لا يستطيع المثقف بما هو ضمير عصره ومحطة انذاره المبكر ان يقف موقف الشيطان الاخرس من الاضطهاد المكتوب في لبنان او غير المكتوب في الفضاء العربي الاسلامي للاقليات غير المسلمة. لسببين أخلاقي وسياسي. اخلاقي: لأنه لا حياد امام الجريمة. سياسي: لأن قنبلة الاقليات - مضافة لقنبلتي الانفجار الديموغرافي واصولية التعليم - نوشك ان نفجرها في انفسنا بكل مازوشية انتحارية. ازددت اقتناعاً بهذه القناعة بعد قراءة تعليق حازم صاغية: "مسيحي لبناني قال لي" "الحياة" صفحة الرأي 10/8/1998 كما ادت الاقليات القومية التي جوبهت بالعنف الى تفكيك الامبراطوريات الثلاث العثمانية، النمسوية - المجرية والسوفياتية قد يؤدي اضطهاد الاقليات في دول الفضاء العربي الاسلامي التي لم ترتفع الى مستوى الدول - الامم بالعلمانية والديموقراطية الى تفكيكها الى كيانات خصوصية ما قبل دولتية تحارب بعضها بعضاً حتى الانهيار المتبادل. يقول حازم صاغية: "ما عبّر عنه هذا المسيحي اللبناني لا ينبغي التواطؤ على تجاهله. المطلوب الانتباه الى هذه المشكلة وان لا يحجبها ضجيج الانماء او الاعمار او الضجيج الآخر الاعلى صوتاً للمقاومة والبطولات. فخلف الواجهة الانتصارية، كائنة ما كانت بضاعتها، هناك كارثة تتجمع عناصرها في الخفاء". فما الذي عبّر عنه هذا المسيحي اللبناني؟ الخوف. من ماذا؟ من التهميش. لماذا؟ لأن الحرب التي دمرت لبنان 17 عاماً لم تنته، كما في 1958 بلا غالب ولا مغلوب، بل انتهت، كما في 1860 - 1861، بغالب ومغلوب. مغلوب الامس كان الدروز الذين خرجوا من معادلة الحكم. ومغلوب اليوم هم المسيحيون الذين شُطب اسمهم من الشراكة المسيحية - الاسلامية لمصلحة معادلة طائفية جديدة: شيعية - سنية ذات مجاهيل عدة. اتفاق الطائف، الذي كان محصلة وفاق سوري - اميركي كرّس استبعاد المسيحيين من الحكم: بإسباغ الشرعية على الحضور العسكري السوري دونما تحديد نهاية معروفة له. وهكذا رفض مطلب اساسي للمسيحيين: انسحاب جميع الجيوش من لبنان وحلول الجيش اللبناني محلها، بتقليص اختصاصات رئيس الجمهورية الى اختصاصات متصرف في العهد العثماني بتجريده من السلطة التنفيذية العليا واحالتها الى مجلس الوزراء وفي الواقع الى رئيس هذا المجلس، كما لم يعد من اختصاصه حتى حل البرلمان، وهكذا غدا شبيهاً برؤساء الجمهورية الفرنسية الثالثة الذين انحصرت اختصاصاتهم في المراسيم البروتوكولية بقانون انتخابي، مستوحى من احكام اهل الذمة، اخضع المسيحيين للمسلمين في الدوائر التي يشكلون فيها اقلية لكنه في المقابل لم يخضع المسلمين للمسيحيين حيث يشكلون اقلية. بالغاء الطائفية السياسية بقصد تحجيم الحضور المسيحي في الادارة. الذريعه؟ احلال الكفاءة: محل الانتماء الطائفي، لكن اجهزة الدولة امتلأت منذ الطائف بالميليشيات التي لا تعترف الا بمؤهل القتل على الهوية وبالمقابل كُتبت البطالة على مقاتلي "القوات اللبنانية" لدفعهم الى الهجرة الى الخارج التحاقاً ب 700 الف مسيحي الذين سبقوهم. ومن بين رؤساء الميليشيات لم يُحاكم الا سمير جعجع وربما حوكمت ايضاً زوجته كما لو ان الثأر الطائفي من المسيحيين تحول الى هيستيريا جماعية لدى منتصرين عجزوا بوضوح عن التحكّم في انتصارهم! المثقفون الذين تحمسوا مشرقاً ومغرباً لالغاء الطائفية السياسية في لبنان يستهجنون مجرد الهمس بامكانية الغائها خارج لبنان حيث لا يحق للمسيحي ان يفكر في الترشيح لأية رئاسة بما في ذلك رئاسة جامعة علمية! اما من فرضوا الغاء الطائفية السياسية فيرفضون الغاء طائفية المجتمع التي هي الجذر التربيعي للطائفية والتي لا بد في لبنان من الانطلاق منها اصولاً الى الغاء الطائفية السياسية بعد تنشئة اجيال جديدة اقل استجابة