كيف يحصل أن تتحول بعض العبقريات، التي حفل بها تراثنا العربي، الى رموز للتعقيد والتقعُّر والجمود؟! أليس من الطريف، والمؤسف في الوقت نفسه، أن تُلقى تبعات المشكلات المتنوعة التي نعانيها اليوم، في شتى حقول النشاط اللغوي، على عاتق سيبويه، وهو صاحب"الكتاب"في النحو، أي أنه صاحب العقل"اللغوي"الفذ، الذي استطاع أن يستنبط مجموعة من القواعد، تشكلت في نظام باهر، هو أساس علم النحو، أحد أهم علومنا اللغوية؟ أليس من الطريف أيضاً، ومن المؤسف في الوقت نفسه، أن يُنظر الى الخليل بن أحمد الفراهيدي، مُستنبط بحور الشعر، ومؤسس علم العروض، وكأنه صاحب جناية في هذا المجال، لأنه أوجد لإيقاع الشعر العربي -كما يرى البعض - قوالب ضيّقت عليه أو حدّت من تنوعاته؟ إنه لمن الخُفّة والتسرع والجهل أحياناً أن يجري تناول عبقريات كسيبويه والفراهيدي بمثل هذه الطريقة القاصرة. وفي ما سيأتي، سنحاول التأمل في ما تعنيه هذه الظاهرة. إن قواعد النحو التي نص عليها كتاب سيبويه المتوفى عام 796م لا تدّعي الإحاطة بكل ما تنطوي عليه لغتنا العربية من ظواهر أو مزايا في المستوى النحوي، أي في مستوى تركيب العبارات ونوعية العلاقات بين المفردات داخل التراكيب. إلا أن هذه القواعد شكلت الأساس لنظام من المقاييس والأصول، ظلّ على حاله تقريباً، منذ زمان سيبويه وحتى يومنا هذا، أي أن هذا النظام لم يعرف تطورات جوهرية على مدى أكثر من ألف عام. أليس في ذلك ما يدعو الى الإعجاب بشخصية ذلك المؤسس لعلم النحو. فإذا كان النظام المشار اليه قد وقع في الجمود طوال قرون سابقة، هل تقع المسؤولية على المؤسس، أم على جميع المعنيين في شؤون اللغة ممّن أتوا بعده، ومن بينهم على وجه الخصوص أولئك الذين يشكون من الجمود ومن صرامة القواعد، ثم لا يملكون سوى الشكوى والنيل من مستقرئ النظام أو مكتشفه. إنه لمن المضحك حقاً أن يُؤتى على ذكر سيبويه عندما تعرض مسألة عويصة في اللغة، أو عندما ينحو أحدهم منحى متقعراً أو معقداً في استعمال اللغة. كأنما عمل سيبويه في"التقعيد"هو الذي قاد لاحقاً الى"التعقيد"! والشكوى من أي تعقيد في اللغة لم تكن لتحصل لو قام اللاحقون بواجباتهم في تطوير القواعد وتجديدها مستفيدين من السابقين، وعلى رأسهم سيبويه، الذي كان عمله في جوهره دعوة الى التأمل في عبقرية اللغة العربية، من خلال الكشف عن المزايا التركيبية التي تتحلى بها. سيبويه - كغيره من المؤسسين - مهد الطريق، ولم يضع نقطة نهائية. قد يكون من المفيد الإشارة الى أن سيبويه كان تلميذاً للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى عام 786، الذي كان عبقرية متعددة الجوانب، فهو صاحب أول محاولة لصناعة معجم عربي، هو معجم"العين". ولكنه اشتهر، أكثر ما اشتهر، بعلم العروض الذي نُسب اليه، حتى انه - هو نفسه - راح يُعرف بالعَروضي. لقد كان الخليل عقلاً رياضياً ولغوياً فذاً، واكتشافه بحور الشعر دليل على عبقريته النادرة. وهو في اكتشافه هذا لم يقل ان هذه البحور ينبغي أن تكون قوالب نهائية لإيقاع الشعر العربي، لم يقل بضرورة الالتزام بهذه البحور، وإنما قام بوصف ما وقع عليه من قصائد، ووصفه هذا كان عملاً عبقرياً، لأنه استنبط من خلاله أنظمة إيقاعية فريدة في دقتها، وكذلك في مرونتها. كان الخليل في عمله هذا كمن يستخرج جوهرة دفينة. فهل نقول انه هو المسؤول عن الجمود الذي رافق النظام الذي اكتشفه قروناً طويلة؟ أليس دليلاً دامغاً على عبقريته الفذة أن أحداً لم يُضف الى البحور الخمسة عشر التي اكتشفها سوى الأخفش الذي أضاف بحراً واحداً هو المتدارك، أو الخَبَب؟ وهو بحر لا يُعدُّ من البحور الأساسية في الشعر العربي القديم، وإن أصبح الأكثر شيوعاً في الشعر العربي الحديث! وإذا كان هنالك اليوم من يدعو الى التخلي عن البحور الخليلية، أي الى عدم الالتزام بها في الكتابة الشعرية، فلا بأس في ذلك، لا شيء هنالك - في ما قدّمه الخليل - يحول دون التجربة خارج البحور التي تحدث عنها. ولهذا، ينبغي الاعتراف بأهمية العمل التأسيسي الذي قام به الخليل بن أحمد، وخصوصاً من قبل أولئك الذين يدعون الى التخلي عن نظام الوزن، أو عدم الالتزام به، أو استبداله بأنظمة أخرى. فذاك العمل التأسيسي الخليلي شكل فتحاً باهراً في ميدان البحث في موسيقى الشعر. وكان لعلم العروض الذي ارتكز على هذا الفتح أن يتضافر مع غيره من العلوم العربية، كعلوم اللغة وعلوم البلاغة، في التمهيد لظهور نظريات في الشعر بخاصة، وفي الأدب بعامة. سيبويه ليس عائقاً أمام التجديد في النحو، والخليل بن أحمد ليس عائقاً أمام التجديد في موسيقى الشعر. وعلى دعاة التجديد أن يُضيفوا أو يطوروا أو يبتكروا، بدلاً من الاستمرار في الشكوى من قوة النظام النحوي الموروث، أو من قوة النظام العروضي الموروث. عليهم ألا يَسِموا القوة بالجمود، وأن يبحثوا عن عناصر قوة جديدة يمكنها أن تبث الحركة في الواقع الراكد. ولكن، مَن يفتقر الى معرفة نيِّرة بنظام موروث معين، كالنظام النحوي أو النظام العروضي، أنّى له أن ينظر إليه نظرة مُنصفة؟!