إن الخطر الذي يحدق باللغة يكمن في زعزعة نظامها النحوي والصرفي وإحلال غيره محله ، فأثر الألفاظ في زعزعة اللغة وموتها أقل أهمية من النحو ومن الصرف وعلم التراكيب . وتطورها في جانب الألفاظ والدلالات أمر على درجة كبيرة من الأهمية ، وهو الذي يعمل على ثرائها وعدم جمودها. لا ننفك بين الحين والآخر نقرأ مقالات يفتي أصحابها في اللغة العربية الفصحى ؛ مقالات لا تخرج عن كونها مجرد انطباعات ورؤى قاصرة تتصدى للحديث عن أمر يحتاج كثيرا من التثبت والغوص في الطرح ، وهو أمر لا يمكن معالجته في مقال صحفي في بضع كلمات ، في الوقت الذي أنجز فيه عدد كبير من الكتب والمؤلفات العلمية والرسائل الجامعية ، وأقيمت له المؤتمرات والندوات منذ ما يزيد على السبعين عاما . ليس الحديث عن اللغة العربية الفصحى من حيث صعوبتها ، وعدم قدرة الدارسين على فهم قواعدها ، بالحديث الجديد ، فلقد شهدت البلاد العربية في مطلع عصر النهضة دعواتٍ كثيرة ًمن هذا القبيل واستمرت حتى يومنا هذا ، ، حدّ دعوتهم إلى كتابتها بالحرف اللاتيني ، أو إحلال العامية محلها ! تولى هذا الأمر بعض الكتاب والأدباء والشعراء في مصر والشام والعراق , ممن لهم وزنهم في الوطن العربي , متأثرين بالدعوات التي أطلقها بعض المستشرقين ، ومن هؤلاء الكتاب : (سلامة موسى وعبدالعزيز فهمي ويعقوب صروف من مصر، وجميل الزهاوي من العراق , وسعيد عقل وأنيس فريحة ومارون غصن ويوسف الخال من لبنان ، والسوري أدونيس الذي يقول: إنني عدو للفصحى ذاتها وأعتبر التمسك بها سبباً أساسياً ومباشراً لما يبدو من مظاهر التخلف عن الشعوب الغربية بلا استثناء، أنا على يقين تام من أن دعوتي إلى الحرف اللاتيني واللهجات العامية سوف تنتصر لا محالة، وستأخذ بها جميع شعوب آسية وأفريقية ) ! يجمع هؤلاء على أن الفصحى لايفهمها العامل والفلاح ورجل الشارع , وكسبوا إلى جانبهم وسائل إعلامية قوية ، وعقدت ندوات ومؤتمرات لهذه الغاية . وما يدعو للعجب ويؤكد فساد دعوتهم وأنهم هم أنفسهم غير مقتنعين بها ، هو أنهم يكتبون باللغة الفصحى ، بل إن سعيد عقل كتب أجمل قصائده بها وكذا جميل الزهاوي ، وهذا يؤكد أن دعوتهم تلك تهدف إلى ما هو أبعد من اللغة ، إذ تستهدف القرآن الذي حفظها ، كما تستهدف الأمة العربية التي توحد بينها هذه اللغة ، ولن تتفرق إلا عندما يصبح لكل دولة منها لغتها الخاصة ! وإذا جاوزنا الدعوة إلى العامية أو كتابة الفصحى بالحرف اللاتيني التي لم يُكتب لها النجاح ، وجدنا من يهجمون بقسوة على النحو بمعناه الشامل الذي ( يُعْنَى بمهمتين: الأولى صحة تأليف الكلم للإبانة عمّا في النفس من المقاصد، والثانية معرفة أحوال الأواخر من إعراب وبناء، فيُطْلَبُ إليه أن يقوم بعصمة اللسان والقلم عن الخطأ في تأليف الكلم وأحوال أواخرها) . بل يقترح بعضهم إلغاء الإعراب ، وتسكين أواخر الكلمات ، وحجّتهم في هذا الهجوم أننا نُعلِّم الطالب النحو سنواتٍ طويلة، فإذا طلبنا منه الحديث التوى لسانه ولحن في كلامه. ويجاوزون أحياناً هذا المثال إلى آخر يظنونه أشدّ إيلاماً، هو أن هناك نحاة لا تستقيم ألسنتهم إذا تحدّثوا . فقولهم إن الطالب يتعلم النحو سنوات عديدة ، ومع ذلك يقع في اللحن ؛ لأن صعوبة النحو لا تعصم اللسان من الخطأ ! من السهل على أي متخصص أن يرد عليه ، فالطالب عندما يتعلم النحو طوال تلك السنوات ، فالغرض من ذلك هو