نادراً ما يتوقف أحد أمام اسمه ليتأمله ويفكر فيه أو يُسائله، ليس لأن أسماءنا غير جديرة بالاهتمام، لكن لأننا نعتبرها جزءاً طبيعياً من هويتنا وكينونتنا. الاسم يلتصق بنا ويصبح رمزنا الأهم لا نستطيع الانفصال عنه ولا نتخيل إمكان العيش من دونه. وكما أن الله لم يجعل للمرء من قلبين في جوفه، فإننا لا نستطيع تقديم أنفسنا للأقرباء والغرباء بأكثر من اسم. لكن ماذا لو وجد أحدنا نفسه موزعاً بين اسمين مختلفين؟ ألن يكابد ازدواجيةَ الاسم هذه جُرحاً في أعماقه ونوعاً من الانفصام يربك توازنه النفسي ويحرمه الانسجام الطبيعي مع الذات؟ تحكي ثريا أو سعاد كما ينادونها في البيت، عن قصة الاسمين قائلة:"منذ ولادتي والجميع ينادونني باسم سعاد إلى أن أصبح عمري سبع سنوات، وبالضبط حتى أول يوم كنت سألتحق فيه بالمدرسة. أذكر أن أختي الكبرى هي التي أخذتني إلى المدرسة يومها. وكانت طوال الطريق تلقنني الجملة الآتية:"أنت اسمك ثريا وليس سعاد. وإذا سمعت المعلم ينادي"ثريا فاعلمي أنه يناديك أنت". وهكذا دخلتُ الفصل، وأنا أعتقد أن لجميع الأطفال اسمين: واحد للمنزل وآخر للمدرسة. بل إن أول سؤال طرحته على التلميذة التي كانت تجلس بجواري هو: ما اسمك في البيت؟ وهو ما أثار دهشتها، لأكتشف أن اعتقادي كان خاطئاً. فكل التلاميذ لهم اسم واحد فقط، اسم صالح للاستعمال في الشارع والبيت والمدرسة وكل مكان. لذا ما إن عدت إلى البيت حتى سألت أمي كيف يكون لي اسمان في حين أن صديقاتي في الفصل لهن اسم واحد فقط؟ فأخبرتني أن مُولِّدتي كان اسمها ثريا وكانت لها بنت اسمها سهام. ولأن المولدة صديقة للعائلة، فقد كانت حاضرة أثناء التداول في شأن تسميتي. وحينما اقترحت أختي أن أحمل اسم سهام، علقت المولدة مازحة: سهام اسم جميل لا تحمله إلا الحسناوات. وابنتكم لن تكون جميلة مثل ابنتي لتحمل اسمها. لذا ابحثوا لها عن اسم آخر. فأجابها والدي ممازحاً هو الآخر: إذا رفضتِ أن تحمل ابنتنا اسم ابنتك، فإنني سأتحداك وأجعلها تسطو على اسمك أنت! وهنا تدخلت أمي لتحسم الموضوع قائلة: لا أريد لا اسمك ولا اسم ابنتك، لذا سأسمي ابنتي سعاد. مر هذا الحوار في جو من المرح الأسري. وفعلاً أصبح الكل يناديني سعاد. لكن والدي كان الوحيد الذي أخذ الأمر بجدية، وسجلني في"دفتر الحالة المدنية"تحت اسم ثريا واحتفظ بذلك لنفسه، ولم ينكشف الأمر إلا وأنا في سن المدرسة. وهكذا صرت أحمل اسمين. العائلة والجيران ينادونني سعاد. أما أصدقاء الدراسة وزملاء العمل، فإنهم يعرفونني باسم ثريا، على رغم أنني مجبرة على حمل الاسمين معاً، إلا أن ثريا يبقى الاسم الأقرب إلى قلبي! وإذا كانت ثريا مجبرة على حمل اسمين مختلفين، فإن فاطمة قدر لها التخبط وسط ثلاثة أسماء، فكيف حدث ذلك؟ تحكي فاطمة:"ولدت في قرية هادئة قرب مدينة ابن جرير أواخر سنة 1971. هطول أمطار الخير التي استبشر بها الفلاحون، فأسماني والدي أم الخير تيمناً. ولأن حالة والدي الصحية كانت متدهورة حينها، فإن المرض أقعده مباشرة بعد ولادتي، وهكذا لم يتسن له تسجيلي في دفتر الحالة المدنية فتوفي وأنا في الرابعة من عمري. وحينما بلغت سن المدرسة، التحقت بمدرسة القرية التي لم تكن إدارتها تولي اهتماماً كبيراً بوثائق التسجيل الإدارية تلك الأيام. كان الجميع في المدرسة ينادونني فاطمة. أما في البيت فقد كنتُ أم الخير. لكن حينما بلغت سن الثامنة عرفت أن أم الخير اسم"شائع"في أوساط الخادمات الزنجيات. وهكذا قررت أن أثور عليه وألا أجيبهم في البيت مهما نادوني به. فاضطر الجميع إلى مناداتي فاطمة. ومن يومها دخل اسم أم الخير طي النسيان وصرت فاطمة في البيت والمدرسة معاً"."لكن لم يقدر لي أن أسعد بحمل اسم واحد لأكثر من سنتين"، تضيف فاطمة"فما إن بلغت مستوى الشهادة الابتدائية حتى وجدت نفسي مجبرة على تقديم وثائق تثبت هويتي لأترشح للامتحان. وهنا وجدت نفسي أمام حكاية جديدة: كانت لي أخت اسمها زليخة توفيت قبل أن تكمل سنتها الأولى سنة 1969 ولم يشطب اسمها من دفتر الحالة المدنية. وبما أنني غير مسجلة أصلاً في الدفتر، لم يكن لي خيار لأترشح للامتحان من أن أحمل اسمها وشهادة ميلادها. وفعلاً فقد اجتزت الامتحان بتفوق، لكنني تورطت مذاك في اسم جديد وجدتُ صعوبة في التآلف معه. لقد بدأتُ فصلاً جديداً من المعاناة، فبعدما تخلصت من أم الخير، ها هو اسم زليخة يرتبط بي ويصير اسمي الرسمي. فكيف لي أن أعيد فاطمة الحاضرة الغائبة إلى الوجود بعدما سلبتها زليخة وجودها وهويتها؟ لكنني مع ذلك، وعلى رغم أن زليخة اسمي الرسمي الآن، فإنني أقدم نفسي لأصدقائي وصديقاتي بالاسمين معاً وأترك لهم حرية الاختيار. لكن إذا سألوني:"ماذا تفضلين؟"، أجيب إن فاطمة هو الاسم الأقرب إلى نفسي، ومع ذلك فقد تعودت على الاسمين معاً، وهما يتعايشان اليوم معي في تصالح غريب!