يوم َ هربتُ من العراق، كنتُ أفكّر، كأيّ هاربٍ، في الثأر في يوم العودة. وليس الثأر عند الشاعر، أكثر من الكتابة، ولقد قلتُ مرّةً: إنّ القصيدة ملجئي الوحيد للثأر. لكنّما القصيدة قد لا تحضر، فيكون المقال، عندئذٍ، تعويضاً. في الساعات الأولى للهرب فكّرتُ في المقال... وفي عنوانه أيضاً:"المهزلة البدويّة"، وعدلتُ عنه. فالأمر، قلتُ في نفسي قبل كلّ تلك السنين، أقسى من مهزلةٍ بدوية. ثمّ نسيتُ المقال، وبدأتُ رحلة المنفى الشاقّة، متذكراً صحبتي، الأحياء منهم والأموات في كلّ خطوةٍ أخطوها. فلقد كنتُ شاهداً على الجحيم، وهارباً منه. ولقد كنتُ أحسبني مديناً لهم، ذا واجب روحيّ، في نقل ما هم عليه إلى العالم. كان المشهد الثقافيّ، في المنفى، مشهدَ خدمٍ للديكتاتور، ومشهد خائفين منه، ومشهد لاعبين ماهرين وصيادي فرص. وكنتُ أقتربُ من الخائفين، فهم الشعراء، الفقراء، العزّل، أمام جبروت نظامٍ كان إذا قتل معارضاً في دولةٍ مّا، محت له تلك الدولة آثار جريمته معتذرةً عن إيوائها القتيل. وثمة من دول الحرية من سلّمت له معارضين"فرنسا الثمانينات مثلاً". أخذتُ أقول عن هروبي، إنه كان هروباً شعرياً لا حزبياً، حتى لو كان الديكتاتور أصدر حكماً قاسياً عليّ. والخروج الشعريّ، لا يُفهَم عادةً في الساحة العراقية الحزبية، فالهرَبُ حزبيٌّ، والهارب من الأحزاب لا يهرب إلا بعد أن يتيقن تماماً من حماية الأحزاب له. ولذلك ترون الهاربين الحزبيين يتكومون أكواماً في كلّ حيٍّ من العواصم الكبرى، قد لا يفصل بين اثنين منهم غير جدار. كان المشهد الثقافيّ سفسطائياً، وعملياً، كذلك الذي شاع بديلاً ومضاداً للفكر التأملي، كما قالت لنا الكتب، بعد انهيار ديموقراطية أثينا. وحين أردتُ أن أقربه إلى مثيلٍ عربي، لم أجد غير زمن ما بعد مقتل عليّ، حين تخلت الدولة العربية، إلى الأبد، عن العدالة الشعرية في الحديث النبويّ المعروف:"ادرأوا الحدود بالشبهات". الرحلة إلى المنفى، هي رحلة البحث عن مأوى. فهِمَها بعضهم فهماً عملياً ناجعاً فامتلك بيتين وأجّر واحداً! المنفى ليس بيتاً، كذلك البلاد التي يحكمها ديكتاتور. منطقٌ يقول به الشاعر الفقير، المنعزل. ولا يقول به الشاعر السفسطائيّ، والعمليّ، والشاطر، الذي ربح من الاثنين: الديكتاتور والمعارضة. لكنما العزلة، التي يختارها الشاعر الفقير، مهما أُحكِمَتْ، لا تبعده من التماس مع الآخر العمليّ، عندما يبدأ الأخير لعبة تحرير البلاد، علناً. حتى لو كان هذا التماس مجرّد آهة من بعيد. يمسح الأول دموعه، ويمضي إلى الكتابة. أنا أعزل أمام الحرب. أعزل بلا تاريخٍ ينجيني من الضياع. كنتُ أحسب أنّ التاريخ يأتي إليّ في كلّ مرة أقرأه، أي في كلّ مرة أطلبه. كنتُ أظنني لن أكون غريباً عنه، وأنا أقرأه في الدين والأدب كثيراً. ألتهمه كلّ يوم كما يلتهمه قراؤه المحافظون. لكنني أعزل، بلا تاريخ ينجيني من الضياع. أهو ثأرٌ مني، ألاّ يأتي في هذه العزلة، وأنا لا أنظر إلاّ إليَّ فلا أحد معي يسمعني، أو يُسمعني نفسه؟ وفي النظر إليّ أبحث عن مكونات ما أدّعيه في الشعر، الآن، أو ما كنتُ أدعيه خلال العقود الثلاثة الماضية. ولكنني لا أكاد أعثر إلا على الطبقات السميكة المتوارثة للعقل، تلك التي حفظناها في البيت وفي المدرسة. تلك التي لقنونا إيّاها تلقيناً. وأكثرها كان مواعظ ونصائح. وبعضها كان تعاويذ... ورقىً. ولكن أين ذلك التاريخ بكلّ كتبه وأحداثه وأبطاله؟ لا شيء في الذهن الآن. على رغم أنّ حياتي في هذه العزلة ليست غير نشاطٍ لا ينقطع من التذكّر، تذكّر كلّ شيء. فهو الحوار الآدميّ الوحيد، الذي أقوم به، والذي أسمعه. أيكون كلّ هذا لأنني شاعر. جربتُ ألاّ اكون شاعراً ليومٍ واحد. ثمّ وجدتُني أسأل نفسي: هل أنا شاعر كلّ يوم؟ ما معنى أن تكون شاعراً في الحياة داخل البيت، المغلق بابه، المسدلة ستائر نوافذه؟ هل أنت شاعر حين تتحفّز للكتابة، وأثناءَها؟ ألستَ شاعراً قبل الكتابة، قبل أن تتحفز لها؟ ألستَ شاعراً بعدها؟ ثمّ وجدتُني أسأل نفسي السؤال الصعب: هل الشعر كتابة؟ سيل الأسئلة حين يبدأ، لا يتوقف، إلا بالقطع المتعمد. قطعٌ إذاً، كما يكتب السينمائيون في سيناريواتهم. هل الشعر تاريخ؟ لا مفرّ إذاً من الأسئلة. أنا أعزل بلا تاريخ لأنني شاعر. ولكن لمَ لا أدخل إلى التاريخ من الشعر؟ ألم أذكرْ علياً قبل صفحة فولسكوب وبضعة أسطر. فلماذا لا أذكر حديثه الشهير بعد انتهاء معركة الجمل: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري؟ و"عُجَرُهُ وبُجَرُهُ"في المعجم: عيوبه وأمره كلّه. ويضع المعجميون العرب، عادةً، في هذه المادة، حديث عليٍّ المذكور. وعدد من المؤرخين يرويه شعراً، وأثبتَه منهم طه حسين في كتابه"الفتنة الكبرى". لكنني أميل إليه قولاً مملوءاً بالشعر، بل هو الشعر كلّه، أكثر منه بيتاً منظوماً. لذلك اكتفيت منه بصدره"أشكو إليكَ عُجَري وبُجَري"وهو من الرجز، وأهملتُ عجزه، ووجدتُه في حاله هذه أقرب إلى الاقناع من بقائه مرتبطاً بالعجز المهلهل، أو بالحديث المعتمد في المعاجم. إنه يبدو الآن قولاً جاء موزوناً بالمصادفة."أشكو إليكَ عُجَري وبُجَري"هذا ما أحبه. وقد قاله عليّ أثناء تعرّفه على القتلى من أنصاره في الميدان، وعلى القتلى من معسكر أعدائه وكان فيهم أصدقاء حياته كلّها... في مشهدٍ تراجيدي، لم أقرأ له مثيلاً، قطّ، في التاريخ. أَوَ ليس هذا تاريخاً؟ لا. لقد كنتُ في حضرة الشعر والتراجيديا... ولم أزل فيهما. فلم تأخذني الأحداث بعيداً منهما. بل انني لا أتذكر الأحداث، أو لا أرغب في تذكّرها. لكنني فرحٌ لأنني تذكرت ذلك الحديث، ففيه نمو لهذه الكتابة يشبه النموّ الدرامي في المسرح الكلاسيكي: بداية، وسط، ذروة أو نهاية. هل أنا في البداية؟ هل أنا في الوسط؟ أم أنا في الذروة؟ تكثر الأسئلة في الكتابة، لأن الشاعر كائن حيران، ولأن الحيران يسأل. قولُ عليٍّ، بكاءٌ في الحرب، ونحن في حرب. شعر يلغي التاريخ، يلغي الأحداث وروايتها. لن تكون لدينا أحداث نختلف في صدقها، ودقة حدوثها. لن يكون لدينا رواة، يجهدون أنفسهم ويجهدوننا ب:قال فلانٌ، نقلاً عن فلان. لأنّ الشعر حاضر، وحين يحضر الشعر يختفي الحدث والرواة. لن يكون لدينا غير الحديث نفسه، وقوة العاطفة وصدقها التراجيدي. لكنّ أحدنا يتمنى لو أنه يقوله، لو أنه يسمعه، وصور ضحايا الحرب تُعرَض على شاشة التلفزيون كلّ حين. في أحد أيام الحرب آذار/ مارس عام 2003 عرضت محطة تلفزيون الBBC ريبورتاجاً لمراسلها من مدينتي الناصرية، كانت طائرات الكوبرا، فيه، تطلق من منتصف نهر الفرات صواريخها على البيوت في الضفة المقابلة، فتنفجر البيوت. يومَ هربتُ من العراق، لم أكنْ أفكر في قول عليّ بين قتلى معركة الجمل، بل كنتُ أفكّر في قصيدة العودة أو في مقالها... في ثأري الشعريّ، في حلمٍ يتشوّه الآن بالحرب وبضحاياها. لم أكنْ افكّر في أنّ ثمن تحقيقه سيكون جثثاً مرميةً في شوارع المدن والطرق الخارجية، وجرحى مقطوعي الأيدي أو الأرجل، نائمين على أسرّة عتيقة في مستشفيات مدنٍ محاصرة سنرى المشهد ذاته في عنف أشدّ في ما بعد، أبطاله انتحاريون عرب يفجرون أنفسهم"بأحزمة ناسفة وبسيارات مفخخة"ليقتلوا بشراً عراقيين في الطرقات والجوامع والأسواق والباصات والأعراس والمآتم... إلخ. كان مشهد نهر الفرات سوريالياً بامتياز: منفيون يحلمون بالعودة إلى بيوتهم. يأتي محررون يعلنون الحرب على الديكتاتور حتى يعود المنفيون إلى بيوتهم. لكنهم في حربهم على الديكتاتور يطلقون صواريخ على البيوت الواقعة على ضفة النهر. يعود بي هذا المشهد إلى الجمال الذي يتخلى عن الأخلاق. فليس أجمل من بيوتٍ عراقيةٍ على نهر الفرات في فصل الربيع، حيث السماء زرقاء، والطيور تتنقّل من قصبٍ في النهر، إلى حدائق البيوت، وإلى سياج الجسر القريب، وأعمدة الضوء فيه. يكتب شيللر، الشاعر الألماني، في عام 1793 مقالاً"عن الرقّة والكرامة"يبحث فيه عن نظرية للجمال ليعاكس كانط الذي كان يقول في"نقد العقل العملي"1788: عليك أن تتصرّف معتبراً أنّ غاية ما تريده لا تتنافى مع القانون العام. كان الشاعر يريد من الواجب أن يتسق مع الرغبة فطالب بموقف أخلاقي يكون في الوقت نفسه جميلاً. كان