في لبنان تقاليد سياسية عريقة منذ أكثر من قرنين، أي منذ انفتاح العائلات الحاكمة على القوى الخارجية، غير قوى السلطنة العثمانية، رسخت اللجوء الى صانعي القرار من غير اللبنانيين الفاعلين على الساحة الاقليمية والدولية في الحياة السياسية اللبنانية. كانت العائلات الاقطاعية اللبنانية تستنجد، في خلافاتها وصراعاتها المحلية على الهيمنة، بالولاة العثمانيين أو بالملوك والأمراء الأوروبيين والروس من دون أية مواربة. وقد استغلت السلطنة العثمانية والدول الأوروبية هذا التصرف اللبناني الى أبعد الحدود طوال القرن التاسع عشر في الصراع العملاق للسيطرة على الشرق العربي، وقد نتجت عن ذلك حروب وفتن داخلية الى ما لا نهاية له بين 1840 و1860. تحددت اللعبة في القرن العشرين بعد زوال السلطنة العثمانية وصراع كل من فرنسا وانكلترا للسيطرة على المشرق العربي، ومن ثم صراع كل من الاتحاد السوفياتي وأميركا لتحقيق هذه السيطرة. وقد خرج العرب الى الاستقلال مشرذمين وسرعان ما دخلوا لعبة المحاور بين بعضهم بعضاً وبين فئة منهم وأحد الجبارين. وهذه اللعبة شجعت بطبيعة الحال السياسيين اللبنانيين في المضي بتقاليدهم وتصرفاتهم المتميزة بالانضواء المستمر تحت رعاية أحد الأطراف الاقليمية والدولية القوية بغية الحصول على مزيد من المغانم المحلية. لذلك فإن منطق المعادلات والمحاور الاقليمية ليس بالجديد في لبنان وهو يقدم نفسه باستمرار على أنه نوع من انواع الدفاع عن الوطن أو تقويته أمام أطماع طرف من الأطراف الاقليمية أو الدولية. ويمكن ان يأخذ منطق المعادلة الاقليمية - الدولية أشكالاً عقائدية صارمة باندراجه تحت راية معينة العروبة، الاسلام، القومية السورية، مكافحة الشيوعية قبل انهيار المعسكر الاشتراكي، مكافحة الإلحاد والعلمانية، الى آخر ما هنالك من هذه الأعلام العقائدية المختلفة. خلقت على مر العقود وطنيات لبنانية مختلفة ومتناقضة ترى كل منها مصلحة لبنان في الدخول بتحالف أو محور معين على الصعيد الاقليمي كوسيلة إما للدفاع عن الكيان المهدد مباشرة من جانب تحالف أو محور آخر، أو من أجل ازدهار الكيان بفضل عقد هذا التحالف واقامة علاقات مميزة مع الطرف او الاطراف فيه. والطريف في الأمر ان منطق السيادة، الذي يفترض ان يكون نقيضاً لمنطق المعادلات والمحاور الاقليمية، يصبح في معظم الأحيان أسير منطق المعادلات، عندما يأتي طرف من الأطراف الاقليمية لدعم منطق السيادة ولإضعاف طرف آخر في المعادلة الاقليمية. هكذا أيدت انكلترا منطق السيادة في الاربعينات من القرن الماضي لإضعاف موقف فرنسا في كل من لبنان وسورية وتجدد هيمنتها على الشرق العربي بأساليب جديدة. والجدير بالملاحظة ان منطق السيادة في الحياة السياسية اللبنانية لم يكن المنطق السائد بل كان منطق أقلية في الفئات الحاكمة اللبنانية التي كانت ترى بغالبيتها ضرورة اللجوء الى الحماية من جانب القوى الاقليمية أو الدولية أو الارتباط بعلاقات مميزة معها. ويمكن تفسير هذه الظاهرة بأن النظام الطائفياللبناني، الذي هو أساس الحياة السياسية اللبنانية منذ عام 1840 والتدخل المباشر للقوى الخارجية في حياة اللبنانيين، يشجع استمرار مثل هذا التدخل. فالطوائف اللبنانية الرئيسية لها امتدادات روحية وشبه ثقافية وكذلك بشرية في أقطار أخرى في المنطقة، وفي بعض الأحيان خارج المنطقة. فرجل السياسة اللبناني الذي يدين بمركزه الى انتمائه الطائفي يميل بشكل طبيعي الى الاتكال على القوى الخارجية التي لها علاقات مميزة مع طائفته. ولذلك فإن منطق السيادة في لبنان كانت تنقصه باستمرار الصفة المطلقة والجذرية التي يتميز بها هذا المنطق عادة. فالسيادة في لبنان تسوية بين أكثر من منطق متجذر في المعادلات الاقليمية والدوليةد ولهذا السبب، مثلاً، جاء الميثاق الوطني بمبدأ الحياد بين الشرق والغرب والتنازل عن حماية فرنسا وقبول الانتماء الى المجموعة العربية من دون أن يقال إن لبنان عربي بشكل كامل. وكان الصحافي الشهير جورج نقاش - رحمه الله - كتب حينئذ ان "ضدّين لا يكوّنان وطناً" ما أدى به الى السجن لمدة قصيرة. والسيادة في لبنان ضحلة لأن السفراء الأجانب هم جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية اللبنانية، يشتركون فيها على قدم المساواة مع الوزراء والنواب ورجال الدين وكبار الصحافيين ولا يشعر أحد بحرج من هذا الوضع الشاذ الذي لا تتحمله أية دولة ناجزة السيادة. كان "اتفاق الطائف" ايضاً تسوية اقليمية تهدف