إكسابه المعارف النحوية ، وهذه قضية لغوية بحتة ، لكنه عندما يلحن فهذا يعني أنه لم يكتسب مهارة التطبيق ، وهذه ليست مسؤولية النحو كعلم ، بل هي مسؤولية المقرر الذي يقدم المادة، والمعلم الذي يشرحها للطالب ، والأساليب المتبعة في تعليم المهارات ، بمعنى أنها قضية تربوية لا علاقة لعلم النحو بها . كما أن ما يزعمون من صعوبته لم يمنع من أن ينبغ في النحو بعض علماء العربية وهم صغار.. أما من يقول إن صعوبة النحو تكمن في كثرة القواعد وتشعبها ، وكثرة العلل الفقهية والمنطقية عليها ، فقد ميَّز أنصارالفصحى بين النحو، وقواعده ( فعدُّوا النحو ثابت الجوهر وطيد الدعائم عبر العصور؛ لأنه نظام الكلام في النطق والتركيب والإعراب، وكلُّ تغيير في الجوهر يهدم اللغة ويفصم علاقتها بالقرآن الكريم. في حين عدُّوا قواعد اللغة نحواً وصرفاً وبياناً وعروضاً من وضع أئمة اللغة وفق مناهج اجتهاديّة تتغيَّر وتتبدَّل ).. وكثيراً ما احتدم الخلاف بين أئمة النحو قديماً وحديثاً، واختلفت مذاهب النحويين البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين، لكن لم يقع بينهم خلافٌ واحدٌ يمسُّ جوهر نظام اللغة العربية كما جاء بها الوحي على سبعة أحرف، وكما جُمع القرآن الكريم على أيدي كُتَّاب الوحي محتكماً إلى لغة قريش. فالخلاف يشمل معظم المصطلحات النحوية وأسباب التسمية، وتصنيف الموضوعات والتعليل ودقائق التفصيلات، ولا يمسُّ جوهر اللغة ونظامها . وقد انبرى من ينادي بتطوير اللغة وإصلاحها وتهذيبها وتيسيرها. وتصدى لهذه الدعوة طه حسين بقوله : " والهدف المنشود من وراء مبدأ التطوير إنما هو التحلل من قواعد النحو واللغة، والتخلص من قوانينها وأصولها الثابتة . وهذا يعني أن تراثنا العلمي الضخم في كل الفنون والعلوم سيُحكَمُ عليه بالفناء وسيكون مجرد أطلال نقف عليها للبكاء " ! إن الخطر الذي يحدق باللغة يكمن في زعزعة نظامها النحوي والصرفي وإحلال غيره محله ، فأثر الألفاظ في زعزعة اللغة وموتها أقل أهمية من النحو ومن الصرف وعلم التراكيب . وتطورها في جانب الألفاظ والدلالات أمر على درجة كبيرة من الأهمية ، وهو الذي يعمل على ثرائها وعدم جمودها ، فلقد تطورت اللغة العربية في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية تطورا مذهلا أثْراها بمصطلحات وألفاظ في كثير من العلوم والدراسات الإنسانية، ووضع العلماءُ والدارسون والفلاسفة والشعراء والفقهاء وغيرهم ألفاظهم التخصصية تلك في عصور النهضة والازدهار من قاعدة اللغة العربية وصلبها لا من خارجها ؛ اشتقاقا واستعارة وتركيبا ونحتا ، فقدموا مساهماتٍ جليلةً في علوم ومعارف إنسانية كثيرة، وفي هذا يقول الجاحظ : " اشتقّوا من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم. فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا: العرض والجوهر، وأيس، وليس، وفرقوا بين البطلان، والتلاشي. وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيدة وقصار الأرجاز ألقاباً لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد والأسباب والحزم والزحاف .... وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب، وذكروا حروف الروي والقافية، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع... وكما سمّى النحويون فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك... وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء وجعلوها علامات للتفاهم " .. وقد اتفق علماء اللسانيات على أن من خصائص اللغة بوجه عام قدرتها على التطور والنمو وذلك باستخدام وسائل صوتية وصرفية ونحوية لتوليد ألفاظ ومدلولات وتراكيب لغوية جديدة؛ للتعبير عما يستجد من حاجات ومفاهيم في المجتمع. وبما أن اللغة العربية هي أطول اللغات عمراً وأثراها لفظا، وأقدرها على النمو اللفظي والدلالي لما تتحلى به من خصائص اشتقاقية فريدة فإن بوسعها أن تعبر عن سيل المفاهيم العلمية والتقنية الجديدة المتدفق باستمرار. إن كل ما تقدم توطئة للرد على المقالين اللذين كتبهما في هذه الصحيفة فهد عامر الأحمدي حول اللغة العربية بعنوان : "مشكلتنا مع النحو" ، و"اللغة محاكاة وتقليد وليست دراسة وتقعيد: . وردي هنا لا ينبع من عاطفة وحماس للغة كما وصف ردود من علقوا على مقاله الأول ، بل إن ردي نابع عن تخصص وإلمام بأحوال اللغة تاريخا ونحوا وصرفا ودلالة . وما لفت نظري في مقاله الأول قوله : " وهذا الانفصال (بين النظرية والواقع) بدأ من أيام أبي الأسود الدؤلي حين مُنهجت اللغة ورُسمت القواعد (ضمن كتب ومجلدات مسبوكة) بعيدا عن واقع الناس، وما تنطق به الأسواق والشوارع ومدارس الأطفال " ! أقول إن الازدواجيّة اللّغويّة أمر بدهيّ في الحياة اللّغويّة العربيّة منذ القدم ، وما وضعت كتب النحو إلا بعد أن انتشر اللحن بين الناس ، لكن هذا لا ينفي ما ذكره من الانفصال بين التنظير والتطبيق ، وهو خلل ليست اللغة مسؤولة عنه بقدر ما يتحمل مسؤوليته المربون وواضعو المناهج وطرق تدريس العربية . أما قوله في المقال نفسه : " نحتاج الى التخلص من كل القواعد والاستعاضة عنها بخلق (إحساس داخلي) بالصواب والخطأ / بطريقة قل ولا تقل.. إلى خلق شعور تلقائي ومألوف بالمرفوع والمنصوب والمجرور... ما نحتاجه فعلًا هو تعلم اللغة السليمة من خلال الاستماع والتقليد والمحاكاة (كما يتعلم أطفال العالم لغاتهم الأم) وليس من خلال دراسة قواعد نظرية وطرق تصريف مجردة ، لو كان الأمر بيدي لسحبت كافة المناهج التي تدرّس لأطفالنا اليوم (والتي لم أسمع طالباً أو حتى مدرساً يتحدث بها) واستبدلتها بمناهج سمعية ومعامل صوتية يتعلم الطالب من خلالها النطق السليم دون التطرق لخلافات اللغويين والأكاديميين ومتاهات سيبويه والفراهيدي " ! (يقصد الفراهيدي وسيبويه) . إن خلق الإحساس الداخلي بالصواب والخطأ لمعرفة المرفوع والمنصوب والمجرور لا يتأتى من (قل ولا تقل) إلا عن طريق القاعدة ، فكيف يفهم الطالب أو غيره الخطأ دون تقديم الصواب له من خلال الفاعدة التي تساعده على القياس؟! أما أن يقال له قل كذا دون قاعدة فأمر لا يستقيم لأنه سيكون وسيلة مثلى للحفظ دون الفهم . وأما ما يدعو إليه من تعليم اللغة عن طريق السماع والمحاكاة فأمر جيد ، لكن التعليم لا يقتصر على السماع فقط ، فلابد من الكتب والشرح . وإلا لم تحتج الدول الأجنبية التي تعلم الأجانب لغتها إلى فتح مدارس ومعاهد وتأليف كتب وتوزيع مذكرات لو كان تعليم اللغة يتحصل بالسماع فقط . فالجمع بين النمطين له دور كبير في ترسيخ القاعدة في الأذهان . أما خلافات النحويين فلا يدرسها البتة طلاب التعليم العام ، وبعضها يمر مرورا في بعض أبواب النحو في التعليم الجامعي ، ولايدرسها إلا الطلاب المتخصصون في النحو في الدراسات العليا..