يبحث عن"الروح المنصفة الطاهرة"1. مؤكّدٌ، أنّ مُطلق الصواريخ من طائرة الكوبرا لا يفقه شيئاً عن التفلسف في الجمال. وقد يكون اعتقد أنه في فعله ذاك إنما يحقق الجمال كله. يتثقف الأمر ذاته بعاطفةٍ مّا، في مشهدٍ للجنرال الأميركي باتون، أحد أشهر محرري أوروبا، في الفيلم الذي يحمل اسمه كتبه فرانسيس فورد كوبولا وأخرجه فرانكين ج شافنر 1970، عندما يصادف دباباتٍ محترقة وجثثاً مكومةً قربها، فيقول:"كم أحبّ هذا، إلهي؟ أحبّه كثيراً، أكثر من حياتي. قول الجنرال باتون نقيض شعري لشيللر، وللروح المنصفة الطاهرة. وهو نقيض شعري وتراجيدي لقول عليّ، حتى لو اختلفت المعركتان، واختلف دافع القولين. قول باتون هنا تاريخ يلغي الشعر. ستكون لدينا أحداث نسعى لتذكرها، سيكون لدينا رواة يتفننون في روايتها. لأنّ الشعر غائب. وحين يغيب الشعر، يظهر الحدث والرواة. لن يكون لدينا بكاء الرجل المنتصر، بين الجثث، بعد المعركة. إنما فرح عاشق الحرب وهو يتشمّمها في الدبابات المحترقة والجثث الملقاة، بلا أي تضاد معنويّ يحتّمه الشعر بينه وبين المشهد، بل في انسجامٍ بليد مع مضيّ الحدث في الزمن، كما هو التاريخ عند الرواة. قول باتون، الجنرال، نتيجة يصل إليها، عادةً، الفكر السفسطائي ومن ورائه الفكر العملي ? الانتهازي. قول شائع يقال غريزياً في الحرب، كلّ حرب. إنه الجمال مقلوباً، متخلياً عن الأخلاق. إذاً أنا أعزل بلا تاريخ. لأنّ الشعر يلغي الحدث... عماد التاريخ عند الرواة. أو لأنّ الشاعر، تراجيدياً، يكتفي من الحدث بذروته، ومن الذروة بما يصفو منها شعراً. سنكون في صلب المصير الشعري الفردي الأعزل، المتأمل في مأساته. سيكون هذا المصير في ألمه كله، هو الجمال التراجيدي بحق. أنا أعزل بلا تاريخ ينجيني من الضياع. لأن الشاعر، أمام الحرب، كائن ضعيف، سريع البكاء، كما هم البشر الطبيعيون، الخائفون من الديكتاتور، الذين يرتعدون خوفاً كلما تذكروا مخطط هربهم. أو الذين كانوا إذا حلموا ذات مرةٍ بعودتهم إلى بغداد يفزون من النوم بكابوس، لا أكثر منه غير الموت: هل يُعدَمون اليوم؟... كيف يهربون من بغداد ثانية؟ الخائفون من الديكتاتور، لا خدمه، ولا اللاعبون الماهرون وصيادو الفرص، هم الشعراء الذين، في ضعفهم، يخافون من الضياع، فيظنون التاريخ مخلّصاً لهم، روحياً وعقلياً، يلم لهم شتاتهم في غربتهم الغربية بتعبير السهروردي، لكنهم يكتشفون في موتهم البطيء أمام شاشة التلفزيون، وفي تجوالهم الخجل في شوارع منفاهم، أنّ الشعر قد ألغى التاريخ، في تكوينهم الروحي والعقلي، وأبقى منه، من كلّ حدثٍ وحكاية، ذروةً، هي الشعر نفسه، وهي التراجيديا. أواخر آذار 2003.... هولندا. شاعر عراقي مقيم في هولندا.