لكن ما المثقف كما تقدمه الروايات الثلاث وكما تضعه الرواية الأخيرة أمام الامتحان؟ ليس مجرد العارف، ولا يكتمل تعريفه بالقول إنه العارف الملتزم المناضل من طريق المعرفة والتعبير والموقف. وهي كلها من صفات المثقف، لكنها ليست المعيار الحاسم في تحديد هويته وماهيته وموقعه في مجتمع ما. المثقف أو المثقفون هم الذين يحضرون في مجتمعاتهم بقوة الفعل الثقافي كوعي للذات والتاريخ، كمعيار لتحديد الصواب، كمعيار أخلاقي معرفي مبدئي معترَف به، أو له وزنه ويقدر على الوقوف ندّاً، أو على الأقلّ كصوت مسموع فاعل أو محاور إزاء السلطات الواقعية أو المعيارية العملية الميدانية من رجال أحزاب وميليشيات وحتى من حكام وقضاة أو رجال دين. وهذا يوصلنا إلى القول إنّ خطّ الصراع الذي ترسمه الرواية ليس أبداً خط الصراع بين جبهتي القتال في تلك الحرب"أي لم يكن ذلك الخط القائم بين منطقتين وسياستين. بل على العكس تماماً يصبح خط القتال أو ما سمي يومذاك"خطوط التّماسّ"مجرد خطّ المرآة الذي يدلّ على التناظر أي على حضور وضعية مماثلة وعلاقة مماثلة في الطرف الآخر بين المثقف والميليشياوي"ويدلّ على أنّ الصراع الذي تتناوله الرواية يقوم هنا كما يقوم هناك بين الرؤية التاريخية الفكرية للمثقف والمفكر السياسي ومقارباتهما من جهة، وبين رؤية التشكيلات السياسية ذات المصالح والقوى الميدانية والشارعية من أحزاب وتنظيمات وميليشيات بمطامعها المباشرة أو غير المباشرة وجمود رؤيتها وقصر نظرها التاريخي والفكري والإنساني من جهة ثانية. أما تناول المشكلة في منطقة دون غيرها فهو جزء من بنية الثلاثية التي منذ البداية حركت مجموعة أشخاص من بيئة واحدة وأحوال مختلفة، نشأوا معاً، تقاربوا زمناً أو تخاصموا، ثم تحركت حياة كل منهم في مجرى مختلف ورسمت مسارها المختلف. وها هم في"الظلّ والصدى"يقفون أمام الحرب مواقف مختلفة. إن سؤالاً كبيراً من الأسئلة التي ستطرحها رواية"الظلّ والصدى"هو: من الذي قال كلمته في الحرب؟ أو من حدّد ضرورة الحرب؟ أو من الذي علا صوته وحدّد معيار الصواب؟ وما كان مصير المثقفين في الحرب وفي الأحزاب، ومصير كلامهم؟ بهذا المعنى كانت الحرب امتحان المثقف وقدرته على ضبط مارد الردود الغريزية الذي انطلق أساساً من بؤر النشاط الحزبي، مع أنّ المثقف هو أبو الحزبي. وإذا كانت القيادة الحزبية همّشت أنسي المثقف في رواية"لا تنبت جذور في السماء"لمّا قام بمبادرة يوقن بصحتها، فإنّ الميليشيات، أي التشكيلات التي يتحكّم بها منطق القوة والسلاح والعلاج الباتر، ستقتل المثقف أو تجعله خارج الفاعلية تماماً. فمن هو الذي استشار جرجي الحماني مثلاً على رغم الاعتراف بقيمته ورسوخ حضوره كمؤرخ وكاتب نهضوي؟ بل من أصغى إليه أيام كان يحذّر من الهجرة؟ وهكذا فالرأي الأكثر فاعلية في الحرب كان رأي أشخاص من خارج عالم الثقافة والفكر، أشخاص مثل أسمر تاجر السلاح والمبشر بالعنف. وأبعد من سؤال الحرب السؤال عن فاعلية المثقف والثقافة في الحياة العامة. ومشهد تحجيب اسكندر للأعمال الفنية أو تكفينها مع بداية الحرب كان إشارة أخرى إلى موت الثقافة أو عطالتها والغربة الكاملة لقيمها أو عقم لغتها أو غياب مُحاور لمعانيها. وهكذا عندما قدّم اسكندر لأنسي التمثال الفني الأثري الثمين لم يستمع إلى ما كان يقوله هذا الأخير حول تاريخه ومعانيه وخصوصية فنه، لأن كل ما قاله أنسي لم يعد له وزن ولا صدقية، في ذلك المناخ، ولا مرجع أو صدى أو علاقة"فقد كان اسكندر، اليائس من كل معنى وقيمة، يقدّم عملياً لصديق الأمس، ليس قطعة فنية، بل مجرد مبلغ مالي ضخم يشتري به حريته ويسافر. وهذا ما آلت إليه قيمة التحف الفنية والقطع الأثرية في الحرب. وهذا التلخيص أو التحويل لقيمة التمثال والأعمال الفنية والأثرية إجمالاً إلى قيمة مالية محضة هو ما تصفه حنة آرندت في كتابها"أزمة الثقافة"La crise de La Culture بتفريغ القيم، وهو تفريغ يسم الحروب وأزمنة السقوط. هذا المفكر أو المثقف الذي يقارب العالم والمشكلات بالرؤية الفكرية الإنسانية التاريخية قد أُسقط كلامُه أو فكره ليصل في ختام الأحداث إلى النتيجة المنطقية وهي الموت مقتولاً. أما المثقف الثاني، وهو أنسي، الشيوعي السابق، التائه بين مطلقاته، الله، الحزب، الحبيبة، فقد عاد إلى الحزب مع بداية الحرب كلجوء، كملاذ وحيد ممكن وسط العبث، ولأنه لا يتصور العودة إلى طائفته أو قريته التي يختلف عنها سياسياً وفكرياً"عاد إلى خط الحزب المقاتل محاولاً أن يبتكر لنفسه مسوّغات. ثمّ لم يلبث أن اكتشف أنه يخدع نفسه ويكتب عن الحرب طوباويات لا معنى لها ولا إمكان ولا صدقية على أرض الواقع"لأنّ الفقراء على طرفي خط الصراع المسلّح هم الذين يتقاتلون، وهم الذين يموتون، وليست مصلحة الفقراء أو الكادحين هي ما يرسم ذلك الخط. ولمّا أراد التوقف عن الكتابة ضدّ قناعته بدأت المشكلة. طُلب إليه أن يعمل على المدفعية، أي طلب إليه التنفيذ الأعمى. وهو ما يعني أن يصبح تماماً في الموقع المناقض له كمفكر. ولهذا توجب أن يهرب. وهو على كل حال كان انهزم كمثقف. وإلى حد ما هذا مصير خليل والد يوسف وكاتب القصة الذي لا شأن له في الحرب. لكن الحرب ستأخذه ويقتل على الحواجز قتلاً أعمى لمجرد أنه والد يوسف أو لأنه من حي آخر. والمونسنيور المعروف الذي تكلّم بتعالي المعلّم إذ يوبخ تلاميذه قتل داخل ما اعتُبر"منطقته"لمجرد أنه لم يخضع لأوامر الفتيان على الحواجز. والإشارة هنا واضحة تقول: في الحرب"السلطة والقول الفصل هما لمن يحمل السلاح"، أو"الحرب عمياء". لكن خاصة لتقول"الحرب تبدأ بقتل الأب". والرواية ستنتهي بقتل اسكندر الذي كان بمثابة أب للقاتل يوسف. إنّ يوسف حبشي الأشقر الذي صوّر انحدار المثقف نحو الهزيمة عبر ثلاث روايات يكشف هنا عن وعد صعود أو فجر بداية ممكنة، وعن خلاص: خلاص يتمثل في لقاء ما وراء تراجيدي، ما وراء أفق