بدا العالم، قبل ثلاثين عاماً بالتمام، آمناً نسبياً. بالطبع، لا تتطلب"حادثة البوسطة"اختلالاً في نظام الكون لكي تجدّ. فهي مما يحصل لمجرد السبب الحدثي الذي يجعله يحصل. وليس لبنان، في آخر المطاف، البلد المُنزّه عن تضارب المصالح أو عن الهيجان الذي يقيم في الغرائز. غير أننا حين ننظر في امتدادات"الحادثة"واستطالاتها، وفي أكلافها بشراً وحجراً، يغدو البحث جائزاً عن"قرار"أنطق الجحيم. لكنْ لا. فقبل ثمانية أشهر على الواقعة المشؤومة، حل في البيت الأبيض جيرالد فورد، وكان نائباً لريتشارد نيكسون قبل أن تطيحه فضيحة ووترغيت. وقد ورث فورد، وهو أحد تقليديي الحزب الجمهوري وعادييه، أثقالاً غير عادية خلّفها له الرئيس المرذول. فهناك تضخم فلكي تصحبه هزيمة مدوّية في آسيا وتردٍّ في المعنويات أشاعته الفضيحة إياها. ولما كان فورد في الأصل نائباً للرئيس، مُعيّناً منه، بدل نائبه المنتَخَب والمستقيل سبيرو أغنيو، غدت شرعيته قابلةً للعطب. هكذا سجّلت تتمة الولاية النيكسونية الثانية انكفاء متواضعاً على النفس رافقه نشاط وفاقي ملحوظ. فإبان العهد القصير ذاك عاشت سياسات الحد من الأسلحة الاستراتيجية سالت، التي ولدت في 1972، أحسن مراحلها. وتعاون البيت الأبيض والكرملين، كذلك، على إنجاز اتفاقات فك الاشتباك العربية-الاسرائيلية التي وُقّعت بنتيجة حرب تشرين أكتوبر 1973. والنهج هذا لم يكن غيمة صيف: ففي 1975 وُضعت معاهدة هلسنكي فأسبغت قدراً من الثقة على استقرار الأمن الأوروبي، فيما أتاحت للبلدان الغربية مراقبة حقوق الانسان خلف"الستار الحديدي". ولم يقلّ التغير في مفهوم"الحروب بالوكالة"أهميةً، خصوصاً وقد طرأ ما طرأ على"الوكلاء"، القائمين منهم والمفترضين. فأنغولا نالت استقلالها في 1975، بوصفها آخر المستعمرات البرتغالية وأهمها، سبقتها اليه الموزامبيق وغينيا بيساو. وهي جميعاً جعلت تستقل تباعاً بُعيد"ثورة القرنفل"البرتغالية التي أنهت، قبل عام، ديكتاتورية كايتانو، وريث سالازار. يومها احتفل العالم بأسره بسقوط آخر الامبراطوريات الاستعمارية وبدا، لوهلة، أن الاستقلالات الافريقية موضع إجماع وترحيب. ولم تبارح وجهة الانفراج بعض المسارح الكلاسيكية للحرب الباردة. فالولايات المتحدة، مذ خرجت ذليلة من فيتنام في 1973، ومن كمبوديا بعد سنتين، آثرت أن تودّع السلاح هناك. أما في أميركا اللاتينية،"الإقطاعة"التقليدية للجار الشمالي، فجدّ انعطاف نوعي عن السياسة التي أثمرت انقلاب تشيلي الشهير في 1973. فقد أجرى، أواخر 1974، نائب وزير الخارجية لورنس إيغلبرغر محادثات سرية للتطبيع مع رسميين كوبيين زاروا الولايات المتحدة. وفي صيف 1975، حين صوّت أعضاء"منظمة الدول الأميركية"لرفع العقوبات الجماعية عن كوبا، رحّبت واشنطن وأبدت نيّتها مباشرة"مفاوضات جدية"بهدف التطبيع مع الجزيرة العاصية. وما هو الا شهر حتى عدّلت إدارة فورد قوانين المقاطعة التجارية مُتيحةً للبلدان التي تستفيد من المعونات الأميركية المتاجرة مع كوبا. ولم ينقطع العمل بالانفتاح، على ما فيه من كسرٍ لمُحرّم أميركي، الا في وقت لاحق، مع اتضاح تورط هافانا في حرب أنغولا الأهلية. ولئن ارتفع سعر برميل النفط بين 1972 وأواخر 1974 من 3 الى 12 دولاراً، لم يؤد الانقلاب المالي الى احتلالات أو إنزالات عسكرية أجرت الجيوش الغربية بعض تمرينات عليها. ولاح كأن الموتى مدعوون الى دفن موتاهم. فقد استقر توازن القوى الذي