مما لا شك فيه ان من فوائد النفط وعوائده على المجتمع العربي منذ 1973، وحتى الآن، انه كان مصدر دخل بالعملات الأجنبية لدول عربية كانت في اشد الحاجة إليها. ولو تأملنا في الدول العربية المصدرة للعمالة في الخليج كالأردن وفلسطين وسورية ومصر والسودان ولبنان، وحديثاً المغرب، لرأينا ان جزءاً معتبراً من الإيرادات السنوية التي تتوافر لهذه الدول، تأتي من دول الخليج الست. فالأردن يعتمد مثلاً على دول الخليج في تحويلات من العاملين في الخارج، والتي تناهز بليوني دولار سنوياً، ومصر تتلقى مبلغاً يفوق ذلك من الدول نفسها، والسودان ولبنان وسورية، جميعها تتلقى عوائد العاملين في دول الخليج بمبالغ تتراوح بين واحد و2.5 بليون دولار لكل دولة سنوياً. ويضاف إلى مبلغ التحويلات، الاستثمارات الخليجية في هذه الدول. وكان الأردن من المستفيدين الكبار من الاستثمار الخليجي في المصارف والأراضي والشركات الكبيرة. ويقدر المعدل السنوي لتدفق الاستثمارات الخليجية إلى الأردن بنحو 500 مليون دولار سنوياً، في الفترة بين 2001 و2004. وقد بدأنا نلمس تدفقات واضحة باتجاه المغرب وتونس والجزائر، واهتماماً متزايداً بالسودان. ولولا الأحداث الأخيرة في لبنان، لكان التدفق الاستثماري إليه الأكبر بين الدول العربية المصدرة للعمالة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك الصادرات السلعية التي بدأت تتزايد عبر منطقتي البحر الأحمر، ومن خلال النشاط القائم على إعادة التصدير عبر بعض دول الخليج. هذا اضافة إلى القروض الميسرة المقدمة من مؤسسات الاقتراض التنموي الخليجية، أو عبر الصناديق العربية المشتركة. عدا عن القروض المباشرة من المصارف أو من الحكومات أحياناً. من هنا لا داعي لإنكار الدور الكبير لدول الخليج في دعم اقتصاديات الدول العربية، لكن دول الخليج التي دخلت مرحلة تنويع اقتصادياتها، وتتنافس في ما بينها، بدأت تبني نشاطات جديدة تنافس مصادر الرزق في الدول العربية المصدرة للعمالة. ومن بين هذه النشاطات السياحة والطيران والشحن واعادة التصدير واستقطاب الاستثمارات الأجنبية والتصنيع، خصوصاً في مجالات مواد البناء والمواد الغذائية والحديد والألمنيوم وغيرها، وحتى في مجال التكنولوجيا المتقدمة والفنادق والأدوية وصناعة الخدمات التي صارت دول الخليج منافساً قوياً فيها. وهذا الأمر بحد ذاته ليس ضاراً، بل هو مفيد جداً. فنحن في الوطن العربي حريصون على إذكاء روح المنافسة لرفع مستوى الإنتاج، وندعم قدرة العرب التنافسية على ولوج أسواق جديدة. لكن اللافت هو استمرار اللاتماثلية، أو عدم التبادل على قدم المساواة، في النظرة الاستثمارية والتعامل مع الاستثمار. فنحن رأينا، مثلاً، ان قلة من دول الخليج تسمح للمقيمين بالاستثمار في أسهم الشركات الخليجية، علماً ان أسواق البورصة في هذه الدول قد تستفيد كثيراً من مشاركة المقيمين في دول الخليج. ولذلك، نرى ان الدول العربية تبذل جهوداً لاجتذاب الاستثمارات الخليجية في جميع القطاعات، وبكل الوسائل. بينما نرى ان دول الخليج تحرم المقيمين لديها، والمحسوبين ضمن تعدادها السكاني، من حق استثمار مدخراتهم فيها. وعليه، فإن بداية التغيير التي حصلت بمقادير محسوبة، وفي قطاعات محددة، يجب ان يشار إليها بالثناء والتقدير. فالإمارات تسمح للمقيمين بشراء الشقق والمساكن، وكذلك بالمساهمة في عدد من الشركات. أما الدولة التي فتحت الأبواب للمقيمين فيها للاستثمار في شكل واضح، فهي قطر، اذ وضعت 29 شركة من بين الشركات ال30 المطروحة أسهمها في بورصة الدوحة، أمام المقيمين للاستثمار فيها، علماً ان ثماني شركات ستفتح باب الاستثمار في اسهمها بحد أعلى قدره 25 في المئة من مجموع اسهمها، وأن شركتين كانتا مفتوحتين اصلاً، هما: "الاتصالات القطرية" و"السلام الدولية". لقد سبق وذكرت في هذه الزاوية، قبل أكثر من شهر ان أسواق البورصات في دول الخليج تتمتع بالعمق وتعاني الضيق. والمقصود ان كل سهم مطروح يتم تداوله بمبالغ كبيرة، لأن عدد الأسهم كبير، بينما لا يزيد مجموع الشركات المطروحة أسهمها للتداول عن عدد محدود يبلغ أقصاه 40 شركة، أدناه 15 شركة. ولذلك فإن السماح للمقيمين بالشراء في عدد محدود من الأسهم سيلهب الأسعار في البورصات، علماً ان بورصة الدوحة هي مستقلة أصلاً، وان أخذت تميل نحو البطء، حتى صدور القرار الجديد. ان منع المقيمين من دخول المدارس والجامعات العامة، ومن الاستشفاء في المستشفيات الحكومية، خلق آلاف الفرص الاستثمارية في قطاعي التعليم والصحة بالذات، لكن دول الخليج ستبدأ الواحدة تلو الأخرى في الانفتاح، وفي تسهيل إجراءات الاستثمار لرعايا الدول الأخرى، والدولة الأكثر فطنة هي التي تفتح الأبواب سلفاً. لقد رأينا ان عدم انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية، وحرصها على الحفاظ على حقوق أصحاب العمل فيها من الأوروبيين، جعلا بعض دول الخليج الأصغر اقتصاداً، تميل الى الانفراد في التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة، وربما ينفرد بعضها أيضاً في التوقيع على اتفاقية الشراكة مع اوروبا. ووسط هذا الكيان المعقد من السماح وعدمه، لماذا لا يجري تواصل جاد بين دول الخليج وبقية الدول العربية لفتح آفاق الاستثمار وحمايته، حيث يبدو ان الجميع بحاجة إلى هذا الأمر؟ واذا كانت هناك خشية من سيطرة جهات أجنبية على بعض المؤسسات الاقتصادية الخليجية المهمة، فإن مثل هذه المخاوف لا ينطبق على العرب بتاتاً. أما التجارة فقصتها قصة أخرى. * مستشار اقتصادي - البصيرة للاستشارات