تشكلت خلال العقد ونصف العقد المنصرمين ملامح "خطاب اسلامي جديد" ولدت معظم نصوصه بعد انقضاء الصراع الايديولوجي مع الماركسية بسقوط الاتحاد السوفياتي الدرامي، وكان هذا الصراع حشر الخطاب الاسلامي في زاوية "الهوية"، الهوية بمعناها النافي والمُقصي للآخر دفاعاً عن النفس، وقد أدى ذلك عبر سنين طوال الى حالة فقر مدقع بجعل التطور في صوغ خطاب جديد وتكوينه بطيئاً للغاية. في الواقع ان من المبالغة وصف أي خطاب في "التجديد" بأنه خطاب تجديدي فعلاً، كما انه من غير الانصاف ان يكون كل خطاب لا يتحدث في التجديد خطاباً غير تجديدي، ذلك ان الاساس الذي يمكن اعتبار أي خطاب بأنه داخل في اطار التجديد أو لا. هو ابتداء "الاطار المرجعي" الذي ينبني عليه، اذ يتضمن الاطار المرجعي المسلمات الكبرى التي تحرك اطار البحث والتفكير في أي خطاب. واذا كان كل خطاب اسلامي يفترض ضمناً عدداً من المسلمات، يدخل منها في الاطار المرجعي: الوحي. والسلطة المخولة للتعامل معه وتأويله، فإن الجديد دوماً ليس في نفي السلطة الدينية الاكليروس، فذلك مسلمة الخطاب الاسلامي على وجه العموم، بل في التسليم بمفهوم جديد للزمن الحاضر يختلف كلياً عما سلف من الازمنة، هذا الزمن الراهن هو احد مكونات الاطار المرجعي للخطاب الجديد، بكل ما يعني من معرفة وواقع حال. الغريب ان الوعي الأصولي لا يدرك التناقض الحاصل بين ايمانه بأن التاريخ الانساني "تاريخ متقدم نحو الاسوأ"، وبين "العودة الى الاسلام" في صورته الصحية النقية، بل مع أهم مبدأ ايماني يؤسس عليه تمسكه الديني: "صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان"! وفي حدود هذا التصور المتناقض يسهل فهم كيف اصبح تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول سبتمبر "غزوة مانهاتن"! في عقل السلفية الجهادية. ما كان لدى السلفي التقليدي زمن ثابت أميل لأن يكون زمناً اعتقادياً خالصاً، يتخذ بعده الواقعي في الخطاب الاصلاحي والتجديدي، فالتاريخ أزمنة وصيرورات وليس زمناً واحداً توقف عن التغير، وأول اعتراف نشهده على صورة إقرار ب"الانحطاط" أو "التخلف" في المسلمين مقابل "التمدن" أو "التقدم" في الغرب الاوروبي، أي في رؤية ازمة التخلف بصفتها "فواتاً حضارياً"، فقد شكلت الحداثة صدمة للوعي الاسلامي ووضعته في موضع السؤال التاريخي "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟". الوعي بالتاريخ هنا ليس في الشعور بالتغير الثوري الذي حدث في العالم، فجميع اشكال الخطاب الاسلامي الاصلاحي والتجديدي "مؤمن" من غير تردد بذلك، لكن تحليل هذا التغير وتفسيره امر بدا مختلفاً جداً في كل مرحلة من مراحله، وهي تتصل بمدى وعيه للحداثة وتطوراتها المتسارعة قرباً وبعداً. ففيما الخطاب النهضوي لحظ التقدم الغربي في شقه التنظيمي والمادي الطهطاوي والتونسي لم ير ضرورة في تطوير الخطاب الاسلامي. فمسألة "الاصلاح الديني" لم تستبعد وحسب، بل استهجنت ورفض التفكير فيها، وسرعان ما أدرك الاصلاحيون "عبده وتلامذته" في اطار الحقبة الكولونيالية الاستعمارية ان المسألة أبعد من مجرد نقل للحضارة الغربية، وان الفجوة الواسعة والمطردة بيننا وبين الغرب ليست مجرد تطورات تقنية وادارية تنظيمية، انها ايضاً مسألة تطور في المعرفة الانسانية وليس في العلوم المادية فحسب، الا ان تفسير