أتاح شبه التوافق المرتجل في لبنان تسمية نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة بمهمات محدودة: اجراء الانتخابات منزّهة من الضغوط والتدخلات، ومعالجة تداعيات الأزمة التي نجمت عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومن الواضح ان شيئاً من الواقعية ساهم في صنع هذا التوافق، اذ تقدمت المعارضة الخطوة ولاقتها الموالاة بخطوة مماثلة، ليتأكد مرة أخرى منذ بدء هذه الأزمة ان الموالاة على غالبيتها النيابية لم تعد تستطيع ادارة السياسة اللبنانية من دون المعارضة، وان الأخيرة هي التي تقود ما سيكون في حين ان الموالات لا تزال تحاول تغليب ما كان في البلد ولم يعد في امكانه ان يكون. الأكيد ان شبه التوافق هذا لا يكفي. ثم ان اجراء الانتخابات لا يكفي وحده كهدف. وبديهي ان وجود تكتلين سياسيين مشرذمين بين معارضة وموالاة لا يكفي ايضاً لصنع وفاق حقيقي. وهذه الانتخابات لا يمكن خوضها، للمرة الأولى، على النمط السابق، بل ينبغي الاستناد فيها الى برنامج سياسي وطني واضح التوجهات في التعامل مع كل عناصر الأزمة. فالمسألة اللبنانية ليست داخلية فقط، بل ان ابعادها الخارجية المتعددة الأطراف والأهداف تزيدها صعوبة وتعقيداً. لكن مهما كبر نفوذ هذه القوة الخارجية أو تلك، يبقى الأهم ان يتوافق اللبنانيون على ان السلم الأهلي والاستقرار الداخلي مصلحة للجميع. ومهما بلغت خلافاتهم الداخلية يجب ان لا تدفع بهذا الفريق أو ذاك الى دخول مراهنات خارجية سبق ان جرّبت واختبرت ولا جدوى من تكرار التجارب. ليس هذا التحدي بجديد على لبنان واللبنانيين. دائماً كانت للخارج حصة في مناوشاتهم، لكن الفرصة التي أتاحها الشارع والمجتمع برفضهما القاطع للعودة الى مناخات الحرب الأهلية وممارساتها يجب ان لا تفوت، بل على العكس يجب ان تستثمر لترسيخ هذا التوجه السلمي ونقله الى الحياة السياسية. على القوى الخارجية ان تتكيف بدورها مع هذا التوجه، وان تدرك انها لا تستطيع تحقيق مصالحها الا من خلاله وبالتالي لم يعد هناك ما يمكن ان تراهن عليه من افتعال الانقسامات والتوترات أو من"عسكرة"التناقضات السياسية والطائفية. من شأن المجتمع السياسي اللبناني، وهو الآن في أوج تأهبه، ان يطرح مشروعه للمستقبل من دون عقد أو تشنجات. اذ لا يجوز استخدام هذا التلاقي لجميع الطوائف، خصوصاً في تظاهرات المعارضة لتحقيق بعض الأغراض الفئوية، ثم العودة الى التخندق في معسكرات الطوائف كأن شىئاً لم يكن. فهؤلاء الشباب يشعرون بأنهم بخروجهم الى الشارع يضعون مساراً جديداً لمستقبلهم ولمستقبل البلد، ولا تجوز مكافأتهم بخيبة أمل جديدة. ولا شك ان الوفاء لهم لا يمكن ان يكون أقل من فتح أفق النظام السياسي أمامهم، فلا يستمر احتجازه بين جدران الطوائف، ولا يستمر ارتهانه في قبضة الاجهزة والمافيات، ولا يستمر مصيره رهن الأهواء والمصالح. هذا بلد مؤهل لأن يطور ديموقراطيته باحترام المؤسسات وحكم القوانين، فلماذا يحرم مرة اخرى هذه الفرصة، ولماذا يوضع ثانية على طريق التحضير للحرب الأهلية المقبلة؟ اذا كان إلغاء الطائفية أحد الخيارات التي استخلصت من الحرب السابقة، وفقاً لنص"اتفاق الطائف"، والأهم وفقاً لروح هذا الاتفاق، فلماذا تجاهله لمصلحة ترسيخ الطائفية وعرضها في البازارات الخارجية. الأعوام التي مضت منذ التوصل الى"اتفاق الطائف"ساهمت في انهاء الحرب ومعالجة بعض مضاعفاتها، لكنها كانت اعواماً ضائعة ومبددة، بالنسبة الى تعميق"وفاق الطائف"وتطويره. كان الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني أحد أسباب هذا الوقت الضائع، لكن المصادرة السورية لاتفاق الطائف لعبت دوراً مهماً في عدم تنفيذ بنوده، اذ لم يكن ممكناً المضي في استكمال الوفاق في ظل هيمنة سورية غذت الانقسامات اللبنانية الداخلية، لكنها ألزمت الجميع بالتوافق مع دمشق ولم تتردد في إقصاء قوى ومحاولة استئصال قوى أخرى أو تعطيل قوى ثالثة ورابعة، وفقاً لمصالحها. وحتى عندما بدأ التدخل الخارجي يتقدم عبر"قانون محاسبة سورية"وغيره لم تجد دمشق ما يدعوها الى تعديل أدائها، بل اختارت التحدي والمواجهة فزادت الاخطاء الى ان اصبحت أمام استحقاقات القرار 1559. قد تكون هناك حاجة اذاً الى"طائف 2"والى اعادة صياغة لا لخياراته الاساسية فحسب، وانما خصوصاً للتوافق العربي - الدولي الذي ساهم في صنع"الطائف 1". فمع الانسحاب السوري، العسكري والاستخباري، وبعد الانسحاب الاسرائيلي من معظم الأرض اللبنانيةالمحتلة في الجنوب، يكون"اتفاق الطائف"قد استنفد جل اهدافه وبقي الشق الداخلي المتعلق عموماً باصلاحات سياسية تتطلب تحديثاً. اما"سلاح الميليشيات"الذي يستخدم الآن للإشارة الى المقاومة والى"حزب الله"فهناك مجال واسع لمعالجته سلماً وداخلياً. لا يجوز ان تطالب سورية بعدم التدخل في لبنان، وان توضع تحت نوع من الرقابة الدولية لضمان عدم تدخلها، في حين ان اسرائيل يمكن ان تشعر بأنها حرة التصرف والتدخل والعبث. فاللبنانيون يعترفون لسورية بالكثير من الفضل والتضحيات، لكن يصعب ان يكون لديهم أي امتنان لاسرائيل. من هنا ان أي توافق دولي للصيغة المقبلة في لبنان يجب ان يكون واضحاً في ردع أي تدخل اسرائيلي، خصوصاً في ما يتعلق بالمقاومة وسلاحها. اما اذا كانت الولاياتالمتحدة تسعى الى اضعاف سورية وتفكيك"حزب الله"لتمكين اسرائيل من ممارسة العربدة الاقليمية ومهاجمة ايران، فهذا يعني ان اميركا جورج بوش تقود لبنان ثانية الى كارثة اسوأ من أي حرب أهلية. لذلك فإن التوافق الدولي - العربي حول لبنان لا يمكن ان ينشأ الا اذا قوبل بتوافق داخلي صلب، وهو ما لا يبدو بعد ان اللبنانيين وضعوا أنفسهم على بدايته.