للعصبيات الطائفية، مثل علمنة الاحوال الشخصية التي تمثل العائق الاكبر لظهور المواطن اللبناني ليتعرف على نفسه في هويته الاجتماعية لا الطائفية. العلمنة الحقيقية لا تبدأ من الغاء الطائفية السياسية بل بالغاء نظام الاحوال الشخصية العثماني حيث لكل طائفة قانونها الخاص بالاحوال الشخصية، محاكمها الدينية الخاصة، ممثلوها في المحاكم المدنية وسجلّ النفوس الخاص بها والحال ان الثورة الفرنسية الغت هذا السجل سنة 1792 جاعلة الزواج المدني اجبارياً لتأمين الانتقال من الدولة الطائفية الى الدولة القومية، هذه هي البداية المنطقية للوصول الى الغاء الطائفية السياسية، الا اذا كان المقصود تهميش وتخويف وتهجير مسيحيي لبنان والشرق او تمهيد الطريق امام حزب الله ليحاول تنصيب جمهوريته الاسلامية التي حذّر منها ببعد نظر نبيه بري منذ 1996. تنصيب اتفاق الطائف ثنائية طائفية شيعية - سنية على انقاض الشراكة المسيحية - الاسلامية نقض للعقد المؤسس للدولة اللبنانية سنة 1920 الذي جعل هذه الشراكة المتساوية شرطاً شارطاً لوجود لبنان. العقد المؤسس قابل للتطوير لكنه غير قابل للانتهاك. واذا انتهك فلا بدّ ان تترتب عنه عواقب وخيمة. إذلال مسيحيي لبنان ومن ورائهم مسيحيي الشرق الذين يراقبون لبنان وايديهم على قلوبهم مناسبة مثالية للتدخلات الخارجية للنفخ على جمرة الحرب الطائفية التي ما تزال تحت الرماد. لان احد اسبابها، خوف المسيحيين من ان يطويهم في جوفه المدّ الديموغرافي والاصولي الاسلامي، ما زال قائماً بل تفاقم اضعافاً ايام "الجبهة الاسلامية العالمية لقتل اليهود والصليبيين" التي تعبّر عن الشعور واللاشعور الجمعيين للاصولية الاسلامية المريضة بكراهية الآخر: اليهودي والمسيحي. لكن، ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه: اذ امكن شطب الدروز من معادلة الحكم في القرن الماضي فمن الصعب اليوم الغاء الرقم المسيحي من معادلة الشراكة المسيحية - الاسلامية في حكم لبنان في عالم مُجنّد ضد انتهاك حقوق الانسان والاقليات، ومع اعتماد متزايد لسورية ودول المشرق على فرنسا التي ما زالت ترى في المشاركة المسيحية - الاسلامية حجر الزاوية في سياسته العربية وخاصة مع فاتيكان مسموع الكلمة في دوائر صنع القرار الدولي. وفضلاً عن ذلك فالثنائية الشيعية - السنية التي فرضها الطائف وتنقيح الدستور لم تحقق "الوفاق الوطني" المنشود بل بالعكس ادت الى انشقاق وطني بين جميع الطوائف بما فيها الشيعة والسنة، فقد صبّت الزيت على نار الصراع الشيعي - السني القديم المتجدد الذي يبدو ان فرضية تحويله الى حرب مفتوحة بين الاصوليتين السنية والشيعية باتت جدية بعد انتصار الاصولية السنية في افغانستان المتحالفة مع باكستان. فمن غير المستبعد ان يستغل الطالبان اضطهاد الطائفة السنية في الجمهورية الاسلامية الشيعة بنص دستورها لتأجيج الحرب الطائفية في ايران مما قد يدفع الملالي الى شن حرب وقائية على الطريقة الاسرائيلية على افغانستان قد تتورط فيها باكستان وهو ما سيقوي الاستقطاب الشيعي - السني على امتداد الفضاء العربي الاسلامي. في هذا المناخ، الثنائية الشيعية السنية في لبنان موعودة بالانفجار وربما بالاقتتال بين الطائفتين على غرار اقتتال "جيش محمد" الشيعي مع "جيش الصحابة" السني في باكستان. الصراع نصف الصامت بين حزب الله والميليشيات السنية المتطرفة في لبنان والصراع الصارخ بين الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري مؤشران على أسوأ سيناريوهات المستقبل. حسب المبارزة السنية الشيعية ان تنتقل من القمة الى القاعدة لتعود الحرب الطائفية ويعود معها لبنان مجدداً الى القاع كصخرة سيزيف: الى مزيد من التفكك والوصاية