التقدم الغربي بصفته تطوراً عن الصراع مع الكنيسة، وضع الاصلاحيين والخطاب الاصلاحي - بمنطق المقايسة بجامع "علة" متمثلة في النهضة الحديثة ? امام خيار اعادة انتاج للنهضة على الايقاع الغربي نفسه، وهكذا قرر زعماء الاصلاحية عبده وتلامذته أنهم لا بد ان يمارسوا دوراً لوثرياً، بل لقد صرحوا بأن الاصلاح الديني هو مثيل البروتستانتي تماماً! هنا يبدو ان الزمن بدأ يصبح في الوعي الاصلاحي زمن الغرب وحضارته، وليس زمننا الخاص. لكن هذا الوعي بالزمن كان ينبغي ان يقود الى تحولات عميقة في الخطاب الاصلاحي، الا ان هذه الرؤية للتاريخ المفترض انها تؤدي الى نمط تفكيري مشابه للاصلاح الديني اللوثري ما لبثت ان اصطدمت بالواقع الفعلي لمركب الدين الاسلامي: غياب سلطة دينية، ومشكلة مع العلم لا تماثل البتة المسيحية في القرون الوسطى! وسرعان ما ادى ذلك الى انقلاب دراماتيكي للزمن في الاصلاحية الى زمن السلف الصالح! فأصبح الاصلاح الديني يعني العودة بالدين الى ما كان عليه سلف هذه الامة على هدي العقل. انه انقلاب لا نعدم ان نلحظ تأرجح مفهوم الزمن فيه، في مفهوم "العقلانية" الذي ينتمي الى السلف والحداثة في لحظة واحدة! صحيح ان مسألة العقلانية ليست وافدة على الفكر الاسلامي وإرثه الفكري، لكن العقلانية ? كما تبدو في تجلياتها عند الاصلاحية - هي العقلانية الغربية المادية غالباً، فالتفسير المادي للغيبيات معناه اننا اصبحنا في عالم حداثوي تماماً، على الاقل بالنسبة الى الاصلاحية، التي اصبح ممكاناً القول إنها "تلفيقية" من دون تأنيب الضمير. ما بين "وفاة" الاصلاحية وميلاد خطاب التجديد ما يقرب من ثلث قرن، تطورت فيه المعرفة الغربية الحداثية خطوات جبارة، خصوصاً في المعرفة الانسانية بنتائج تجربة تطبيق مبادئ العلوم التجريبية على حقولها، فأصبح الغرب هنا غرباً أعقد، ومسألة المقايسة مع اللوثرية وصلتها بالنهضة والتقدم ما عاد لها نفع، لا بل ان هذه المقايسة ذاتها اصبحت مستهجنة، يعود ذلك ليس الى اخفاق التجربة الاصلاحية التلفيقية فحسب، بل الى حصاد التجربة الحرجة من الصراع الايديولوجي "الاول" مع العلماني المحلي الذي كان ليبرالياً، ثم أصبح يسارياً ماركسياً بعد ظهور الدولة الوطنية بانقضاء الاستعمار، فقد تبنى الحداثي العربي على الاقل المقايسة على التاريخ الغربي للنهضة والتقدم الى اقصاها، ليبرر التعجل الى النتائج، التي ما لبثت ان اصبحت بفعل اخفاق الدولة الوطنية المحدثنة في التنمية الى ايديولوجيا فوق تاريخية، وضعت الفكر التجديدي امام اعادة تفكير جدية بالاصلاح الديني اللوثري، واعادة موقعه للتفكير بالذات. ولا يبدو ان قطيعة مع رؤية الزمن جاثياً في الغرب الذي ولد مع الاصلاحية أمر ممكن، لكن ثمة مسافة اخذت من هذا الزمن حيث بدا ان الصراع الايديولوجي أفرز عنصراً جديداً في مكونات الفكر التجديدي هو "الهوية" والخصوصية، وهكذا اسس اهم منظري الخطاب التجديدي في ذلك الوقت مالك بن نبي مفهوم الزمن كجزء من مفهوم "الحضارة" وهويتها. ولأن المعرفة بالغرب لم تكن على ذلك العمق الذي يمكن من استثمار الزمن الغربي ممثلاً بنتاج حداثته في العلوم الانسانية فقد اصبح لزاماً ان نتصور كيف ان الزمن الحداثي اصبح باهتاً للغاية، عندما بقي الإرث السلفي هو الوحيد فعلياً المحرك للفكر التجديدي آنذاك، فشهدنا