قبل ان ينتهي مهرجان المربد الشعري الذي عقد في مدينة البصرة للمرة الثانية بعد سقوط صنم الطاغية، ظهر بيان تكفيري وقّعته جماعة اسلامية راديكالية متطرفة تحت عنوان"حرروا اتحاد أدباء البصرة". لغة البيان التي حفلت بالوعيد والتهديد لم تخف طابعها غير"العربي"وغير المألوف في الخطاب العراقي الذي يتسم عادة بنبرة خفيضة بعيدة من التهويل في مثل هذه القضايا ذات الصبغة الدينية. من مفارقات مدينة البصرة لفترة طويلة يكتشف زائرها الآن ان المدينة العراقية الجنوبية بمينائها العراقي الوحيد أصبحت مدينة إيرانية في كل المقاييس. فرجال الاستخبارات الإيرانية اطلاعات موجودون في المدينة. والأغرب من ذلك ان محافظ البصرة يسكن مدينة المحمرة الايرانية وبعد ان ينهي عمله في مقر المحافظة يعود الى بيته في مدينة المحمرة جنوب غربي إيران. احدى فقرات البيان تقول:"لقد تمادوا - ويقصد أدباء البصرة - حتى وصل بهم الحد الى الاستهزاء ببصرتنا وأهلها!! فبعدما جمعوا الحيارى والراقصات وبأسم البصرة في يوم حزنها ودموع أبنائها بذكرى أربعين الإمام الحسين ع حيث جعلوا هذه الايام أيام فرح وكأن للبصرة عيداً لا نعرفه". ولأنني كنت من المشاركين في المربد وفي يومه الثاني تحديداً فقد عقد المهرجان بعد يومين من ذكرى استشهاد سيد الشهداء الحسين ع ولا أعرف اين كانت الراقصات التي يذكرها البيان. ثم ان الحرس الذي كان يشرف على حماية فندق المربد وبأمر من محافظ البصرة صادر من الشعراء المشاركين كل ما كان يحملونه في حقائبهم من"منكر". ولعلّ لغة البيان السلفية الارهابية تنفضح لتكشف عن لكنتها الفارسية الباطنية القادمة من خلف الحدود. ولا يكتفي كاتب البيان بذلك، بل يحرض الآخرين لكي يقوموا بصولة أخرى لتحرير مقر ادباء البصرة من الشعراء والأدباء قائلاً:"لكن عتبي على المثقفين والأدباء الاسلاميين فقد تركوا الواجهة الثقافية اتحاد ادباء البصرة بأيديكم لتعيثوا بها. فأني اذ اوجه النداء لهم بأن يتركوا زواياهم وينطلقوا لتحرير ذلك الصرح الثقافي منكم ليكون اتحاداً مؤدباً وحقيقياً". ومن الواضح ان الراديكاليين الجدد يريدون ان يحولوا كل الفعاليات حتى الثقافية منها الى مناسبات للنواح واللطم على الصدور والرؤوس ومن لا يستجيب لهذه الثقافة فهو سكير وراقوص وكافر بالضرورة. لقد اشتكى أدباء البصرة الذين يتخذون من أحد المقاهي مقراً لاتحادهم من التهديدات التي تضمنها البيان الى الصحافة والمسؤولين في المدينة، لكنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار... فكل المسؤولين عيّنوا في ظروف معروفة. على ضفاف شط العرب يقف السياب مديراً ظهره للجهة التي جاءت منها ثقافة التكفير والنواح الى مدينته. وهو بحركته الحائرة ووجهه المستريب يريد ان يقول: أين انا؟ أهذه هي البصرة؟ ماذا يفعل الجنود البريطانيون اذاً؟ العراقيون مثل شاعرهم السياب لا يعرفون من هو عدوهم. فهم يتساءلون مع أنفسهم عن هذا التواطؤ الذي يجري على مرأى ومسمع منهم. فريق اطلاعات في ابي الخصيب وقوات متعددة الجنسية في العشار! في جلسات المربد الأخير كانت هناك ظاهرة مثيرة للاستغراب، ليس بسبب العدد الكبير ممن يقرأون في كل جلسة أربعون شاعراً تقريباً، ولكن لوحظ أن عدداً كبيراً من الاشخاص الذين كانوا يبيعون الكتب في شارع المتنبي أيام النظام السابق تحولوا شعراء حداثويين الآن. ومن يستمع الى نصوصهم يصاب بالدهشة لقدرة هؤلاء على طرح أنفسهم على انهم شعراء حداثة. الأمر أقل دهشة مع المذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية والصحافيين الجدد. فلا يوجد أسهل من كتابة قصيدة غير موزونة وهذا ما جعل القصيدة العمودية ترفع صوتها عالياً وتتربع على منصة المربد. مرة أخرى يغيب الشعر عن المهرجان ما عدا قصائد قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، والسبب هو عدم مشاركة الكثير من الأسماء الشعرية المهمة كما حصل في مهرجان البابطين في الكويت. فالوضع الأمني المتردي وعمليات الخطف على طريق بغداد - الناصرية منعت الكثير من الشعراء المهمين من الحضور الى البصرة. الشاعر فوزي كريم استأثر بحصة الأسد، فقد خصصت الجلسة الأخيرة له وحده لأن اتحاد الأدباء قرر تكريمه لجهوده الطويلة في مجال الشعر، وهو يستحق هذا التكريم بعد هذه الرحلة الطويلة مع الشعر والمنفى. قرأ الشاعر عدداً من نصوصه التي توزعت على تجارب مختلفة وكثيرة. وتناول بعض النقاد تجربة الشاعر بعد ان انتهى من القراءة وانتهى المهرجان نهاية منطقية سادها الهدوء، فالفرق كان شاسعاً بين جلسة لأربعين شاعراً من ذوي النبرات الشديدة التباين وجلسة واحدة لشاعر ذي نبرة واحدة.