منذ اللحظة التي وقعت فيها أول جريمة بشرية على سطح الأرض، حين أراق قابيل دم أخيه هابيل، والمرأة تحمل إرثاً ثقيلاً بسبب تلك التهمة الجائرة التي التصقت بها، إنها مصدر الشرور في العالم. هذه الواقعة استغلتها فئات متعصبة لتقص جناحي المرأة حتى لا تتمكن من الطيران بحرية في فضاءات العالم، وتناست هذه الفئات أن المرأة هي منبع الخصوبة والعطاء، من رحمها خرج الأنبياء، والقادة العظماء، وكبار الساسة. وليس غريباً أن يُطلق نابوليون بونابرت عبارته الشهيرة"المرأة التي تهز المهد بيمينها، قادرة على أن تزلزل العالم بيسارها". صحيح ان المرأة عاشت عصوراً مظلمة، وعانت الأمرين من سطوة المجتمع الذكوري، الذي حال طويلاً دون تحقيق ذاتها، إلا أنها عاشت كذلك أزماناً مزهرة. ولو نقبنا في سجلات التاريخ منذ بدء الخليقة الى عصور الإسلام الزاهية، سنجد أن المرأة سجلت تفوقاً وبراعة في الكثير من أوجه الحياة، فكانت الملكة الحكيمة القادرة على إدارة شؤون دولتها، والعالمة، والفقيهة، والأديبة، والناقدة، والفارسة المقدامة. ولكن، شيئاً فشيئاً تقهقرت مكانة المرأة، وتضاءل دورها، وانكمشت صلاحياتها، وغدت مثل لعبة الشطرنج تُحركها الأيدي، من خلال استغلال جسدها في الدعايات التجارية، واستخدامها كواجهة في البرامج الغثة في القنوات الفضائية، حتى أصبحت تحيا حياة ضبابية لا نبض فيها، اللهم إلا محاولات مضيئة تنبعث على استحياء، من هنا وهناك، وبين حين وآخر. هناك حكمة جميلة أطلقها أحد الحكماء، بأن المرأة قد أُخذت من جانب الرجل لتكون مساوية له، ومن تحت ذراعه لكي يحميها، وقرب قلبه لكي يحبها ويحترمها، ولم تؤخذ من رأسه لئلا تدوس عليه، ولا من قدميه حتى لا يهينها. أين المجتمعات العربية من هذه الحقائق الناطقة؟ كيف تمكن العودة الى هذه الآراء الصائبة؟ في رأيي، تغيير وضع المرأة يجب أن يبدأ بغرس هذه المفاهيم في فكر الأجيال الجديدة، من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية، حتى تشب على احترام المرأة كإنسان له عقل واع وكيان مستقل، وليست مجرد جسد خُلق لغواية الرجل. وتنقيح تراثنا العربي والاسلامي الذي شوِّه، وإعادة صوغه من جديد بنهج موضوعي، ونبذ الأحكام الجائرة التي تحط من قدر المرأة، وإبراز الانجازات العظيمة التي قدمتها المرأة على مدار التاريخ. فمن المعروف أن الكثير من الأوضاع المأسوية التي تعيشها المرأة اليوم، ما هي إلا حصيلة ثقافة ذكورية لا دخل للتشريع فيها، إضافة الى الاسرائيليات ومخلفات العصور الوسطى الغربية التي تحط جميعها من قدر المرأة، والتي حشرت في تعاليمنا الإسلامية حتى أضحت من المسلّمات في موروثاتنا الاجتماعية. كذلك كان للعهد العثماني المظلم دور في تضخيم الأنا الذكورية، من خلال نظرته الضيقة المتحجرة الى المرأة، بأنها خُلقت لمتعة الرجل وتلبية مطالبه الحياتية، ما أدى الى حصر أدوارها في أداء واجباتها المنزلية ورعاية الزوج والأبناء. لا أبالغ إذا قلت ان المرأة اذا لم يُفسح لها المجال لتُشارك في صنع القرار، فلن يكون هناك نضج فكري، ولا تطور ثقافي، ولا تقدم اجتماعي، لأن الأمم تقاس من خلال احترامها لنصفها الآخر المتمثل في المرأة. فمن غير المعقول ان توضع تحت الإقامة الجبرية بحجة أنها ناقصة عقل ودين! لقد حان الوقت لكي يضع الرجل يده في يد المرأة، من دون أن يُعاملها على أنها أم الشرور ومبعث الرذائل في المجتمع، فكل إنسان رجلاً كان أو امرأة، وهبه الله نعمة العقل، لكي يُنتج ويُقدّم على مدار حياته ما فيه النفع لمجتمعه. لم تتوقف نظرة العداء تجاه المرأة عند تحجيم مشاركتها في الحياة السياسية، بل تجاوز الأمر الى الاستهانة بفكرها، وعدم الاكتراث بأدبها والنظر اليه باستخفاف كما ينظر الى شخصها. سألني أحد الصحافيين: أين النقاد من أدبك؟ لماذا يحجمون عنه؟ ألأنك تكتبين أدباً يتميز بالجرأة والمكاشفة؟ حرت بداية في كشف النقاب عن الحقيقة المرة. لكنني أقولها بصراحة: إذا كنا نعيش اليوم زمن انحطاط اجتماعي وسياسي، فما العجب إذا أحجم النقاد عن الأدب النسوي؟ للأسف النقاد الرجال وأستثني قلة منهم، ما زالوا يستهينون بنتاج المرأة، ويرون أنه أدب بوح ومناجاة وأداة للتنفيس عما تعانيه من جور اجتماعي وقمع فكري. وفي معنى أدق هو أدب يدور في منظومة غريزة الأمومة، والعاطفة المكبوتة، والهم الخاص، وبعيد كل البعد من الواقع السياسي والاجتماعي العام، وهو ما جعلهم ينصرفون عنه بحجة أن لا دور أساسياً له في تطوير حركة التاريخ، وبالتالي لا وجود له في نسيج الأدب العربي. في العالم أجمع ظلّت المرأة ملهمة الأديب والفنان، والتاريخ سجّل الكثير من النصوص التي كانت المرأة مصدراً لإبداعها، بل إن بعضهم بنوا صروح أمجادهم الأدبية من رفات النساء، في الوقت الذي غضّ التاريخ الذكوري الطرف عن الكثير من الإبداعات النسوية التي كان الرجل فيها مصدر إلهام للمرأة، من منطلق ان المرأة محظور عليها أن تطاول قامة الرجل لئلا تنتقص من قدره وتطعن في رجولته، بحسب ما يردد الموروث الاجتماعيّ! بل ان المرأة التي تجاسرت وتمردت على هذا القانون الذكوري، اعتبرت امرأة مسترجلة، تخلّت عن أنوثتها، لأنها تجاسرت ووطأت بقدميها أرضاً غريبة عنها، الى إحاطتها بسياج من الشك والريبة، وتعرضها للمساءلة القانونية والاجتماعية. وهو ما يدفعني للتوقف عند ما قالته الأديبة غادة السمان، من أن المرأة المبدعة تتعامل مع إبداعها من خلال موروثها الثقافي، بمعنى أن كما الرجال قوامون على النساء، كذلك الأدب الرجالي قوام على الأدب النسائي. في رأيي هذا الواقع أصبح من مخلفات الماضي، فقد دفعت أخيراً هذه الأجواء القاتمة بالأديبة العربية، الى الثورة على واقعها، والى تحرير فكرها من نغمة العيب والحرام، حتى نجحت في تمزيق الأغشية الوهمية المتمثلة في العرف والتقاليد، وفي كسر"التابو"المحرم عليها، من خلال إبداع عوالم حياتية تعكس واقع مجتمعها، الى أن أصبح أدب المرأة اليوم يتميز بالصدق الأدبي. كثيرون يظنون أن كشف النقاب عن سلبيات المجتمع من اختصاص الأديب الرجل، لكنني أؤمن بأن الأديبة المرأة يجب ألا تُخلي مسؤوليتها وتنفض يديها عمّا يجري داخل أروقة مجتمعها. فطالما أن لهيب السلبيات يلفح بحرارته الجميع، وطالما أن الرجل والمرأة يخوضان غمار الحياة معاً، ويتجرعان مرارة الواقع المعيش من كأس واحدة، يجب أن تُسخّر الأديبة قلمها في طرح قضاياها، وفي المطالبة بحقوقها كون المرأة المثقفة وحدها القادرة على انتزاعها، لأن الحرف لا يعترف بالمسافات، ولا يخضع للجنسيات، ولا يتوقف عند الحواجز، والقلم الحر لا يهاب الأمواج العاتية ولا تضعفه عواصف التهديد. * كاتبة سعودية، والنص محاضرة القتها أخيراً في جامعة القاضي عياض ? المغرب.