تشير مخيلة كل من لم يزر السعودية، إلى أن الصحراء تشغل حيزاً كبيراً من مساحة دولة تبلغ مليون و969 ألف كيلومتر مربع. وعلى رغم أن الصحراء تستحوذ على المساحة الأكبر في المملكة، فإنها غابت عن أعين من هم دون الثلاثين، وربما من هم أكبر سناً أيضاً. "لا أعرفها سوى في الأفلام"، جملة كهذه ينطق بها شاب سعودي، ليست مستغربة، خصوصاً إذا كان يسكن في إحدى المدن الكبيرة."أي صحراء تلك التي يتحدثون عنها؟ فليزوروا الرياض أو جدة أو الدمام... كي يشاهدوا صرعات عالم العمران". هذا رأي بندر نافع 26 عاماً الذي يعمل مضيفاً في الخطوط السعودية. بندر يسكن في المدينةالمنورة. ولم يخرج منها في حياته، سوى إلى جدةومكة فقط. بعد وظيفته الجديدة، بات يتنقل بين مدن المملكة. ذهل بندر حين شاهد سلسلة الجبال الغربية جبال الحجاز ومرتفعات عسير بمحاذاة ساحل البحر الأحمر التي ترتفع بين 1300 و3000 متر فوق مستوى سطح البحر. وتنحدر تدريجاً إلى الشرق باتجاه هضبة نجد إلى صحارى الربع الخالي والنفود والدهناء والمنطقة الشرقية. هو يشاهد"كل يوم صحراء وجبال وسواحل هذه البلد الشاسعة". لكن ما أن يحط في مطار الملك فهد في الدمام أو الملك خالد الدولي في الرياض،"أنسى الصحراء والغابات، وأبدأ في التنقل بين بوابات الزمن". سيدخل إلى مدن عمرانية كبيرة، تغير المشاهد البصرية في مخيلته، وتلغي اللون الأصفر الذي كان يشاهده عبر نوافذ الطائرة. الانتقال من وسط السعودية الرياض إلى جنوبها الغربي عسير، يبقى أكثر التنقلات تحولاً. يشعر بندر أنه انتقل من دولة إلى أخرى."من بحر الرمال إلى بحر الغابات"، فالنبات الشجري يغطي نحو 2.75 مليون هكتار، من جبال الحجاز ومرتفعات عسير. غابات العرعر في المرتفعات، وأشجار الزيتون على منحدرات تلك الجبال. حتى جبال طويق في المنطقة الوسطى"تشبه صحراءها، جرداء، ووعرة، لا تشبه جبال عسير الخضر"، يقول بندر. الشاب المولود قبل نحو ربع قرن، كان سعيداً حين جال في منطقة عسير وقراها. يشعر بالغيوم، بل يراها تمر إلى جانبه، كأنها سيارة. يسأل"كيف شيّدت الأبنية فوق تربة خصبة وجبال متعرجة؟". يذكر مكة، وعمائرها التي تتفاوت بسبب جبالها، على رغم أن عدد الطوابق يتساوى. البيئة الجبلية الخضراء في عسير والغيوم التي تمر من هنا وهناك،"صنعت مجتمعاً يختلف كثيراً عن أولئك الذين يسكنون في وسط الصحراء فوق هضبة نجد. كما يختلف أكثر عن أناس يسكنون على ساحلي البحر الأحمر والخليج العربي"، اللذين يمتدان بطول 2500 كيلومتر. البحر الأحمر يبلغ عمقه نحو 2500 متر، ورأي بندر:"يصعب عليك أن تفهم أهل جدة". ربما كان لعمق البحر دور في تكوين سكان ساحله. بندر يرى أيضاً أن"أهل المنطقة الشرقية بسيطون وواضحون، ومنفتحون أكثر من سكان مناطق المملكة"، والخليج العربي يعد من البحار الضحلة المغلقة! "السعودية دولة تضم دولاً عدة، ببيئات مختلفة"، رأي بندر هذا لا ينفي أن البيئة العمرانية في المملكة، من أهم البيئات المتنوعة بحسب المناطق أيضاً. بدأت هذه البيئة إلى جانب المصانع بالتهام الأفق، خصوصاً لأولئك الشبان والفتيات السعوديين الذين لم يعرفوا الصحراء في حياتهم. فالدولة التي تسيطر عليها الصحراء في معظم مساحاتها، تحولت في عقود قليلة إلى مدن حديثة بكل المقاييس. كانت هذه المدن مجرد قرى صغيرة، قبل أن تصبح عملاقة يقطن فيها ملايين البشر ، الرياضوجدةوالدمام... الصراع بين التقليدي والحديث، واضح في تصاميم المباني. ربما بدأت البيئة العمرانية والصناعية السعودية مع"أرامكو"في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، بمجمعاتها ومخيماتها السكنية في الظهران ورأس تنورة وبقيق. الصحراء تختفي تدريجاً، وتظل في الصور الشعرية، لشعراء العامية والمحلية السعودية. "لم تعد السعودية بلد الصحراء، ولن يبقى جنوبها أخضر طويلاً. العمران يلتهم كل شيء"، هذه خلاصة كلام بندر. لكن هذا العمران الذي تكلم عنه، يقف عاجزاً أمام جبال السعودية، وكهوفها ال297 ، بحسب الهيئة العليا للسياحة، على رغم أن أبنية كثيرة تبنى فوق تلك الجبال. فهل يجيء يوم تزيل فيه المصانع هذه الجبال والكهوف؟