أنتجته حرب 1971 الهندية-الباكستانية، ولاّدة دولة بنغلاديش. وغدا الهمّ الطاغي على إنديرا غاندي، في 1975، تثبيت حال الطوارىء وإدارة الصدام الذي استجرّته مع المعارضة. أما ذو الفقار علي بوتو فعاش خلال 1973-1977 حقبة صراع متصل مع معارضيه لم تنته الا بانقلاب الجنرال ضياء الحق. صحيحٌ أن المفصل الزمني الذي انطوى على"حادثة البوسطة"عرف نزاعات أخرى. ففي قبرص المجاورة غزت تركيا شمال الجزيرة في 1974، فيما كانت تُطاح الملكية الدستورية في أفغانستان. لكن هذه بدت صراعات لا تندرج، الا بالتحوير والتوسّط، في الحرب الباردة. فهنا تداخل النزاع ضمن المعسكر الواحد، كما في قبرص بين اليونان وتركيا الأطلسيتين، مع النزاع بين المعسكرين. حتى أفغانستان نفسها لم يكن قائدُ انقلابها الجمهوري واحداً من الطلاب البلاشفة في جامعة كابول ممن برزوا بعد حين. فهو ليس سوى محمد داوود، ابن عم الملك ورئيس حكومته الذي شاركه سياسة الحياد إزاء الجبارين. وهي وجهة مشوبة باللبس استمرت لسنوات تالية وتعايشت مع الانشطار القطبي للحرب الباردة. فإبان 1977-1979، تحارب"الماركسيون"الأثيوبيون والصوماليون في أوغادين، ثم غزا الرفاقُ الفيتناميون، الموالون للسوفيات، الرفاقَ الكمبوديين من"الخمير الحمر"المقرّبين من بكين. وحين انتصرت الثورة الإيرانية أخطأ الذين يحسبون بمعيار الاستقطاب الثنائي طريقة حسابها. وأفادت أوروبا، بدورها، من الدرجة المتقدمة التي أحرزها الاستقرار داخل الاستقطاب، فانبرت أصوات أكثر تتمايز وتتعدد. وهو ما لم يقتصر على فرنسا حيث تولى الرئاسة، في 1974، محلَ الرئيس الديغولي الراحل جورج بومبيدو، وزيرُ ماليته فاليري جيسكار ديستان الموصوف بهواه الأوروبي المبكر وتحفظاته عن واشنطن. فقد عاد، في السنة نفسها، القائد العمالي هارولد ويلسون الى داوننغ ستريت. وكان مما اشتُهر به العائد رفضه مناشدة الرئيس الأميركي ليندون جونسون في 1963 مشاركةَ بريطانيا في حرب فيتنام. أما في ألمانيا، حيث أفضت فضيحة الجاسوس الشرقي غيّوم الى إسقاط ويلي برانت، صاحب سياسة"الانفتاح على الشرق"، فتولى المستشارية هيلموت شميت من دون أية هزّة تعصف بعلاقات المثلث الأميركي ? الأوروبي - السوفياتي. واللوحة العالمية هذه وجدت نظيرها في الشرق الأوسط. فشرع يتضح، في نهاية حرب تشرين، أن مصر تتلمّس طريقها. ذاك أنها وقّعت مع اسرائيل، مطلع 1974، أولى اتفاقيتي"فك الاشتباك"، أو"سيناء 1"، التي تطالب الدولة العبرية بالانسحاب من الضفة الغربية لقناة السويس، وهو ما تحقق بنتيجة"سيناء 2"المنجَزة صيف 1975. وأعيد، في هذه الغضون، فتح القناة للملاحة، من غير أن يظهر ضعف أو ارتباك على سلطة كانت عهد ذاك تحظى برضا الإسلاميين. وكان الأردن قد نجح في أن يعيد اختراع ذاته بعد حرب 1970 الأهلية. فعندما اعترفت قمة الرباط في 1974 بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، تكيّفت عمّان مع المعطيات الجديدة بقدر من المرارة، إنما من دون احتقان أو احباط. ولئن اغتيل العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز قبل أقل من شهر على"حادثة البوسطة"، استمرت السياسة السعودية في خطوطها العريضة، لا يزيدها تعاظم عائدات النفط إلا رغبة في التمسك بالوضع القائم. وقُطع شوط بعيد في التطبيع العربي-الإيراني بعد إقدام طهران على احتلال الجزر الثلاث، أبو موسى والطنب الكبرى والصغرى، إثر الجلاء البريطاني