الى اعادة تدريجية للسيادة اللبنانية ضمن منطق المعادلات الاقليمية المكرسة في معادلات طائفية جديدة محلياً، تعكس التطورات في المعادلات الاقليمية والدولية. ولم يتم تنفيذ جزء من الاتفاق الا بعد مضي سنة على انجازه، عندما حصلت حرب الخليج وأعيد ترتيب المعادلات الاقليمية بتفاهم اميركي - سوري. والحقيقة ان أصحاب الدعوة الى عودة منطق السيادة في لبنان وتحرير الحياة السياسية اللبنانية المحلية من منطق المعادلات الاقليمية لا يطالبون جميعهم بتحقيق سيادة مطلقة. بل انهم يطالبون، وبالتعبير "المعتدل" لهذا المنطق، بتطبيق كل مبادئ اتفاق الطائف بما فيها من إعادة انتشار القوات السورية، وذلك ضمن منطق تقليدي يندرج فيه الاستقلال والسيادة في المعادلات والمحاور الاقليمية. إذ أن تحقيق السيادة مرتبط أيضاً بتسوية مبنية على تطورات الوضع الاقليمي والدولي. وقد أدى انكسار قوات العدو الاسرائيلي وانسحابها من جنوبلبنان الى المطالبة بالسيادة "الكاملة" عبر إعادة توزيع القوات السورية، بل بخروجها كما يطالب بعض الأطراف من أنصار منطق السيادة. اما أنصار منطق المعادلات الاقليمية، وعلى رأسهم قيادات حزب الله، فيعترضون على منطق السيادة قائلين ان المعركة مع العدو الاسرائيلي لم تنته طالما ان هناك أراضي عربية محتلة وحقوقاً فلسطينية مغتصبة، وأن ليست للبنان القدرة على الانسحاب من المحورالسوري - الايراني، الذي أمن تحرير الجنوب، من دون أن يتعرض لبنان مجدداً الى مخاطر مختلفة وفقدان الاستقرار. فالارتباط بهذا المحور، في نظرهم، حماية للبنان وليس إضعافاً له كما يدعي اصحاب منطق السيادة. والحقيقة ان لحزب الله وجهين متكاملين: الحزب الوطني المتجذر في أرض لبنان والذي قدم تضحيات شبابه بالأرواح دفاعاً عن تراب الوطن وتحريره من الاحتلال الاسرائيلي من جهة، والحزب القومي العربي والاسلامي الذي يرى من واجبه الاستمرار في معركة تحرير فلسطين مدعوماً بحلفائه الاقليميين وذلك حتى بعد تحرير الوطن اللبناني، من جهة أخرى. فهم يرون أن أية اثارة ضد هذا الموقف على منطق السيادة هو إضعاف خطير للجبهة الاقليمية المعادية لاسرائيل، وبالتالي فإن اثارة منطق السيادة في الظروف الراهنة يصب في نظرهم في صلحة التحالف الأميركي - الاسرائيلي المسيطر على المنطقة. ويردّ أصحاب منطق السيادة على ذلك بأن بقاء جبهة الجنوب مفتوحة عسكرياً قد يتحول الى نقطة ضعف جديدة في المجابهة مع اسرائيل وقد يعرض أمن لبنان وسورية الى للاهتزاز. وعلى عكس هذا الرد يرى أصحاب منطق المعادلة الاقليمية ان "توازن الرعب" المحقق في الجنوب هو ضمان يجب ألا نستغني عنه. هل يمكن الخروج من هذا التناقض الصارخ بين منطق المعادلات الاقليمية الذي استفادت منه فئة واسعة من السياسيين اللبنانيين لتقوية مراكزهم الداخلية وزيادة مغانمهم، وبين منطق السيادة الذي نعلم ان بعض أنصاره من الخاسرين في اللعبة الداخلية؟ لا نرى في الحقيقة ما يمكن أن يقضي على هذا الوضع المؤسف المؤلم والمتجذر في تاريخ لبنان الحديث وفي تصرفات وعقليات زعاماته السياسية وعقلياتهم، وكذلك في شراسة الصراعات الاقليمية وعمق سياسات المحاور الاقليمية - الدولية التي يتميز بها تاريخ المنطقة منذ نهاية القرن الثامن عشر وتعميق انحطاط السلطنة العثمانية. وإذا تعذّر أن يكون مفهوم السيادة والاستقلال مطلقاً في عالمنا الحديث، خصوصاً بالنسبة الى دولة صغيرة وضعيفة تاريخياً مثل لبنان، فإن إجبار لبنان على تقديم التضحيات المادية والبشرية الاضافية في خدمة الموقف العربي من اسرائيل ليس من العدالة بشيء، خصوصاً عندما تكون كل الجبهات العسكرية العربية مجمدة منذ حرب 1973. هل للبنان وظيفة اقليمية فقط وهل انه غير كائن بذاته، هذا هو التساؤل الكبير. وكما رأينا سابقاً، فإن منطق السيادة هو بذاته منطق تسوية ضمن هيمنة منطق المعادلات الاقليمية. والنظام السياسي اللبناني المبني على طائفية متعددة الجذور والامتدادات اقليمياً ودولياً لا يساعد اطلاقاً على اخراج منطق السيادة من التسويات ضمن تطور المعادلات الاقليمية. ان تحرير لبنان هو جزء من تحرير المنطقة العربية من حالة الوهن والضعف والتشرذم، لكنه أيضاً تحرير له من تقاليد العائلات الحاكمة المحلية المتميزة بالارتباط بالقوى الخارجية والخضوع لها سواء بمنطق السيادة - التسوية أو بمنطق المعادلة الاقليمية "القاهرة"، أكانت عروبية، اسلامية، أو اميركية مكشوفة أو مستترة الطابع. * وزير المال السابق في لبنان.