الوقائع، لأنه لقاء الوعي المنهزم والنفس الساقطة بصورتها في المرآة. فيوسف ابن خليل، الطالب الجامعي الذي يجرفه تيار العنف وعقيدة القتال وإنكار كل مختلف ومعترض، واستباحة كل مكسب هبوطاً إلى خطيئة قتل الأب، أو من هو بمثابة الأب، سيكتشف الإشارة في قاع ذلك الهبوط ويبدأ الصعود نحو مواجهة النفس ونحو التحليل، أي نحو شروق وعد بانبعاث جديد لفئة ثقافية جديدة. هكذا تنهض مذكرات يوسف في سجنه الاختياري ككتابة، ليس فقط لكونها تدويناً حكائياً وربما أدبياً لاعترافات، بل لكونها تساؤلاً ومواجهة للذات وبحثاً عن الحقيقة، أي كفعل يولد من نقيضه. ولأنه من دون هذا البحث عن الحقيقة ومن دون مواجهة الذات، لا وجود للكتابة - الثقافة بالمعنى الذي يعنيه ويبنيه يوسف حبشي الأشقر. وبالتالي فمن موت اسكندر ككاتب أو مثقف متنازل أو يائس، وولادة يوسف ككاتب مسائل، ومسائل للذات خاصة، تنهض الرواية - الكتابة وينهض"الكاتب - المثقف"نهوض فينيق يولد من رماده. الرواية تعالج مأزقاً عبر اختراقها للحرب. لكنها أكثر من تعرية للحرب وكشف عن ماهيتها كسقوط وانهيار، وأيضاً كعنف، مجاني بالضرورة لأنه عقيم. الحرب مقصودة لذاتها، وأيضاً مقصودة كأتون أو كيمياء أشبه بالسحر، عبرها تولد التحولات الكبرى وتُختبر القيم والأحوال والوقائع. اسكندر الذي تبدو الرواية الثالثة"الظلّ والصدى"على أنها إلى حدّ ما قصة انهياره ومقتله، مات عملياً منذ"بوسطة عين الرمانة"، أي مع انطلاق الشرارة الأولى للحرب. اسكندر الذي لم تحوّله كيمياء الحرب واحتفظ بالقدرة على الرؤية والتحليل فشل في إقناع محيطه بعبثية الحرب وخطرها وعدم ملاءمتها لواقع المشكلات وطبيعتها، من دون أي إنكار لحقيقة تلك المشكلات. بل إنّ محاولة الإقناع هذه جرّت عليه نقمة الشبان وأصحاب المصلحة في نشوب الحرب فصنفوه كعدو أو عميل تتوجّب تصفيته. واسكندر بدوره أدرك انقطاع المعيار المشترك والمنطق المشترك وحتى القيم المشتركة بينه وبين محيطه في مسقط رأسه، فانعزل في بيته في المنطقة المقابلة المعادية وتقوقع داخل رؤيته وأغلق على نفسه أبواب التواصل. استقال من الكلام، انسحب من الزمن الحاضر، غطى الساعات وعلامات الوقت، كفّن التحف والأعمال الفنية، قاطع القرية التي تشكل جذوره ونبع الحياة، اعتزل الطبيعة وحرج الصنوبر الذي كان امتداداً لبصره ولخياله، سرح الحارس والبستاني، أهمل الحديقة التي يهواها، ترك الغبار يغطي كلّ شيء، قاطع"مارت"، الخيط الوحيد الباقي الذي يَعِدُ بمُمْكِن الحوار، ثم أبعدها"سحب شريط التلفون وقطع كل صلة له بالعالم. أي ألغى نفسه"كوجود - في - العالم"ليغدو مجرد"نوع إنساني"أو مجرد ماض. لأنّ كل ما بات يفعله، حتى في الحاضر، هو عيش في الماضي، لأنه عيش تذكّر واستعادة. وحتى هذه الاستعادة لا تنشط إلا في صباح يومه الأخير حين زاره صديقه أنسي ليبلغه عن موت أمه. باتت ذاكرة اسكندر أشبه بألبوم قديم للوجود في