في 1971. فبعد عامين، ووسط تأييد من العواصم العربية ظل ضمنياً، بدأ التورط العسكري الإيراني في عُمان دعماً لمسقط ضد متمردي ظفار"الماركسيين". وبحضّ من مصر والجزائر، فضلاً عن هنري كيسينجر، توصل الإيرانيون والعراقيون، في حزيران يونيو 1975، الى توقيع اتفاقية شط العرب. لكن وضع المنطقة كان أعقد من أن توجزه اللوحة المرسومة. فوجهة الانفراج التي صحّت في"الشرق الأوسط"، بوصفه مصر واسرائيل، فاقمت صعوبات ما سمّاه البريطانيون"شرقاً أدنى". وقد بدا لبنان أرض اللقاء بين مشاريع مكتملة وأخرى هي حطام مشاريع ونثارها. وهو لقاء زخمُه كفيل بهدم إمبراطوريةٍ، فكيف برقعة أرض صغيرة تقيم عليها 17 طائفة دينية ومذهبية؟ والحال أن الأشهر الأخيرة لولاية نيكسون، وكانت الفضيحة تطارده، والأشهر الأولى لولاية فورد، وكانت التجربة تعوزه، وفّرت لكيسينجر سلطة لم يحظ بها وزير خارجية من قبل. و عاش فيه، وهو بيّاع السحر الأسود عند كارهيه، والهدهد"العزيز"الذي يوصل الرسائل بين سليمان وملكة سبأ عند مُحبيه، هاجسان متكاملان: محاصرة النفوذ السوفياتي، وخدمة مصالح اسرائيل بوصفها مصالح أميركية بالمداورة. واستقر مشروع"مترنيخ القرن العشرين"على إرباك الجيب الصغير كي يضمن إنجاح البدايات التسووية في الجيب الأكبر. أما المطالب المحقّة للفلسطينيين والسوريين فلم يُعرها اكتراثاً الا في حدود استخدامها لصالح الإقلاع المصري-الاسرائيلي. فدمشق، في حساباته الجيوبوليتيكية، قاعدة سوفياتية فحسب، زاد نشازها بعد تبرع السادات، قبل حرب تشرين، بطرد الخبراء السوفيات. وهي كانت هدية مسبقة للأميركان لم يطلبوها. أما الفلسطينيون عنده، ففضلاً عن كونهم قاعدة سوفياتية أخرى ومصدراً لتجذير المنطقة ونشر السلاح والفوضى فيها، أصحاب قضية هي الطرف النقيض للقضية الاسرائيلية. وكان مشروعاً تنصهر عناصره وتتماسك. فإذا ما شاب علاقة كيسينجر بغولدا مائير بعض التوتر، تقاربت الاستراتيجيتان الأميركية والاسرائيلية فكادتا تتطابقان مع حلول اسحق رابين، في نيسان ابريل 1974، في رئاسة الحكومة. وبعد كل حساب، ليس السفير السابق في واشنطن، والمهندس الفعلي لتوثيق التحالف معها، من يرتكب أخطاء الجيل القديم من"الروّاد"الأوروبيين الذين يقض مضاجعهم وسواس"الغرباء". فعندما زار الوزير الأميركي لبنان، في بدايات جولاته المكوكية عام 1974، حدّثه السياسيون المضيفون عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في بلدهم، وعن ضرورة إيجاد حل لها يكون جزءاً من حل شامل للمنطقة. ويبدو أنه هزّ رأسه متفهّماً وموافقاً. بيد أنه لاحقاً، وبعد أن اندلع القتال، أرسل مندوبه دين براون لينصح المسيحيين بالهجرة من بلدهم. وقد فُهم يومذاك أن هذه حدود التصوّر الكيسينجري للمشكلتين اللبنانية والفلسطينية، فيما الأرقام المتداولة عن الوجود الفلسطيني في لبنان تضعه بين 300 ألف نسمة و400 ألف. والتقت"الخطة الكيسنجرية"، وقد أضفى العرب صفات شيطانية عليها استقوها من"يهودية"صاحبها، بأطلال"المشروع القومي العربي"وقد غادرته مصر. فمنظمة التحرير ودمشق، المواظبتان على طرح"الحل الشامل"أفقاً، انكشف عجزهما البُنيوي عن معايشة التحولات التشرينية وما أعقبها على الجبهة المصرية-الاسرائيلية. فهما ضئيلتا التأثير من دون القاهرة، وغير قادرتين على تجميد القاهرة في سياسات"قومية"أضحت وراءها. لكنهما لا يسعهما الخروج، كما فعل السادات، من تحت