شكّل التعامل مع الغرب والحداثة واحداً من الإشكالات المركزية الموروثة من القرن التاسع عشر والتي انطوى عليها القرن العشرون دون ان تنتهي الى حل يضع حداً للسجال المحموم بين المواقف المتعارضة على ساحة الفكر العربي الحديث، من التأييد الى الرفض الى التوفيق أو التلفيق. في هذا السياق بالذات زخر العام الأخير من القرن المنصرم بأبحاث ومؤلفات ما هي في الحقيقة الا طرحاً متجدداً للموقف التاريخي المأزوم من الغرب والحداثة بمراجعة بعض هذه الابحاث والمؤلفات تطالعنا الحدة نفسها التي تميّزت بها ردود الفعل المتوترة ازاء الحضارة الغربية منذ انفتاحنا الاول عليها. ففي "العلمانية والممانعة الاسلامية، محاورات في النهضة والحداثة"، لعلي العميم، دار الساقي 1999، رأى المؤلف ان "النزعة الحجاجية" تطغى على الفكر الاسلامي الحديث، وأن "الاتجاه السجالي" يطبع غالب نتاج كتّابه، وما ذلك الا لأن "الفكر الاسلامي الحديث، في مضمونه الثقافي، وتعبيره الايديولوجي والحضاري، ردّ فعل معلن ومضمر على حضور الفكر الغربية في حياتنا المعاصرة". فنهوض هذا الفكر لم يكن نتيجة معاناة وتململ داخلي، بل ان "استلهاماً من معطى ثقافي خارجي، هو ثقافة الغرب وفكره. ما أورده العميم في مقدمة حواراته مع أسماء بارزة في الفكر العربي المعاصر، يحدد الأفق الذي دارت فيه هذه الحوارات حيث الموقف من الغرب والحداثة هو الذي يحكم تطلعات المحاورين سلباً أو ايجاباً، حتى ليبدو وكأن تحديات الحداثة أشبه بهاجس يطارد الفكر العربي الحديث بقضايا العلمانية، والدين والدولة، وحقوق الانسان، التي ما فتئت تجرجر عتادها منذ بدء النهضة العربية الى اليوم. من بين المحاورين راشد العنوشي الذي رأى ان ديموقراطية الغرب تلبست بالإلحاد والفضائح الاخلاقية، وبالتسلط على الشعوب، وبالاستغلال الاقتصادي. واعتبر ان مشكلات الديموقراطية والعلمانية وحرية المرأة مستحدثة ولا مبرر لها داخل الاسلام. ومن بين هؤلاء أبو بكر باقادر الذي رأى ان صدمة الغرب لم تكن بالاهمية التي يراها البعض وان عوامل التجديد الفكري كامنة في الثقافة العربية الاسلامية ذاتها. وسعى آخر - فهمي جدعان - الى "صيغة مطورة للتجربة التاريخية الاسلامية تحرص على التعلق بمقاصد الشريعة المحكمة، وتجتهد في بناء مؤسسات عقلانية، وفقاً لجملة القيم التي تستند اليها الحضارة الحديثة". وفي "الثقافة العربية في عصر العولمة" دار الساقي 1999 رأى تركي الحمد في حضارة الغرب المعاصر أرقى ما توصّل اليه الانسان، إن من حيث الإنجازات المادية البحتة أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية. ولكن هذه الحضارة مع ذلك قد أضاعت ذات الانسان، رفعت من قيمة الفردية وأضاعت الفرد عن طريق مكننة كل شيء حقّ تحوّل هو ذاته الى آلة حضارة آلية. هذه الحضارة التي زعمت انها تمثيل للعقلانية الكاملة سوف تستهلك ذاتها في دائرة الانتاج وإعادة الإنتاج، والتقنية وإعادة التقنية، دون معنى يحدد الغاية من كل ذلك، وما تيارات ما بعد الحداثة المعاصرة إلا نوع من الاحتجاج على هذا الغياب للمعنى في الحضارة الغربية. أما "قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر"، مركز دراسات الوحدة العربية 1999 فقد قدّم من خلاله مجموعة من الباحثين العرب صورة للموقف المتناقض والمأزوم من الغرب. إذ بين هؤلاء من وقف موقفاً نقدياً من "التنوير" كلؤي صافي وجلال أمين. رأى الاول ان "العقل الوضعي المعاصر الذي يتخذه رواد العلمانية الغربية قاعدة للانطلاق في عملية النهوض الحضاري هو العقل الذي يُعمِل معول التدمير في جسد الحضارة الغربية، ويولد الفضائح