العالم. ف"الوجود - في - العالم"تصفه حنة آرندت، تلميذة هيدغر الأثيرة، بأنه جوهرياً قلق بما هو وجود مهدّد. واسكندر فارق القلق ولم يتحاش التهديد ولا هجس بالخطر ولا بالأمل. أصبح منذ بدء الحرب كائناً معلَّقاً في انتظار الموت لأنه غير قادر لا على الموت ولا على الحياة ولا على الانتحار. لذلك لن يجيء موت اسكندر تراجيدياًً بل خلاصياً، بدليل ابتسامه وإضاءة وجهه حين رأى المسدس يصوّب إليه. وإذا كانت التراجيديا قائمة في هذه الرواية فهي لا تُلتَمس في شخصية اسكندر بل في شخصية القاتل المعذّب، أي في التحوّل الأخير ليوسف. الظلال الأسطورية لكن حركة هذه التحولات لا تقدم نفسها عبر تبسيط فكري أو تنميط أسطوري حتى ولو كانت بعض خطوط الأسطورة مقروءة في المستوى المباشر، أو كانت تشكل اللوحة الكبرى التي تأخذ القارئ في مساراتها. بل هو تشابك الدلالات والحالات وأفانين السرد، ما يسمح بارتسام الأساطير والرموز، أو هو ما يستدعيها. الرمز الأسطوري ينمو ويتلامح خلال حركة الوقائع ونسق انتظامها وتعالقها، أي في التأويل: فيوسف، مثلاً، هو، في بعد من أبعاد شخصيته، نوع من أوديب، وإن كان غير مطابق للمسار الأوديبي: تتلامح الأوديبية بدءاً من علاقة يوسف بمارت صاحبة اسكندر وتطور هذه العلاقة من البنوة في طفولة يوسف إلى العشق في شبابه، وفي الدافع المضمر لهذه العلاقة، أي اختطاف المرأة التي تخص اسكندر. كما تتلامح، في وقت لاحق، في قتل يوسف لاسكندر. فالمستوى الرمزي هنا تالٍ. كما أنّه غير مطابق للأسطورة. أوديب هنا يبصر بدل أن يفقأ عينيه. ويوسف هو ابن اسكندر معنوياً والأحرى بمثابة ابن باعتبار الصداقة والقرب بين اسكندر وخليل والد يوسف. ويوسف ليس ابن مارت وإن نشأت علاقة بنوية بينهما. كما أنّ يوسف لا يقتل اسكندر ثم يأخذ مارت بل يقتله بعد ذهاب مارت. هكذا، فإنّ السياق الأوديبي في الرواية مبعثر وخارج النمط الأسطوري ودلالاته القدرية وإن كان المناخ الأوديبي حاضراً. وهو حضور يجد مرجعه في القراءة المتأخرة أو الدلالة المتأخرة التي أعطاها فرويد للأسطورة عندما شحنها بدلالة ليبيدية مستجدة. والرموز، في هذه الرواية، نادراً ما تعلن أسماءها وعناوينها"هي حاضرة كمسارات كدلالات ومواقف. تتداخل وتتبادل المواقع أو تتبادل الإضاءة. لكن الموقف الرمزي الأجلى يتمثل في لحظة التبادل واللقاء الأخير بين يوسف واسكندر: يوسف لحظة قَتَل اسكندر أو شارك في قتله رأى قناعه الشمعي يسقط، إذ رآه يبتسم ويُضاء وجهه"ونتبين من ردود يوسف أنّ تحوّلاً ما قد اعتراه. وسنرى يوسف في زنزانته يواجه نفسه مواجهة تجعله شبيهاً باسكندر، ويضبط نفسه وهو يتكلم كلام اسكندر، بل تُظهر مواجهته لنفسه أنه في بداية التحول إلى كاتب أو مثقف يتكلم كلام اسكندر وكأنه ابنه أو كأنه اسكندر. واسكندر عندما صعد إلى كفرملات كان موقناً أنّ يوسف بانتظاره ليقتله، مع ذلك صعد. صعد لأنّ ذلك كان فعله الإرادي