المظلة السوفياتية ولا يسعهما، كذلك، إغراء كيسينجر فيما هما تستظلان بتلك المظلة. وكان من السهل اكتشاف أن الجعجعة لا يصحبها طحين كثير: فالمقاومة، بعد تجربة دامية في الأردن، احتفظت باستراتيجيتها في خوض الحرب من حدود بلد آخر علّها"تورّطه"، و"تورّط"العرب من ورائه، بمقاتلة اسرائيل. وكان واضحاً، منذ 1968 في عمّان، و1969 في بيروت، ان مآل هذه السياسة تأسيس الحروب الأهلية في مجتمعين لا يُجمع سكانهما، الا خطابةً وإنشاءً، على ما يوصف ب"حرب وجود". وبدوره، كان وضع سورية حصيلة اختلالات هيكلية يرجع بعضها الى الاستقلال في 1946. ذاك انه لم تنقض غير ثلاث سنوات عليه حتى انفلتت الانقلابات العسكرية فتعاقب ضباط مغامرون، كحسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي، على سوس دمشق بالعصا. وتبدى، أواسط الخمسينات، أن البلد غير قابل للحاكمية وسط تجاذبين قاتلين: أحدهما تنافس دمشق وحلب، حيث عبّرت"الكتلة الوطنية"عن العاصمة و"حزب الشعب"عن"عاصمة الشمال"، والثاني"الصراع على سورية"بين مصر يؤيدها الدمشقيون والعراق يواليه الحلبيون. ولم تُحلّ التناقضات هذه الا بحرب أهلية مصغّرة أنهت الوجود السياسي ل"حزب الشعب"وحليفه الصغير"الحزب السوري القومي الاجتماعي"، تبعها دمج سورية، عام 1958، في"الجمهورية العربية المتحدة"بزعامة مصر، والذي خُيّل أنه الشفاء من مرض لا شفاء منه. وما لبث الدواء أن صار داء فانفجرت الوحدة نفسها، بعد أعوام ثلاثة، على أيدي الضباط"الشوام"قبل أن يطيحهم زملاؤهم"غير الشوام". ولم ينجُ العلاج"الانفصالي"أيضاً، فخرّ صرحه، في 1963، على أيدي ضباط بعثيين وناصريين. ثم عاد الأولون فيهم ليصفّوا الأخيرين فيما كانوا يفاوضون عبد الناصر على"تجديد الوحدة"وتوسيعها لتشمل العراق وقد غدا بعثياً. ولم تستقر السلطة الجديدة فانقضّ ضباطها الأشد راديكالية، في 1966، على سلطة"القيادة القومية"، وانقضّ أحدهم، وزير الدفاع حافظ الأسد، على باقي رفاقه في ما عُرف ب"الحركة التصحيحية"للعام 1970. فالهوّة، إذاً، تضاعفت بين ارتفاع النبرة وتدنّي الفعالية، بقدر ما لاح تطلّب الأوضاع"غير الطبيعية"شرطاً لتطبيع الحياة"السياسية"السورية، خصوصاً وقد أضاف البعث الى الاختلالات التكوينية تلك المرادفة غير المسبوقة بين السلطة ولون مذهبي أقلي. وهذا جميعاً ما سهّل مهمة كيسينجر في إظهار النظام السوري والمقاتلين الفلسطينيين"سيبةً"للسياسة، بالمعنى المغربي، فيما مصر"مخزنها". فالطرفان الأولان لا يُترجم تحجيمهما، بالتالي، إخلالاً بالاستقرار الفوردي، إذ يتوطد الاستقرار على ضفتي قناة السويس، حيث هناك دول وسياسة، وحيث تقع الدول والسياسة خارج الشبهة السوفياتية. لا أدلّ على ذلك من أن الوزير الأميركي نفسه عندما زار لبنان استقبله حكامُه في مطار رياق العسكري، قريباً من دمشق، لا في بيروت الموصوفة بأنها غابة للسلاح الفلسطيني. أما موسكو فبدا واضحاً أن حصتها في"الشرق الأدنى"، حيث اسرائيل وقريباً من النفط، حصة ردع، أو"صمود"باللغة السورية، الا أنها تصاب، حين تبدأ السياسة، بالعطالة فتصبّ الطرقات كلها في واشنطن. ولئن لم يكن في وسع السوفيات، تبعاً للتقاسم الوظيفي هذا، أن يطلقوا العملية السياسية أضحت حدود اعتراضهم على التهميش السياسي الكيسينجري حدود رأيٍ لا يُطاع. ذلك لا يعني أن الطرفين العربيين لم يحاولا. فمنظمة التحرير أقرّت أواسط 1974 ما عُرف ب"برنامج النقاط