لبنان هو الخلطة السرية في مطبخ السياسة العربية والعالمية، فمع أن رأسي التناطح هما حزبا الموالاة والمعارضة، وبينهما عناصر وأطراف تدخل تحت حمايتهما أو مناصرتهما للحصول على كعكة ما من المائدة اللبنانية، فهناك أيضاً رؤوس تدير الفصيلين، حيث ينتمي جناح الموالاة إلى إسرائيل وأمريكا، والمعارضة لإيران وسورية، والأول يتسلح بقذائف وأسلحة من حلفائه، والآخر يتخندق في مسرح مؤيديه وداعميه.. الخطوط الحمراء بدأت تنقطع، فهناك حزب الله كقوة رئيسية قادرة أن تحتل كل لبنان على خلفية ما يملك من عتاد عسكري كبير، وتجارب مقاومته مع إسرائيل، وحتى الحرب الأهلية، وهناك من يقول بوجود مليشيات في التشكيل الحزبي، والتآلف بين فصائل الموالاة، ويبقى الجيش لا حكومياً ولا مليشياوياً، أو طائفياً، ولكنه في تكوينه يضم عناصر ربما هي محايدة في ظل ظروف التهدئة، لكن لو انتشرت شرارة الخلافات إلى مناوشات بالسلاح، فسيذهب كل عسكري إلى طائفته، وحزبه، ومعه ما يملك من سلاح.. في هذه المعمعة بدأت اشتباكات بيروت، والمأزق جاء من شبكة الاتصالات التي يمتلكها حزب الله، وبوجود المبرر السهل لأحداث اضطرابات بأسرع ما يمكن، فإن الجهود الخارجية، سواء اجتماع مجلس الأمن، أو الجامعة العربية، أو حتى اتصالات سرية بين أمريكا وإيران لعقد صفقة من خلال لبنان، فالمؤشرات تروي أن التصعيد والتهدئة هما شراكة بين زعامات لبنان الموالية والمعارضة، لكن ذلك لا ينفي أن الخارج له دوره وتشابكه مع كل المسائل اللبنانية.. لكن ماذا لو تخطت الأمور الخطوط الحمراء إلى خطوط الضغط العالي، بحيث يتم - لا قدر الله - اغتيال الرموز الكبيرة أو أحدها مثل صفير، أو حسن نصرالله، أو جاءت على مراكز أخرى مثل جنبلاط، أو الحريري، وكل شخصية من هؤلاء وراءه دول وأنصار وربما جيوش قد تتحرك لحصار لبنان أو الدخول في معمعته إذا ما تطور الأمر إلى محاولة احتكار قوة ما جانباً مهماً جغرافياً أو سياسياً يهيمن على مقدراته.. دورات الحروب في لبنان لا تنتهي، فإذا كانت الحرب الأهلية جلبت حلف الأطلسي، وحركت السوفيات، وجعلت إسرائيل تحتل بيروت بمساندة فصائل ما من الداخل، فإنها طُردت بواسطة المقاومة اللبنانية التي حصيلتها نشوء قوة حزب الله ودخوله معادلات الدول المجاورة للبنان، أو القوى الإقليمية وحتى الدول الخارجية، وهنا تختل موازين قوة الداخل، أي لا يوجد من يستطيع إعلان الحسم في أي حرب أهلية قادمة إلا حزب الله.. كان الحديث عن أن لبنان أنهى آخر فصل من حروبه يعتمد على نظرية أن الكل تخلى عن سلاحه بسبب عدم قدرته على هيمنته على كل الفصائل أو التحالف معها، وكانت الخسائر والملل، هما خلاصة العودة إلى الذات والتوقيع على اتفاق الطائف، أما الآن فإن كل شيء تبدل، فالمعركة تدور من خلال فراغ دستوري، وخلاف على انتخاب رئيس للجمهورية، يقابل ذلك انشقاقات حادة بين موالاة، ومعارضة وفي تداخل الألغاز لا يوجد من يحل شفرة لبنان إلا بمعجزة، وهي الاستحالة التامة..