الواعي الأخير. كأنّ اسكندر نوع من فينيق اكتمل فراغه ومات فيه المعنى فقدّم نفسه ليوسف أو أراد أن يتجدد عبر يوسف. غير أنّ فينيق الجديد لن يكون إلاّ أوديب أو شبيهه. وعبر هذه الأطياف الأسطورية المتداخلة المتحركة المراوغة التي تتكشف في الرواية وتتحاور يتحاشى يوسف حبشي الأشقر خطيئة بطله اسكندر، لأنه لا يقفل الرواية على يأس ولا يغلق أفق ترميم الذات وتطهيرها بمواجهة النفس ومحنة الاعتراف، أي لا يغلق باب الخلاص. السرد هندسة زمانية تتحرك الرواية كنص نحو ذروتها. غير أنّها ذروة نصية أساسياً لا تخضع لزمن الوقائع بل للزمن الفني. فهي تُرسَم من لقاء زمنين - لحظتين لا تلتقيان لأنهما القبل والبعد. إذ إنّ الكاتب لا يكتفي بكسر التوالي الزمني والتسلسل التاريخي بل يعطلهما ليجعل الماقبل يواجه المابعد، ويبني عبر ديمومتين أو مسيرتين زمنيتين متباعدتين ذروة فنية للحدث في الرواية. لأن ذروة الحدث هنا ليست لها طبيعة تاريخية زمنية أو حدثية وقائعية، بل هي ابتداع فني نظراً لاستحالتها"إنها ابتداع من أجل بناء دلالي تقدمه ذروة الرواية. نحن هنا في الزمن الشعري الذي يعلو على الزمن التاريخي أو حتمية التوالي التاريخي. إنه الزمن الشعري بمعنى الزمن المنضوي داخل الرؤية والخاضع لحركتها وهندستها. هكذا سيبني الكاتب اللقاء بين الضدين: اسكندر ويوسف، القتيل والقاتل. وبين زمنين: ما قبل القتل وما بعد القتل. هذا اللقاء يبنيه السرد عبر العناصر المشتركة التي كأنها تحررت من زمنيتها أو تسلسلها لتتلاقى فوق جسر افتراضي كما تقدمها ذاكرتان: ذاكرة اسكندر وذاكرة يوسف: اسكندر منذ الفصل السادس يصعد طريق جلجلته نحو المقبرة ليلتقي أمه في الموت. يروي. وبينما هو يروي يكتشف القارئ كيف بدأ الموت شغله فيه حين بدأ الفراغ، وبدأ الانقطاع وبدأت كبرياء"الخيرئ"أو تكبّر الخير العاجز في تكبره عن مدّ اليد إلى الهابط المنزلق. ومع تلك الكبرياء، كبرياء النظافة و"الخير"القابض على الحقيقة وحده، ومع التجرّد، بدأ ما يصفه النص بالقناع الشمعي تعبيراً عن حال اللاتواصل التي بلغها اسكندر. ويبدو اللاتواصل في هذا السياق شكلاً من أشكال الموت. واسكندر الذي يستدرك في لحظة من اللحظات أنه ذات يوم تجاهل يد أسمر الشر المطلق الآن لما امتدت إليه وتجاهل رغبة أسمر المبطنة في صداقته والتشبه به، يقوم بنوع من اعتراف ناقص. ولكنه الآن يصعد إلى كفرملات ليواجه مسدس يوسف المحشو بيد أسمر ويواجه يوسف الذي استولى على عقله وروحه الشر المتمثل في أسمر. وكان في استطاعة اسكندر تغيير ذلك المصير لولا القناع الشمعي وخطيئة الخير المتكبّر أو المعرفة المتجاهلة والانقطاع وكبرياء النظافة. وحين يصل إلى المقبرة تكون قصة"القناع"، أي الصمت والعزلة واليأس قد بلغت نهايتها وبيّنت كيف أطبق القناع على الوجه وغيّب المعنى. لكن ما إن وقع نظر اسكندر على يوسف مع فرقة القتل والمسدس يصوّب إليه حتى سقط