العشر"الذي يجيز إقامة الدولة على أية أرض تُحرر، بعدما كان"تحرير فلسطين"شرطاً لقيام أية دولة. وفي تشرين الأول أكتوبر انعقدت قمة الرباط، وبعد شهر واحد أقرّت الأمم المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة، وبمنظمة التحرير ممثلاً وحيداً له تتمتع فيها بصفة المراقب. وكان لتحول كهذا أن وفّر القاطرة التي أوصلت ياسر عرفات، أواخر تلك السنة، الى الأمم المتحدة. وإذ أجابت الولايات المتحدة أكدت أن شروطها للاعتراف بالمنظمة والتعامل معها ترتكز على اعتراف المنظمة بالقرارين 242 و338، مصحوباً بالإقرار بحق اسرائيل في الوجود ضداً على ميثاقها الصادر في 1964. وتبيّن حينذاك أن الكثير من المكاسب التي تحققت للمنظمة شلاّل يتدفق على غربال، وأن الوصول الى نيويورك لا يقصّر، بالضرورة، الطريق الى واشنطن. وعقدت سورية، إبان مكوكيات كيسينجر، اتفاقاً لفك الاشتباك في أيار مايو 1974، استردّت بموجبه القنيطرة التي احتُلت قبل أعوام سبعة. يومها تردد أن الوزير الأميركي بدأ يستميل الرئيس السوري بدليل الاتفاق إياه كما الاستقبال الحافل الذي لقيه نيكسون، وقد رنّحته وترغيت، في دمشق. وقيل، في المقابل، إن الأسد بات مُدركاً لحدود الدعم العربي الذي يمكنه التعويل عليه. فإذا لم تكف النتائج المتواضعة لقمة الجزائر، في شباط فبراير، لإيضاح تلك الحدود، جاء إنهاء المقاطعة النفطية العربية، بعد شهر واحد، ليبدّد الشك المتبقّي. الا ان الخطوة الرمزية التي خطتها دمشق وتل أبيب لم تذهب أبعد. فمع"سيناء 2"، انتاب السوريين أن التسوية المنفردة المصرية-الاسرائيلية تمّت فصولاً، وأن فك الاشتباك على جبهتهم لم يكن إلا تمويهاً على ما يجري هناك. ولربما ساور الأسدَ أنه قد يمشي، مشية إله حرب منتهية، وحيداً في الصحراء تنشب الأرض رملها في لحمه ويستبد به العطش بينما تصله أصداء المقهقهين في ما وراء الصحراء، والأصوات تضخّمها الصحارى. المؤكد أن غضباً هيولياً قلّب الأسد على جمره، فكأنه عُطيل الذي، وقد فقد هويته كمحارب، فقد باقي هويّاته وخانته القدرة على عشق ديسديمونه، قتيلته اللاحقة. فهو المولع بوصف الآخرين له بالذكاء، صعقه أن يخدعه السادات عسكرياً بخطة مزدوجة للحرب، وبتهميشه لدى وقف إطلاق النار، ثم أن يخدعه سياسياً بفك الاشتباك وما نجم عنه من تفاوض. أما كيسينجر، فلم يقف عند هندسة المصالحة المصرية-الاسرائيلية، بل شارك، بعد عام، في هندسة التسوية العراقية-الإيرانية. وبنتيجة فعلته بات على دمشق أن تستعد لقطعات عسكرية عراقية سوف تُنقل من الشرق غرباً مُدجّجةً بطاقة نفط حارقة. ووجد المسلحون الفلسطينيون والنظام السوري أنفسهم، وهم ضحايا الصدّ والحصار، بحاجة الى ضحايا يختبئون فيهم وبينهم. وفي مقابل نهج السادات، واظبوا على أن اسرائيل لا تفهم الا لغة القوة التي، وإن لم يملكوها في وجه اسرائيل، نشرت زخماً وطاقة عنفيين يبحثان عن مُتنفّس. بيد أن كلاً من الطرفين، وكان واحدهما يحتاج الآخر في لبنان، امتلك"استراتيجية"خاصة به رسمتها طبيعته وشروطه. فالأسد، الذي أراد يائساً تحويل ضعفه قوةً، سلك طريقين متعارضين في آن. فهو حاول أن يوظّف النظامين المشرقيين الآخرين، اللبناني والأردني، في خطته فالتقى، مطالع 1975، الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في شتورة، ثم زار الأردن، في حزيران، وأبدى حرصاً مميزاً على علاقات وثيقة بملكه. غير أن دمشق لم