كادت صرخة فيصل الحسيني"تعالوا الى القدس لتنقذوها"تسمع في اروقة المؤتمر الثالث للمنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت، الذي حمل عنوان"اغتنام الفرصة"وركز على اولويات ومكونات الاصلاح مسلطاً الاضواء على الشباب والمرأة والتعليم والاعلام في مسيرة الاصلاح. رجال ونساء الاعمال العرب والاجانب خصوا السيولة العربية الناتجة عن اسعار النفط باهتمام مميز داعين الحكومات الى صك القوانين التي تحمي المستثمرين والى تحرير القطاعات. بعضهم عقد الصفقات وبعضهم اعلن عن استثمارات لكنهم، بمعظمهم، غابوا وتغيبوا عمداً عندما جاءت دعوة الاستثمار من السلطة الفلسطينية وبقي نداء المرحوم فيصل الحسيني، حامل ملف القدس وهمّها في حياته، ترنيمة على ضفة البحر الميت تأمل بصدى لها بين المستثمرين العرب،"تعالوا الى القدس لتنقذوها". الموضوع الفلسطيني لم يستأثر بالمنتدى الاقتصادي رغم ما كان له من وجود ملحوظ في المناقشات وبالذات في المناقشات العلنية الحادة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وبين الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ونائبة مساعد وزير الخارجية الاميركي ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس. الاصلاح هو الذي استثأثر بالمنتدى. وزير المال الاردني باسم عوض الله الذي اشرف على تنظيم المؤتمر في للسنة الثالثة قال:"تخرّجنا من 2003 عندما كنا نتحدث عما اذا كنا في حاجة الى الاصلاح ام لا. الآن، البحث قوي في اولويات وحكومات الاصلاح. الحوار تعمق في وتيرة الاصلاح وبالذات الاصلاحات التعليمية والاقتصادية. وصنّاع القرار يتحدثون هم ايضاً عن الاصلاح الآن". دعوة الطلاب من جميع الدول العربية للمشاركة في المنتدى جاءت من العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني كي يكون للشباب دور مباشر في التأثير في العملية الاصلاحية. لكن وجود الشباب في المنتدى وفر ايضاً فرصة للملك ليعرّف شابة فلسطينية الى زوجة الرئيس الاميركي لورا بوش لتستمع بنفسها الى معنى العبور عند ثقوب الجدار الفاصل للوصول الى المدرسة في بيرزيت والى تجربة الطرد بدون تعليم. مثل هذه اللقاءات لا تنعكس في الكلمات المدونة في خطاب لورا بوش وانما لها تأثير في عمق ضميرها. هناك انتقاد للملك عبدالله لافتقاده العلاقة المعمقة الضرورية مع فلسطين حسب الناقدين الذين يجدون انحساراً الى"الاردنية"بعيداً عن"الهاشمية"بدورها الاوسع. البعض يرى ان على الاردن المسؤولية القانونية والواجب التاريخي للدخول طرفاً مباشراً في العملية السلمية والمفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين، لأن التوصل الى حل الدولتين يتطلب بالضرورة مثل هذا الدور نظراً للسيادة الاردنية المعترف بها على الاراضي الفلسطينية قبل ان احتلتها اسرائيل عام 1967. ويلفت هؤلاء الى ان الفلسطينيين يتوجهون الآن الى مصر وليس الى الاردن كسند لهم وبثقل عملي. عوض الله يتحدى مثل هذا الوصف للدور الذي يلعبه الملك ويقول ان الملك"مدرك تماماً للعلاقة التاريخية مع فلسطين". يشير الى ان ما عكسته نوعية تناول الملف الفلسطيني في المنتدى هو"التفكير العقلاني في موضوع القدس". ويقول:"تحول الطرح من النظرة العاطفية والاحتلال والعنف وتضحيات الشعب الفلسطيني وانتقلنا الى طريقة اكثر منطقية في النظر الى القضية الفلسطينية. اصبحنا نتحدث عن الاطار واصبحت واقعية الطرح ذات نضج". يشير عوض الله الى ان العاهل الاردني كرس للقاءاته مع الوفد الفلسطيني ورجال الاعمال الفلسطينيين قدراً مهماً من وقته لأنه مهتم بالملف الفلسطيني بصورة فاعلة. الوفد الاردني الذي ترأسه رئيس الوزراء احمد قريع ابو علاء وضم الوزراء محمد دحلان وسلام فياض وياسر عبدربه ونبيل شعث ذهب الى البحر الميت وفي ذهنه البيت