القناع فجأة، وأشرق وجهه بابتسامة طفل. ويوسف، - الذي نشأ وهو يرى القناع يزداد كثافة على وجه اسكندر ويتمنى أن يرى في وجه اسكندر حياة وتعاطفاً -، رأى القناع يسقط ورأى وجه اسكندر يتوهج الآن بالمعنى. إنها الإصابة المضيئة والرؤية السحرية الخاطفة، كأنها رؤية ميدوزا وهي تنقلب فجأة عائدة إلى ماضي جمالها قبل اللعنة"ميدوزا المسحورة الممسوخة التي صار إليها وجه اسكندر في تحولاته تستعيد أمام الموت بهاءها البكر. في تلك اللحظة ذاتها تجري حرارة الأعجوبة والتواصل في الاتجاهين، لكن تماماً لحظةَ تنطلق الرصاصات لتردي اسكندر. لقد انطلق الرصاص مع إشراق الابتسامة، وسقوط القناع"الميدوزي"والاكتشاف. وكان أسمر صرخ محرّضاً:"يوضاس!"مشيراً إلى اسكندر. يوسف حبشي الأشقر كما يبدو من بنية الرواية وترابط الحدثين يولي هذه المسيرة المزدوجة اهتماماً خاصاً: وهو يقود هذا الازدواج في اتجاه عناق ذروتين للرواية، بنائية - نصية، ودلالية: يذهب في فنيته بعيداً حين يجعل الزمنين يتشابكان، يجعل سرد يوسف ما بعد القتل يمشي بموازاة سرد اسكندر في زمن ما قبل القتل، يجعل القاتل والقتيل يتناوبان السرد ويتناوبان التأمل وإذن الرؤية والتقويم، لكن من زمنين مختلفين لا يلتقيان في الواقع"إنهما القبل والبعد على طرفي لحظة القتل"مع ذلك ينجدلان في النص ليتحدا عند اللحظة الأخيرة، لحظة الذروة: ذروة الحدث وذروة التناقض وذروة العداء - المصالحة أو ذروة الانقلابات التي هي ذروة الرواية وختامها بل كلمتها الأخيرة. ففي اللحظة التي يكتمل فيها سرد اسكندر ويصوّب يوسف وفرقته النار إلى صدره يلتقي النقيضان مع لقاء ثلاثة أضواء تنبثق في لحظة واحدة: للمرة الأولى أضيء وجه اسكندر المقنّع بابتسامة خاطفة وتسربلت سيماؤه الشمعية بالمعنى، لكن مع ضوء الرصاصات التي انطلقت، وفي اللحظة نفسها يحدث الانقلاب الآخر ويلتمع الضوء في وعي يوسف: يكتشف الشخصية التي ظلّ يكرهها ويحسدها، ويكتشف أنه كان يحبها. يكتشف الخلل كله لكن بعد فوات الأوان. وبعد أن صرخ أسمر:"يوضاس"، مشيراً إلى اسكندر وانطلق رصاص فرقة القتل. وسنرى أنّ وعي يوسف الذي قاده في طريق الاعتراف ومحاسبة النفس سيصل به نصياً إلى تلك اللحظة نفسها، لحظة النعمة وسقوط الحجاب عن البصيرة واكتشاف المعنى، ليصرخ في موازاة صرخة أسمر الماضية زمنياً الراهنة نصياً،"أنا يوضاس"! إنها لحظة واحدة لا توصف إلا بكونها لحظة الذروة أو الأعجوبة: لحظة لقاء التحرر من القناع الشمعي والتحرر من عمى الكراهية والعنف ولحظة اكتشاف السر، سرّ اسكندر، وأيضاً سرّ أسمر، وسرّ المحبة التي ذروتها الفداء. ذلك التزامن المثلث هو ذروة الحدث في الرواية وهو ختامها، إذ إنه في الوقت نفسه نهاية صعود يوسف طريق آلام الاعتراف وهو في السجن حين اكتشف الحقيقة وواجهها صارخاً "أنا يوضاس". وبدءاً من تلك المواجهة للذات وارتفاع الحجاب عن البصيرة تحقق ليوسف بلوغ لحظة