تغنم من هذا سوى انتشار قصص تآمرية عن"قومية سورية"خفية تحرّك الرئيس السوري. ولم يتكاسل العارفون بالمصاهرات، فذكّروا بأن زوجة الأسد من عائلة"مخلوف"المعروفة بإقبال أبنائها على حزب أنطون سعادة. على أنه، من جهة أخرى، أنشأ شراكة ثانية مع منظمة التحرير. ففي 8 آذار مارس، أي بين لقائيه بفرنجية وحسين، أبدى استعداده لإقامة قيادة مشتركة، عسكرية وسياسية، مع المنظمة رحّب بها عرفات الذي يجيد الترحيب ويعززه بالقُبل. صحيحٌ ان حسين وفرنجية أزعجهما التجاهل الأميركي، الا أنه إزعاج لا يوصل صاحبيه الى مصادمة واشنطن كرمى لدمشق. ثم أن مواجهة كهذه تُدرجهما في تحالف مع منظمة التحرير وهي، عندهما، نقيض دولتيهما واقعاً وفكرةً. وكانت، على إيقاع القصف الاسرائيلي، تزداد مصاعب الانضباط المشرقي في ظل القيادة الدمشقية. فقد سجلت مرحلة ما بين 1968 و1974، والتي مهّدت ل"حادثة البوسطة"ولما تلاها، حصول 44 هجوماً كبيراً شنّتها الدولة العبرية على لبنان رداً على أعمال فدائية خرجت منه. وتبدى أن ما أريد توحيده انطلاقاً من لبنان مستحيل التوحيد، فكأنما أريدَ إلباس الكلّ أحذية موحدة اللون علّهم يفقدون القدرة على تمييز أقدامهم. وكان النزاع ذرّ قرنه مبكراً بين المسلحين الفلسطينيين وسلطة بيروت. ففي 1966، حينما قُتل الفلسطيني جلال كعوش، وصفته منظمة"فتح"، وقد تأسست حديثاً، بأنه ضحية الجيش اللبناني، اعتقله فيما كان عائداً مع دورية فدائية من الأرض المحتلة ثم أجهز عليه. وعلى خلفية المعاملة شبه العنصرية التي كان يلقاها المدنيون الفلسطينيون في مخيماتهم البائسة، نما التوتر مسكوناً بحدّة متصاعدة أجّجها سلوك اسرائيل الانتقامي. والأخير كان بمثابة المبدأ اعتمدته تل أبيب محمّلةً البلدان العربية المجاورة مسؤولية ما يصدر عن حدودها من أعمال حربية. ولم يُمارَس المبدأ هذا بالقصف المنهجي وحده، بل أيضاً بتحريض الإنقسامات الأهلية لمجتمع دقيق التوازنات هشّها، لا سيما وقد راحت الضربات العسكرية توسّع قافلة النازحين من الشيعة الجنوبيين الى بيروت. وتحت وطأة الاعتداءات الاسرائيلية والحضور الفلسطيني المسلح، كبر الشرخ المجتمعي فوجد تعبيره في ميليشيات مسلحة بادر الى تشكيلها أحزاب وشبان مسيحيون استفزّهم ضعف سلطة الدولة وانبثاث المسلحين"الغرباء"في مناطقهم. ذاك أن المخيمات المدججة بالسلاح كانت على تماس جغرافي مباشر مع دوائر سكنهم، مُستنفرةً لديهم حس الخوف الأقلي معطوفاً على ضيق الوعي الأبرشي وشيء من عضلية الرعاع المقتلع واليافع. ولا يرقى الشك الى ان هذه البيئة التي انبثقت الميليشيات منها هي التي ارتكبت المجزرة العنصرية ل"بوسطة عين الرمانة". ولما كان مسلحو الدكوانة-تل الزعتر الفلسطينيون يتحكّمون بالطرق التي تربط الساحل بالجبل المسيحي، لم يتردد بعض الشبان"الانعزاليين"في التوجه الى اسرائيل، مُقلّدين فدائيين فلسطينيين حوصروا، عام 1971، في جرش وعجلون الأردنيتين، فالتجأوا الى الدولة العبرية. وسارت الأمور إلى أسوأ. فعندما هوجمت طائرة مدنية اسرائيلية في مطار أثينا أواخر 1968، وذُكر أن المهاجمين من"الجبهة الشعبية"سافروا من بيروت، فجر الكومندوس الاسرائيلي 13 طائرة مدنية لبنانية جاثية على أرض المطار. ونشبت، بعد ذاك، اشتباكات 1969 بين الجيش اللبناني وبين المقاومة وحلفائها، مؤديةً الى"اتفاق القاهرة"الشهير. وضداً على الاتفاق، غصّت المخيمات بالسلاح، فما أن طُردت