ظهور تيار تصالحي ساذج عرف ب"الوسطية" و"الاعتدال"، فطالعتنا كتابات غاية في السطحية تحمل عناوين حداثية ومحتويات سلفية رخوة، مثل: علم الاجتماع الاسلامي، علم النفس الاسلامي... الخ. ليس غريباً بعد ان اصبح مفهوم الزمن الغربي المفارق امراً مسلماً في خطاب التجديد ان نعود لنشهد اعادة تركيب ل"زمن الحداثة" في حضور "أنا" في طور جديد، اذ خلقت الوسطية وكتاباتها السطحية وعلاقتها الباهتة بالزمن الغربي انطباعاً سيئاً للغاية بمعرفة زائفة بهذا الزمن. أعيد هذا التركيب في صورة تأسيس واسع النطاق للعلاقة مع المعرفة الحداثية الممثلة لزمنها في مشاريع متفاوتة الاهمية، لكن أهمها - على الاطلاق - مشروع "اسلامية المعرفة" الذي حاول بناء صورة واضحة عن هذا الزمن وامتلاكه من خلال تأسيس علاقة حضور "الأنا" بالعصر عبره ومن خلاله، لكن هذا ال"عبر" و"الخلال" جزء من عبور مكونات هوياتي، ف"استعمال مصطلح الاسلامية في "إسلامية المعرفة" بُرر في محاولة لتأكيد الهدف التحريضي من جهود الاسلمة في العمل العلمي والمعرفي المعاصر، والهدف النقدي والتقويمي للمعرفة المعاصرة واحالاتها الفلسفية وأسسها النظرية، والهدف العملي في توظيف المعرفة للاغراض المشروعة في الواقع الاسلامي". لقد لقي هذا المشروع، نقداً أبستمولوجياً حاداً، لكنه بمثابة "الفتح" في التنظير للتعاطي مع الزمن الغربي. فالحصار الذي وجد هذا الخطاب التجديدي نفسه فيه في الثمانينات ما لبث ان فتح الأفق ليتشكل خطاب جديد في التسعينات مع استراحة العقل المسلم من أزمة الهوية بانقضاء الصراع الايديولوجي مع الماركسية، اذ صاحب هذا التكون ولادة حركة نقدية واسعة للحداثة الغربية، كان المثقفون الاسلاميون الجدد على مقربة منها، فاللغة ما عادت حاجزاً، اذ تطورت حركة ترجمة بالغة الاهمية توجهت نحو نتاج الغرب الليبرالي الفلسفي والمعرفي حقل العلوم الانسانية، مما ساعد على تكوين رؤية اكثر عمقاً بالحداثة ذاتها، فلم يعد زمن الحداثة العربية على صورته الاسطورية، كما لم تعد المعرفة الانسانية ذاك المجهول المرغوب، هذه المعرفة "الجديدة" بالغرب ما كانت متيسرة من قبل، بل ما كانت ممكنة اساساً، فقد اصبح الانفتاح على الغرب انفتاحاً يسمح بالتعرف الى حدود "الهوية" للأنا والآخر، وأصبح ممكناً التفكير والتعاطي مع المعرفة الغربية باقتدار من دون هتك للهوية او الخوف من الانسياق مع الزمن الغربي الخالص والاسطوري. وهكذا تجاوزت المسألة في الخطاب الجديد مجرد التلقي، اياً كان شكل هذا التلقي، سواء بعد "الفترة" الايديولوجية ام من دون ملاحقة هذه النهايات الفلسفية المادية، فالمعرفة الحداثية اضحت ممارسة فعلية نامية باضطراد. فبدأنا نشهد عدداً من التجارب تتعامل جدياً مع الغرب في مختلف حقول المعرفة الانسانية الحداثية، وان أبرز سمات التفاعل في الخطاب الجديد تراجع مسألة "الهوية" الى موقع خلفي، حيث تخرج عن كونها مركزاً لخطاب ايديولوجي، وعقدة مقابلة لمركزية الغرب، تراجعت الى حيث ليس في الامكان قبول ان تكون المعرفة الغربية معرفة كونية وحسب، وهنا تتخذ الهوية موقعها في تغذية النقد وتقوية السؤال الأبستمولوجي عن الممكن وغير الممكن في الذات والآخر. صحيح ان الحداثة الغربية طموحة الى درجة تنميط العالم على مثالها، الا ان مفهوم "الهوية" يكبح جماحها نحونا. كاتب سوري.