الكتابة، أي بمعنى ما لحظة اللقاء باسكندر إن لم نقل التحول إلى اسكندر واكتمال انبعاث الفينيق. الحكي في الرواية هو السلطة والقرار، هو الهيمنة على المصائر، أو على الأقلّ هو منبر الاتّهام ومنبر الحكم. وهذا الانتقال بين حكي اسكندر وحكي يوسف ومن حكي اسكندر إلى حكي يوسف هو انتقال من سلطة الأول المثقف إلى سلطة - فتى الميليشيا المتهور المستبيح. و"الكلام"هنا تفكير. وإذا كان يوسف غائباً عن ساحة الكلام حين يتولى اسكندر السرد، فإنّ الانقلاب سيحصل بعد أن يقتل يوسف اسكندر، أي من هو بمثابة أبيه ومن يمثل المثقف المُفرَغ من الفاعلية والحضور. لكن يوسف سينزلق إلى"الكلام"بعد تلك الخطيئة"المميتة"كما يوسم القتل في المعتقَد المسيحي ويصل إلى مواجهة النفس والحكم عليها، أي إلى البحث عن الصواب. وهنا سنجد"البحث عن الصواب"يستعيد طريق محاكمة النفس بالكلمة أو الكتابة وهو ما يعني الصعود مجدداً نحو موقف المثقف. غير أنّ الانقلاب هو انقلاب مزدوج: يوسف يتسلّم دفّة السرد بعد أن يكون قتل اسكندر وحوله إلى رواية أو مروي عنه"أي أصبح راسم مصائر، تماماً في الوقت الذي يحاكم فيه نفسه وتاريخه. يوسف لا يستعيد الفاعلية الروائية أو الوجدانية إلا بتآلف فعلين: يصعد من جريمته نحو الخلاص بالاعتراف ومواجهة النفس، لأنه لا بدّ من أن يرى ليروي، ولأنه لا رواية بلا رؤية، ولا رؤية للآخر من دون مواجهة الذات. وبهذين الفعلين سيتحقق جلاء وجه يوسف في المرآة، التي لن تكون ويا للمفارقة إلا مرآة اسكندر أو صورة اسكندر كما تبين اللحظة الأخيرة من نص الرواية. إنه وعي أوغسطيني أو فعل أوغسطيني لكونه بحثاً عن الحقيقة في عمق التجربة المعيشة الحية وإن تكن في عمق السقوط، وليس في ميدان المجرد أو النظري" بهذا يطلع يوسف من جحيم القتل أو السقوط نحو التأمل والاعتراف وإدانة الذات واكتشاف المعنى واكتشاف الكلام وأخيراً اكتشاف الكتابة التي تكون في نظر يوسف حبشي الأشقر تعرية ومواجهة للذات وإسقاطاً للأوهام وبحثاً عن الخلاص أو لا تكون"أي أنها من حيث الغاية تشبه ما رسمه اسكندر قبل أن يعلن اليأس. وهكذا في لوحة واحدة وعلى مستوى نصي واحد يقدم السرد أفق الهبوط والاستقالة والتماس الموت وأفق الصعود من هوة الجريمة والعنف واللامعنى والكراهية إلى التماس المعنى ومحاكمة الذات ومعجزة الرؤية والمواجهة. أي مواجهة اللحظة الجحيمية، التي كانت لحظة تحوّل. كما في طريق الخلاص المسيحية التي هي طريق الاعتراف وإسقاط حجب التمويه وجلاء الوجه ومواجهة الذات عبر مرآة القتيل الفادي" أو كما يقول بيار لوجندر كتاب"Dieu Au Miroir"ص 59"الرؤية المستحيلة للذات تحتاج إلى مرآة خارقة". وهي في هذه الرواية مرآة الآخر. لأنّ يوسف لم ير وجهه الحقيقي حتى رأى وجه اسكندر وقد تجلى بعد سقوط القناع. فهل كان اسكندر المثقف القتيل هو القربان الضروري للرؤية، أي لوعي يوسف الميليشياوي واكتشافه طريق الخلاص؟