الابيض، فرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كان يستعد لاول زيارة له بهذه الصفة الى واشنطن منذ ان رفضت ادارة جورج دبليو بوش استقبال رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات. واقعية الطرح اضطرت الفلسطينيين الى التفكير بكيفية التخرج من مبادرة فك الارتباط مع غزة التي تقدم بها رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون واسرت مخيلة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ومخيلة كامل طقمه. واقع الامر ان تقويم الفلسطينيين للانسحاب من غزة اختلف باختلاف الافراد لكن القاسم المشترك في التقويم كان انصباب واشنطن على غزة من دون غيرها من الملفات في هذا المنعطف والخوف من تحول الانسحاب من غزة اولاً الى غزة اولاً واخيراً. كان واضحاً ان الادارة الاميركية لم تكن جاهزة او مستعدة او قادرة على تقديم الضمانات والتطمينات للفلسطينيين بأن غزة لن تكون اولاً واخيراً كما لم تكن في وارد تقديم برنامج زمني او روزنامة للتطورات بعد الانسحاب من غزة في اتجاه قيام دولة فلسطين حسب خريطة الطريق. لذلك كان في ذهن احد المرافقين المهمين لمحمود عباس في زيارة واشنطن اقناع الادارة الاميركية بأن تضمن على الاقل عودة القوات الاسرائيلية الى حيث كانت بل زيارة شارون الى مسجد الاقصى في ايلول سبتمبر 2002 وما تبعها من اندلاع الانتفاضة. في ذهن لاعب معني بفك الارتباك مع غزة أمر آخر لم ير فائدة في طرحه مع واشنطن لأن لا جدوى في طرحه معها قبل ان يفهم اسرائيلياً اولاً فحوى تفكيره ان فك الارتباك مع قطاع غزة يبرز الحاجة الاسرائيلية الى الشريك الفلسطيني ويعطي المفاوض الفلسطيني ورقة تفاوضية مدعومة بالورقة الانتفاضية كبديل. هذا ما يسميه محمد دحلان وزير الشؤون المدنية الذي يحمل ملف فك الارتباط مع قطاع غزة:"إما تورا بورا او قطاع آمن ومستقر"، ويقول:"إما الامان او القهر والعودة الى دورة العنف". المطالب الاساسية هي اربعة: اولاً، ان يكون لغزة مطار المطار الذي دمرته اسرائيل اثناء الانتفاضة حسب قول دحلان اذ لا بد من اعادة تفعيل المطار. ثانياً: المعابر، بحيث تكون مخرجاً ومنفذاً دولياً وبالذات معبر رفح الى مصر. ثالثاً: ان تكون هناك حرية دخول وخروج من غزة وممر آمن من القطاع الى الضفة الغربية. رابعاً: ما يسمى بال"باك تو باك"اي تحميل وتنزيل البضائع من دون تقييد الحركة بعدد محدود من الشاحنات. الرد الاسرائيلي يختصر بكلمة"الامن"التي بموجبها تبرر اسرائيل رفضها ان يكون لقطاع غزة مطار او مرفأ او معابر او"باك تو باك". الفلسطينيون يقولون:"نضمن"لكم الامن، و"نتعهد"أن لا باصات ستنفجر في تل ابيب لأن اعادة بناء الاجهزة الامنية مستمرة ولأن تقوية السلطة سيمكنها من تنفيذ التزاماتها. الاسرائيليون لا يقبضون التعهدات ويريدون الامتحان. هذا ايضاً ما يريده الاميركيون. يريدون امتحان ما يحدث في غزة بعد فك الارتباط الاسرائيلي معها"ثم نرى". لذلك اوضحوا انهم لن يقدموا الضمانات ولا الروزنامة وانما سيقدمون التطمينات من خلال ابراز اهمية تعهد الرئيس الاميركي قيام دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل والتزامه خريطة الطريق الى تحقيق الرؤية. مصر تساعد في المسائل الأمنية وتقدم التطمينات والضمانات لإسرائيل كي تنسق انسحابها مع الشريك الفلسطيني تجنباً لفراغ تملأه الفصائل المتطرفة. هدفها ابراز قدرة السلطة الفلسطينية على السيطرة على القطاع ونجاحها في"الامتحان"، مما يمكنها من المطالبة بالضفة واقناع الإدارة الأميركية بدعمها في ذلك. في هذه الأثناء، يخشى الفلسطينيون من تقسيم الضفة الى 3 بانتوستونات، واقامة جدار العزل ليس فقط بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما أيضاً"بين الفلسطينيين والفلسطينيين"، حسب