الخارجية. لأن زعماء لبنان المتنازعين يبحثون دوماً عن الولاءات الخارجية لتعديل موازين القوى الداخلية لمصالحهم. الثنائية السنية - الشيعية الملغومة بتناقضاتها الداخلية في حاجة دائمة الى حَكم بفتح الحاء يضبط تناقضاتها المتفجرة. القوى الخارجية تلعب هذا الدور بالسهر على اقامة وادارة توازنات طائفية وعشائرية هشة تجعل اطراف النزاع دائماً في حاجة الى وصايتها وليس مصادفة ان جميع اطراف النزاع - كما يلاحظ سمير فرنجية - موالون لدمشق. العودة الى العقد المؤسس للشراكة المسيحية - الاسلامية، التي ربما كانت موعودة بالرسوخ اكثر من اية ثنائية طائفية اخرى قائمة او محتملة، هي الضمانة من استفحال الصراع الشيعي - السني في لبنان خصوصاً في المنظور المتفائل لشرق اوسط جديد يتنافس سكانه على الاقتصاد لا على الارض والهوية. في لبنان، كما في البلدان التي لم تعرف الحداثة الصناعية وتالياً الحداثة السياسية، لا وجود للمؤسسات الحديثة التي تشتغل من تلقاء ذاتها كطائرة بدون طيّار، لان السلطة فيها ليست مُشخّصة والشاغلين للمناصب قابلون للاستبدال كالبيادق كما في اوروبا واميركا مثلاً. لذلك فالشخص في لبنان اقوى من المؤسسة ومن البرنامج ومن القانون الذي كثيراً ما يبقى من دون موافقته حبراً على ورق. لهذا السبب بالذات لا بد من الشراكة المسيحية - الاسلامية بتحديد اختصاصات الرؤساء الثلاثة. لا بد من ان تُعاد لرئيس الجمهورية اختصاصاته التي كانت له قبل الطائف. لان الغاءها كان ظلماً وخطأ في آن: من بين جميع الرؤساء العرب الذين يتمتعون بسلطات دستورية واسعة يحسدهم عليها احياناً ملوك الحكم المطلق، تُجرّد الرئيس المسيحي الوحيد من حقه الدستوري في رئاسة السلطة التنفيذية العليا وحلّ البرلمان الايحاء التمييزي الطائفي لهذا القرار ضد مسيحيي لبنان والشرق سافر. والحال ان المنطق - منطق اعتبار خوف المسيحيين من المستقبل وحاجتهم النفسية المفهومة الى الشعور بالامن والامان - يقضي لا بالابقاء على سلطات الرئيس اللبناني وحسب بل وايضاً بتوسيعها لان استقرار لبنان وتحديثه يتطلب نظاماً رئاسياً إسماً ورسماً يجعل الدولة اقوى من الطائفة ومن زعاماتها التقليدية كما حاول ذلك بحظوظ متفاوتة من النجاح الرئيس فؤاد شهاب. لم تلجأ فرنسا الديغولية الى النظام الرئاسي القوي الا كمخرج من شلل برلمانية الجمهورية الثالثة التي كانت تتسبب في ازمة حكومية كل ستة اشهر. شلل البرلمانية اللبنانية قديم قِدَم البرلمان في هذا البلد لذلك ما فتئت ديموقراطيته تنفّر منها قطاعاً متزايداً من اللبنانيين. النظام الرئاسي في لبنان قد يشكل مخرجاً من المأزق الحالي لاختلال توازن السلطتين التنفيذية والتشريعية، بسبب التجاذب السني - الشيعي المضاد لاعادة الاعمار في بلد يرصد 50 في المئة من نفقات موازنته لخدمة الدَّين ويعيش ثلث سكانه تحت عتبة الفقر، كما قد يشكل ايضاً مخرجاً من ديموقراطية هزيلة ومنفّرة الى ديموقراطية قوية على الطريقة الفرنسية او الاميركية تكون فيها للبرلمان سلطة رقابة لا تشلّ عمل السلطة التنفيذية وللرئيس سلطة اتخاذ القرار من دون عوائق. وحفاظاً على التوازن بين الطوائف الذي هو سر بقاء لبنان موحداً يتخذ الرئيس نائبين شيعياً وسنياً يساعدهم على الاضطلاع بمسؤولياتهم مجلس امن قومي من الطراز الاميركي يضم الكفاءات اللبنانية، يتخصص في الصناعة الحديثة للقرار بعيداً عن وصاية الزعامات التقليدية ولازمتها الطبيعية: الوصايا الخارجية. دساتير جميع دول الفضاء العربي الاسلامي باستثناء تركيا الكمالية والسودان الاصولية تنص على وجوب ان يكون رئيس الدولة مسلماً حتى عندما لا توجد فيها اقليات دينية تذكر كالجزائر، فلماذا يبقى الدستور اللبناني حيّياً Hanteuse مفضلاً عدم التنصيص على وجوب ان يكون رئيس الجمهورية مسيحياً؟ والحال ان تقنين طائفية الرؤساء الثلاثة دستورياً والتنصيص على ان رئيس الجمهورية هو الرئيس الاعلى للسلطة التنفيذية صمام أمان التعايش المسيحي - الاسلامي في لبنان ومجلبة للاطمئنان، فكلما اشعرت الاغلبية الاقليات بالامن كلما استغنت هذه الاخيرة عن البحث عن حماة لها من خارج الحدود. افتقادها للضمانات الداخلية هو الذي يدفعها الى التطلّع الى ضمانات خارجية. مهام اخراج لبنان من مأزقه الحالي لن تتحقق سوى بعمل هائل تنهض به النخبة اللبنانية اساساً لتنوير الرأي العام اللبناني وخصوصاً الدولي بحقيقة المشاكل التي يكابدها لبنان وبامكانيات حلها. تحديد سُلّم الاولويات حاسم في السياسة. المهمة التي لها الاولوية على جميع الاولويات هي تحرير لبنان من الاحتلالات الاجنبية، لأنه البلد الوحيد اليوم في العالم التي تحتل اراضيه جيوش اجنبية فضلاً عن ميليشيات وعصابات ارهابية. من دون تحقيق سيادة لبنان على ارضه وانتشار جيشه على جميع حدوده سيظل اللبنانيون خائفين، بعضهم من اسرائيل وبعضهم من سورية ومعظمهم من الاثنين معاً. ولا يمكن انجاز اي وفاق وطني في ظل الخوف من الاخطار المحدقة. والجلاء المتزامن للجيوش الاجنبية يحرر اللبنانيين من الخوف المعطل للمدارك ويخلق دينامية يسمح بمباشرة المهام الاخرى: العودة الى عقد الشراكة المسيحية - الاسلامية بدلاً من الثنائية السنية - الشيعية المأزومة او بدائلها التي لن تقلّ عنها تأزماً كالثنائية السنية - المارونية بغلبة سنية، او الثنائية الشيعية - المارونية بغلبة شيعية. لان اختلال التوازن بين هذه الطوائف الثلاث وتغليب احداها على الطائفتين سبب للحرب. واجتثاث الارهاب والتبني الصادق والكثيف لاستراتيجية السلام العربي - الاسرائيلي امر مضاد لايران وممثليها في لبنان. لانه اذا كُتب لهذا السلام ان يتحقق فإن رجال الاعمال هم الذين سيحكمون الشرق الاوسط على انقاض العسكريين والزعماء التقليديين والملالي وسيديرونه كما يديرون شركاتهم بمنطق الربح والخسارة الاقتصادي بعيداً عن منطق العصبيات الطائفية. وأُفول شبح الحرب العربية - الاسرائيلية سيفسح في المجال للنزاعات الاجتماعية والسياسية الديموقراطية مما سيخفف من وزن العصبيات القديمة لمصلحة التدامجات والتحالفات العابرة للطوائف وغيرها من الخصوصيات، يساعد على ذلك - الاتجاه الجارف الى العولمة الذي يعمل على التحجيم المتسارع لما هو اكسترا اقتصادي في الوعي العام للبشرية ولدى صنّاع القرار ودعاة الديموقراطية من المثقفين المعادين لمشروع السلام العربي - الاسرائيلي أقل ما يقال فيهم انهم لا يعرفون ماذا يريدون، لانه لا شيء اكثر نفياً للديموقراطية من الحرب واجوائها لانها تحرر الميول العدوانية والرغبة في السيطرة المكبوتة من عقالها. وهي جميعاً نفي للرأي الآخر وللآخر نفسه وتالياً للديموقراطية في ابسط تعبيراتها. القبليات APRIORI لا مكان لها في السياسة حيث الافضل هو ما يمكن تحقيقه ضمن موازين القوى القائمة. اذا اتضح ان شروط الحل المتفائل، الشراكة المسيحية - الاسلامية، غير ناضجة، فان تحويل لبنان الى كونفيديرالية او فيديرالية - طوائف وافضل بما لا يقاس من الكبت القسري للتناقضات الطائفية المتفجرة سواء بين الطائفتين الشيعية والسنية او بين الطوائف الاسلامية والطوائف المسيحية، فالطلاق بسلام افضل من طلاق بعد حرب مؤجلة. وبعد كل شيء فإقرار الكونفيديرالية لن يكون في الواقع الا تكريساً للواقع المعاش. الكونفيديرالية موجودة داخل النفوس وداخل الرؤوس وعلى ارض الواقع. لبنان عملياً هو اتحاد طوائف كونفيدرالي غير مكتوب يستظل باتفاق الطائف. * كاتب تونسي.