لكل ما تقدم، لا بد من أخذ هذه الحقائق في الاعتبار عند الحديث عن إمكان تحقيق الديموقراطية في العراق، واستعداد الفكر السياسي العراقي في دعم حكم ديموقراطي قابل للديمومة والحياة. لا بد من تربية ديموقراطية لدعم السلوك الديموقراطي قبل الحديث عن الديموقراطية كشعار. منذ دخول القوات الأميركية العراق، وتأسيس ما كان يسمى مجلس الحكم تحت إشراف بول بريمر وتوجيهاته، ظهرت معالم زيف الفكر الديموقراطي العراقي. تم توزيع عضوية المجلس على أساس طائفي بإعطاء ثلاثة عشر مقعداً للشيعة، من أصل خمسة وعشرين مقعداً، بصفتهم طائفة الغالبية السكانية، وليس على أساس حزبي انتخابي. وخمسة مقاعد للطائفة السنية. وهكذا تم تقسيم المجلس ضد تحقيق مجتمع مدني، وهو الشرط الأساس للنظام الديموقراطي. واختير الأعضاء من جانب سلطات الاحتلال، ليس على الجدارة، وإنما تعيين أشخاص عينوا أنفسهم بأنفسهم ممثلين لما يسمى الأطياف السياسية في العراق، وكأن الأمر محاصصة وتوزيع مكاسب لأشخاص، لم يتم انتخابهم، حتى من جانب الأحزاب أو التكتلات التي يعودون إليها. تكرست البداية اللاديمقراطية في تشكيل المجلس بشكل أوضح عند تأليف الحكومة الموقتة، فتم توزيع المناصب الوزارية على أساس المحاصصة في مجلس الحكم، بعيداً من الكفاية والمهنية والجدارة. تشكلت الوزارات على أساس طائفي وعرقي: الوزارة الفلانية تكون للشيعة، وأخرى للسُنَّة، وثالثة للأكراد. والأدهى من ذلك، أن الوزير المعين، كممثل للشيعة مثلاً، أخذ يملي المناصب الرئيسية في الوزارة من أبناء الشيعة، وكذا الحال بالنسبة إلى السني. فانتهى الأمر بتعيين وكلاء وزارة ومديرين عامين أقرب إلى الأمية، ومن دون أي خلفية مهنية، إنما مجرد لأنهم تابعون لكتلة معينة. وكذا الحال بالنسبة لتعيين السفراء، على أساس المحاصصة، لا على أساس المؤهلات اللازمة لتعيين السفير، من حيث الخبرة والخلفية المهنية. كل هذه الإجراءات مناهضة للديموقراطية، وهي أقرب إلى التكالب على توزيع المكاسب، وتقسيم المجتمع العراقي على أساس طائفي، تلعب فيه العلاقات الشخصية دوراً أساسياً، مما يعكس تدهوراً مهنياً لم يكن موجوداً بهذه الدرجة حتى في زمن صدام، حيث الجزء الأكبر من الوزراء والسفراء كان يتمتع بمؤهلات مهنية أعلى بكثير من الوضع الحالي. إن هذا التوزيع على أساس المحاصصة يظهر بشكل واضح زيف شعار الديموقراطية، الذي تتبناه هذه المجموعات، وهي واجهة الحكم في العراق، من دون أي اعتبار لمتطلبات الديموقراطية وفي مقدمها الانتماء للوطن، والمجتمع المدني، وليس الانتماء للطائفة أو العرق. إن الخطورة الحقيقية، في عملية توزيع الحصص على أساس طائفي، هي انتشار النعرات الطائفية، وتفكك المجتمع العراقي على أساس طائفي، وتفكك العراق ككل. لقد كرست الانتخابات التوزيع الطائفي والاثني، ولم تكرس الانتماء للوطن. فالعراقي الكردي صوت في الانتخابات بصفته كردياً، وليس بصفته عراقياً، وكذلك الشيعي دخل الانتخابات بصفته شيعياً، والسني امتنع عن التصويت بصفته سنياً، وليس عراقياً. إن ولاء الفرد العراقي، قبل مجيء صدام إلى الحكم، كان على أساس سياسي، من دون أي اعتبار للمذهب، أو الدين. فالعراقي سياسي بطبعه، وانتماؤه كان على أساس المدارس السياسية. تجد في الحزب الواحد، خصوصاً في الحزب الشيوعي، الشيعي والسني والعربي والكردي والمسيحي والمسلم، جنباً إلى جنب، وولاؤهم للحزب وليس للدين أو المذهب. وفوق هذا وذاك، فإن استشراء الفساد في العهد الحالي وصل إلى درجة لم يشهدها العراق من قبل. لقد انهار النظام المالي، وانهارت الدولة، وأصبح التصرف بأموالها غير قانوني. أخذ الوزير، أو وكيل الوزارة، يتصرف بأموال الدولة من دون الرجوع إلى أي نظام. والشاهد على ذلك ما قام به وزير الدفاع السابق باستلام مبالغ تتعدى 200 مليون دولار نقداً من البنك المركزي، تم إرسالها إلى بيروت بالطائرة، بدلاً من إجراء تحويلات مصرفية قانونية. غير أن عودة المبلغ إلى العراق لا يغير من الفضيحة الأساسية، وهي أن وزيراً في الدولة يأمر البنك المركزي وموظفي البنك المركزي بشكل يخالف القانون، مما يعني أن ليس هناك أدنى شعور بمسؤولية مالية أو قانونية في التصرف بأموال الدولة. والمعروف الآن أن عدداً كثيراً من المسؤولين لا يوقعون عقداً من العقود مع الشركات الأجنبية، من دون الحصول على عمولة. إن الحديث عن الديموقراطية في مثل هذه الأجواء هو حديث خرافة وزيف. لا يهتم العراقيون، في الوقت الحاضر، إلا بتوفير الأمن والأمان والخدمات الأساسية، وإيجاد فرص العمل. فنسبة العاطلين من العمل تبدو هائلة، ومعالجة مشكلات الفقر، والكهرباء والماء. مما يجعل الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء حقيقي، على رغم مرور فترة طويلة على وجودهم في الحكم. ختاماً، يتكلم العراقيون عن الديموقراطية عندما يكونون في المعارضة، وينسونها عندما يأتون إلى الحكم. يتكلمون عن الديموقراطية كشعار، ولكن عند الممارسة الفعلية هم غير ديموقراطيين. ولهذا السبب لا بد من إيجاد نوع من البدائل السياسية في العراق، ليس بالضرورة أن تكون ديموقراطية بالمعنى الحقيقي، بل نظاماً يسوده القانون، وتسوده ضمانات لحقوق الإنسان. وما يهم البلد في الحقيقة، هو إنقاذه من الكوارث الاقتصادية التي مر بها. ورد في جريدة"اللوموند"الفرنسية، تقرير من مراسلها في بغداد، إثر زيارة قام بها إلى مدير مدينة الثورة الصدر، حيث سأل أحد المواطنين عن رأيه في الديموقراطية، فكان الجواب:"أي ديموقراطية؟ هذا شيء يخص المترفين! مشكلتي أنني من دون عمل أكسب منه لمعيشة عائلتي ولتعليم أطفالي!". تكشف إجابة المواطن عن واقع اليوم. فلا معنى للحديث عن الديموقراطية في وجود جوع وبطالة وعدم توافر الخدمات الأساسية للمواطن، ناهيك عن الأمان. * كاتب عراقي.