تعبير ياسر عبد ربه الذي اعتبر ان مشاريع المستوطنات حول القدس"إذا نُفذت، ستتبخر الأحلام بقيام دولة فلسطينية متواصلة". وهذا جزء مما حمله الوفد الفلسطيني الى واشنطن، إضافة الى الأمل باقناع الإدارة الأميركية بدفع إسرائيل الى"بدء"التفاوض على الوضع النهائي للأراضي المحتلة. محلياً وعربياً، اهتم الفلسطينيون في منتدى البحر الميت برجال الأعمال العرب ليوجهوا اليهم دعوة الواقعية والعملية بلغة الاستثمار. قالوا لهم: ابنوا المطار وابنوا المرفأ في قطاع غزة بعد فك الارتباط. تعالوا الى القدسالشرقية باستثماراتكم كوسيلة من وسائل الاحتفاظ بها والحفاظ عليها. وأهلاً بكم الى حضور مؤتمر اقتصادي في بيت لحم باشراف المنتدى الاقتصادي العالمي. هذه الدعوة انطلقت من المنتدى في البحر الميت لإقناع العرب بالمغامرة المالية لربما مقابل مردود كبير بكبر المغامرة، لكن الاستثمار في مساعدة غزة بعد الانسحاب يجب أن يكون باندفاع الى دعم الفلسطينيين بأكثر من مجرد علك الكلام، اذ حان الوقت للسيولة العربية أن تكون مسؤولة لتشارك حقاً في اصلاح المنطقة العربية بأكثر من المطالبة بالإصلاح لمصالحها ومصلحتها الأنانية. حان الوقت لبيئة الاعمال أن تدقق في نوعية الشراكة المطلوبة منها في المشاريع السياسية والإصلاحية. عليها العمل بمواطنية، كما عليها مسؤولية مساعدة الفلسطينيين عندما تُتاح الفرصة. والفرصة متاحة الآن في غزة. بالنسبة الى مؤتمر بيت لحم الذي يتعهد الفلسطينيون أن يجعلوا حضوره سهلاً بتراخيص وأوراق عبور وبلا مضايقات وبتجنب لطبع التأشيرة الإسرائيلية على الجوازات، يجب على نساء ورجال الأعمال العرب أن يلبوا الدعوة اليه حتى وإن شككوا في موافقة إسرائيل على تسهيله أو منعها من عقده حقاً. ما يحارب الفلسطينيون من اجله هو حرية زيارة الأراضي الفلسطينية واقناع العرب بأن الذهاب الى فلسطين"ليس ابداً خيانة، وإنما هو تعبير عن الايمان بفلسطين والدعم لها"، حسب تعبير نبيل شعث. وقد حان للعرب أن يلبوا الدعوة، وأن يعيدوا النظر في قوانينهم التي تحجب الدعم عن الفلسطينيين وتحجب جهود انقاذ القدس باجراءات عملية. فالفكرة ليست الاستثمار في غزة بعد فك الارتباط مكافأة للاستيطان، وإنما هي فكرة اطلاق فكر وفعل جديد في البيئة العربية من منطلق كيفية دعم قيام دولة فلسطين. عندما دعا"أبو العلاء"الى فطور باكراً في الصباح، لطرح أفكار الاستثمار في القدس، حضر رجال الأعمال الفلسطينيين وغاب رجال الأعمال العرب باستثناء واحد هو فادي غندور رئيس شركة"ارامكس". دُهش الفلسطينيون ولم يخفوا الدهشة. غسان الخطيب سار في الأروقة متسائلاً: كيف لا يُقبل رجال الأعمال العرب الى انقاذ القدسالشرقية؟ وعادت الى الذهن صرخة فيصل الحسيني: تعالوا الى القدس لتنقذوها. في الماضي، كانت الشركات تركض وراء الحكومات، الآن تركض الحكومات وراء المستثمرين. وهذا يبرز أهمية القطاع الخاص في العملية الاصلاحية وفي العملية السياسية. المنتدى الاقتصادي الذي انعقد في البحر الميت ليومين، أسفر عن استثمارات خليجية في الأردن وبالذات في البحرين وقطر والإمارات بمبلغ بليون دولار. وهذا مفيد للأردن. السنة المقبلة ينتقل المنتدى الى شرم الشيخ في مصر ليعود السنة التي تليها الى"وطنه"في البحر الميت، حسب تعبير رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب."لدينا الآن خطة لمسار الرحلة"قال الملك عبدالله مشيراً الى رحلة الاصلاح"والعالم العربي مستعد للاقلاع، ومعاً سنصل الى مقصدنا". المرأة والشباب والتعليم والإعلام والاستثمار الحكيم قضايا اقلعت من البحر الميت، لكن وتيرة التحليق هي التي ستقرر إن كان الهبوط آمناً. الجديد أن القرار لم يعد حصراً في ايدي الحكومات، انها حقاً ايضاً مسؤولية الانتقال من خانة الرعية الى خانة المواطنة.