والأزمات الاجتماعية التي تطالعنا كل يوم بوجهها الكريه، من ارتفاع مستمر في معدل الجريمة، الى انتشار المخدرات والإنحلال الاخلاقي والجنسي، الى تزايد حوادث الانتحار الجماعي، الى تفكك الأسرة والشذوذ الجنسي". وما أزمة العقلانية الحداثية الغربية هذه الا نتيجة لتغييب المبادىء العلوية والقيمية وهي ستظل تزداد اتساعاً وشدة طالما بقي العقل الحداثي والعقلنة الحداثية خاويين من مثل هذه المبادىء القادرة على إضفاء المعنى وتحديد الغاية لإعادة دور الانسان المتميز والممتاز في نظام الكون. من هنا ان النهضة الحضارية للأمة العربية لا يمكن ان تتم انطلاقاً من الحداثة الغربية، بل تتطلب "تطوير نموذج حضاري بديل انطلاقاً من ذاتيتها التاريخية". ويبني جلال أمين اتهاماته للمنورين العرب وحركة التنوير العربية على افتراضات تعوزها الدقة طوراً وتجافي الحقيقة تارة. فقد ذهب الى ان "دعاة التنوير" العرب رفعوا قيم الحداثة الغربية - التسامح، حرية الاعتقاد، إعلاء شأن العقل والعلم - الى مرتبة القداسة باعتبارها مسلمات غير قابلة للشك، حتى ان التعصّب والتشنج لدى بعض هؤلاء لا يقلاّن عن التعصّب والتشنج عند المتطرفين الدينيين. وبناء على ذلك استنتج أمين ان التنويريين العرب فتحوا الباب لكي تدخل إلينا رياح التغريب حتى كادت تقتلع كل شيء دون ان ينظروا في مفاسد الحضارة الغربية وما جرته من فظائع وجرائم وظلوا مخلصين لتيارات التنوير الغربية باعتبارها "أبدية" ولم يفعلوا في النهاية سوى ان عادوا "الأصولية" التي "تعادي المشروع الصهيوني وتقاوم التوسع الاسرائىلي". على عكس جلال أمين رأى السيد ولد أباه ان الفكر العربي لم يكشف التنوير بوصفه تصوّراً مختلفاً للتاريخ البشري قوامه العقلانية والتاريخانية والحرية والعلمانية إلا من خلال الغرب. في حين رأى عمار بلحسن في الأصولية رفضاً للتاريخ ورؤيا حُلميَّة جماعية للتموضع في عصر وعالم تجاوز التحديدات الدينية والأسطورية. فالأصولية تُلحق العالم بكون أخروي لا يخلق أي سبب من أسباب المناعة داخل الدنيا ويتخذ في الوقت نفسه طابع محو التاريخ وتحدي العصر والحداثة. ما يقود في النهاية الى التيوقراطية والاستبداد وتأخير تشكيل الدولة الديموقراطية والمجتمع المدني. وقد يغطي الموقف الأصولي الى إزدواجية في الموقف من الغرب والحداثة، إذ يأتي الانفتاح على الغرب في هذه الحالة، لا بوصفه حضارة متميزة وفضاءً ثقافياً مختلفاً وإنما باعتبار حداثته "بضاعتنا التي ردت إلينا" على حدّ تعبير راشد الغنوشي في "العلمانية والممانعة الإسلامية"، أو كما تصوّر حسن صعب، باعتبار مواطننا العربية "المواطن الأولى للحضارة الإنسانية والقواعد الأولى للإنسان المنطلق لارتياد المحيطات والقارات حتى ان كل اكتشاف علمي جديد أو اختراع تكنولوجي جديد قد تكون له شجرة نسب تعود به الى جذوره الأولى في مواطننا العربية". ثمة رؤية مختلفة للغرب، رؤية لا تعتمد منطق المدافعة والنكوص والنرجسية والالتفاف على الحقيقة، وتخرج من أسر الأدلجة القومية أو الدينية لتواجه الواقع لا بنفيه أو بالإحتماء بالوهم من تحدياته بل بالاعتراف بثقله ووطأته وقراءته من دون تصورات مسبقة. ولعل هذا ما انتهى إليه علي حرب في "حديث النهايات" 1999، حيث رأى ان التقدم الغربي أحدث أثراً في فكرنا وحياتنا أدى الى ان نتغيّر عما نحن عليه، فالافكار والنظريات والمذاهب التي أنتجها الغرب قد تسللت الى وعينا وعقولنا، والمصطلحات التي ابتكرها علماء الغرب وفلاسفته قد اخترقت لغاتنا وخطاباتنا كما هو شأن مقولات الديموقراطية والعقلانية والتقدم والحداثة والأنسنة والعلمنة وكما هو شأن مصطلحات الهوية والتراث وحرية الفرد. هذه المقولات والمصطلحات هي ثمرة التنوير الغربي والانقلاب على الرؤية اللاهوتية للعالم والانسان. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها ويجب الافادة منها، إذ ان أنسنة العلاقات بين البشر في عصر المعلومة والعولمة مستحيلة بالنماذج والأنساق والتشريعات والتقاليد التي اشتغلت وسادت في العصر المملوكي والمجتمع الأبوي والفكر اللاهوتي الاصطفائي. فالأجدى بنا ان نتعلّم من الغرب كيفية تعامله مع ذاته وطريقة تدبره لأزماته بإقامة علاقات نقدية مع الذات وإعادة نظر في الأنظمة المعرفية وفي المسلمات والبداهات. والأجدى بنا أن نتخلّى عن ممارسة الأستذة على الغرب في ما يتعلق بالشأن الروحاني والنزعة الإنسانية، فيما نحن ننسى ان إنسانيتنا تولّد الفقر والتفاوت والاستبداد بقدر ما تولد النزاع والعنف والاختلاف الوحشي. فمعاناة المرأة عندنا فادحة وسيف التكفير يهدد التفكير وعجزنا عن تلبية الحاجات الاساسية لشعوبنا فاضح و"صناعة الموت هي حرفتنا" على ما تشهد عليه حروبنا وغزواتنا وممارساتنا الارهابية. لقد خرجنا اذن من القرن العشرين بكل هذه الحصيلة من التناقض والتوتر في علاقتنا بالغرب رغم تقدم هذه الإشكالية في الفكر العربي الحديث. ولا يبدو تجاوزها ممكناً، إلا إذا عمدنا الى مراجعة نقدية لكل ما تكون لدينا من أفكار وأوهام وأحكام خاطئة منذ صدمتنا حداثة الغرب مع مطلع القرن التاسع عشر. وأول هذه الأفكار والأوهام، وهم تفوقنا الروحي على الغرب وانهياره الأخلاقي العميم رغم ان هذه المقولة جرى دحضها وبان زيفها وبطلانها من خلال كتابات النهضويين العرب منذ القرن التاسع عشر. الا انها ظلّت تتكرر في الفكر العربي حتى العام الأخير من القرن العشرين، ولو أن كتّاباً متنورين قد نبهوا على الدوام إلى ما حققه الغرب من إنجازات على صعيد رفاه الإنسان وحقوقه، إزاء تعاسة وشقاء الانسان العربي وحرمانه حتى من الحقوق الاساسية للحياة. وثاني هذه الاوهام وهم تقديس الغرب لأفكار التنوير وانسياق المتنورين العرب وراءه في هذا التقديس. وهذا ما يدحضه العقل الحداثي الغربي الذي يقدِّم النسبية على الإطلاق، والمراجعة النقدية المستمرة على الاستكانة الى السائد والنهائي، وليس فكر ما بعد الحداثة إلا نتيجة هذا الموقف المعرفي. وهو ما يُسقطه فكر التنوير العربي كذلك إذ إن أكثر المتنورين العرب إن لم نقل جميعهم قد دانوا مساوىء الحضارة الغربية، من الطهطاوي الى الشدياق والمراش وعبده والأفغاني والكواكبي والريحاني ونعيمة، وكان نقدهم قاسياً ولاذعاً. ولم يذهب أحد منهم على ما قال به جلال أمين، الى التعامل مع القيم الغربية بوصفها "مطلقات أبدية". وثالث هذه الأوهام رفض الحضارة الغربية ومدنية الغرب، باسم نموذج حضاري بديل لا يمكن تصوّره في كل الاحوال إلا انطلاقاً مما أرساه الغرب من قيم العقلانية والعلمانية والنسبية والتاريخانية وحرية الانسان وحقوقه. إن الخطأ الكبير الذي لم يتنبه له الرافضون لحداثة الغرب هو أن نقد الحداثة لا يمكن ان يتم الا بالانخراط في الحداثة وإنتاجها. فطالما نحن على هامش حركة التاريخ وخارج الثورة العتيدة في القيم والافكار والمفهومات والعلوم لن يكون أمامنا سوى تلقّي نتائجها لا يفيدنا في شيء الاعتصام بفردوس الماضي المفقود وقيمة التي لا تفتأ تتهاوى أمام تحديات الحاضر ومستجداته. من هنا يجب ان يُطرح الإشكال التاريخي بيننا وبين الغرب والحداثة. فهل سيحمل القرن الحادي والعشرون نهاية لذلك الإشكال الذي شغل الفكر العربي طيلة قرنين كاملين أم أنه سيؤجّل بعد لقرن آخر؟!. * كاتب لبناني.