المنظمات من الأردن، ناقلةً مقاتليها وأسلحتها ومكاتبها الى لبنان، حتى نشأت"فتح لاند"في الجنوب والعرقوب، وهو ما لا يسع دولةً سيّدةً أن تعيش معه وتتعايش. وفي 10 نيسان 1973، كانت عملية فردان الشهيرة والخاطفة، حيث صفّى الكوماندوس الاسرائيلي ثلاثة من قادة منظمة التحرير، ما استجرّ انشقاقاً حكومياً، وبالتالي شعبياً، انفجر في اشتباكات أيار التي عُدّت تمريناً أولياً على الحرب الأهلية اللاحقة. والعلاقات اللبنانية-السورية، هي الأخرى، لم تكن ممتازة، ولو ظل انفجارها العلني حكراً على المنعطفات الكبرى. فهي، أثناء مواجهات 1969، شهدت تردّياً ومهاترات غير أنها، خلال معارك 1973، انقلبت قطيعةً وإغلاقاً للحدود بين البلدين. ولئن كان وجود منظمة"الصاعقة"المرعيّة سورياً من الأسباب المباشرة للتردي، كان المُستمسَك الدائم، قبل اتفاق القاهرة وبعده، ان السلاح والمقاتلين إنما يفدون عبر سورية، الحريصة على"الإمساك بالورقتين"الفلسطينية واللبنانية، الى لبنان. على أن العلاقات السورية - الفلسطينية لم تكن، إلا في الظاهر، أفضل حالاً. وربما كانت الضربة الأولى التي تلقتها المقاومة ضربة دمشقية، بعد"قضية يوسف عرابي"في 1966 التي قادت الى اعتقال قيادات"فتح"بمن فيهم عرفات نفسه. وإذ أُسست"الصاعقة"لتكون رقيباً على القرار الفلسطيني، ارتبط انقلاب 1970 الأسدي بسياسة التحفظ عن دعم المقاومة في حرب الأردن عامذاك. وقبل هذا جميعاً وبعده، لم تعرف السياسات العربية في القرن الماضي كراهية تساوي ما كنّه الأسد لعرفات. فهل كان اللبنانيون ملائكة وسط هؤلاء الأبالسة؟ بالطبع لا. لقد انتاب لبنان، الرسمي منه والمسيحي، أنه إنما يُعاقَب على نجاحه. فالتجربة التي سقطت ب"حادثة البوسطة"عمّرت أكثر مما عمّرته التجارب الاستقلالية المدنية العربية جميعها، حتى غدا من الصعب ألاّ يُظَن أن تصديعها نسغ حياة لأطرافٍ تتناقص مقوّماتُ حياتها. فهو البلد العربي الوحيد الذي حافظ حتى أواسط السبعينات على حياة برلمانية، مصحوبة بحريات نقابية وحزبية كان آخر تجلياتها الترخيص الذي مُنح، أوائل العقد، للشيوعيين والقوميين السوريين والبعثيين بالعمل الشرعي. وفي انتخابات 1972، دخل الى البرلمان البعثي عبدالمجيد الرافعي والناصري نجاح واكيم، وكاد يدخله أحد أصدقاء الحزب الشيوعي حبيب صادق، فيما ترشّح الأمين العام للحزب نقولا الشاوي ولم يحالفه التوفيق. وهو، كذلك، كان البلد العربي الوحيد الذي تصدر فيه عشرات الصحف اليومية والمجلات على أنواعها، كما تُترجم الكتب والكتابات الدينية والالحادية، اليمينية واليسارية، من كل صنف. أما المرأة اللبنانية فتمتعت، في الممارسة وإن لم يكن في القوانين الموضوعة والمنسيّة، بدرجة من الحرية لا تُقارن بمثلها الا المرأة التونسية. وعرف الاقتصاد اللبناني أزمات جسّدها تضخّم مدينة بيروت وأحزمة البؤس وتفاوت النمو بين المناطق. الا أنها كانت الى أزمات النمو أقرب. فالرأسمالية راحت تمتد، ولو بشيء من البطء، من مهدها البيروتي-الجبلي الى سائر المناطق مدفوعةً بدينامية اقتصادية مميزة. وتحققت، في السنوات التي انتهت الى الحرب، نُسب نمو مرتفعة كما تدفقت الرساميل الأجنبية مثلما تنامت معدلات الدخل الفردي. ومع ان الواردات ظلت خمسة أضعاف الصادرات، عادلت المداخيل المتأتية عن السياحة وتجارة الترانزيت والخدمات والتحويلات الخارجية العجزَ التجاري. ففي 1973، مثلاً، وعلى رغم اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة ثم اشتباكات أيار مايو، ساوى الناتج المحلي، بأسعار يومنا، 7،2 بليون دولار بعدما لم يكن في 1966 غير 2،1 بليون، ليرتفع في 1974 الى 5،3 بليون. وارتفع، بدوره، الناتج المحلي للفرد، في 1973، الى 1023 دولاراً ولم يكن في 1966 الا 560 دولاراً. ولا يستطيع الخيال ان يتخيّل الأرقام التي كانت لترسم وجه الاقتصاد لو لم تقع الحرب واستمرت العائدات المالية العربية، بعد ارتفاع أسعار النفط، في التدفق. والحال أن الانتاجية فاقت، حتى 1975، النمو السكاني بينما قويت الليرة وتأسست، في الفترة تلك، بدايات صناعية معقولة. مع هذا، بقيت البنية السياسية أكثر تخلفاً من البنى الاقتصادية والاجتماعية، وكانت رئاسة سليمان فرنجية أبرز علامات التخلف المذكور. فالرجل الذي اختير، عام 1970، بفارق صوت واحد، استحضر من العمق الريفي الماروني حيث تربّع على رأس إحدى الميليشيات الأبكر نشأة. وبالمقارنة مع سلفه شارل حلو، المديني الموصوف بثقافة كلاسيكية قديمة، تبدى حجم التراجع في العقلية المدبّرة لبلد يتقدم اقتصادياً وثقافياً ويجتاحه التمديُن. بيد أن حلو، السفير السابق في الفاتيكان، لم تسعفه مهاراته الديبلوماسية ونزعته التسووية، في التعامل مع استقطاب شرع يتبلور إثر هزيمة 1967. فرداً على ما اعتبره الأقطاب السياسيون الموارنة حداً من نفوذهم وجزية على الديموقراطية فرضها امتثال الرئيس الأسبق فؤاد شهاب للقاهرة، سارعوا الى الانتقام بعد انهزام عبد الناصر. هكذا أنشأوا"الحلف الثلاثي"الذي حصد أصوات المسيحيين الجبليين في 1968، ثم استأنفوا حملة ثأرهم بإيصال فرنجية الى المنصب الأول. والأخير أبدى فائضاً في العجز عن استجابة التحول. فقد ألحّت تطورات أواخر الستينات، اللبناني منها والعربي، على تجديد التعاقد اللبناني، وتجديد إغراء المسلمين، لا سيما منهم الشيعة الأكثر استبعاداً، بالانجذاب الى المشروع الوطني بعيداً من السلاح الفلسطيني والسطوة السورية. الا ان فرنجية مارس، في المقابل، سياسة فحواها تجاهل الجديد وترك الانقسامات الأهلية، وما ينجرّ عنها من ولاءات، تنمو وتحتقن وتعتمل. وفي موازاة المليشيات المسيحية، والجيش الماروني القيادة والقرار، تأسست"الحركة الوطنية"عام 1973 تطويراً لصيغة"جبهة الأحزاب"في الستينات، وتعبيراً عن تضافر المشكلات العالقة، طائفيها المتصل بمسألة الهوية أم اجتماعيها واقتصاديها. وكانت، في العام نفسه، وعلى إيقاع مقتلة فردان، طغت مسألة"المشاركة"السنية على التداول السياسي الرسمي والمأزوم. وما لبث الإمام موسى الصدر أن أنشأ"حركة المحرومين"، ناطقاً باسم مطالب شيعية محقّة واجهتها السلطة بإدارة الظهر وادعاء التعالي. وبطريقتين اختلفتا ولغتين تباينتا، رد الطرفان الوليدان بعقلية فرنجية نفسها فاستدخلا، بوعي ينتسب الى حافة الهاوية، منظمة التحرير في الصراعات الداخلية، ليس فقط تسليحاً لشبّانهما وتدريباً، بل أيضاً بترسيخ موقع قدم للمنظمة في القرار الوطني. فحينما اغتيل، مطالع 1975، القيادي الناصري معروف سعد، على رأس مظاهرة لصيّادي مدينة صيدا، أكمل اللبنانيون انشطارهم وتوزعهم بين معنيين للوطنية لا يربط واحدهما بالآخر رابط. وهذا يخطّىء القائلين بأن ما جرى ابتداء ب13 نيسان كان مجرد"حرب للآخرين على أرضنا". لكنه لا يخطّىء القول بأن"الآخرين"صنعوا من"حادثة البوسطة"تلك الحرب المديدة والمدمرة التي عرفنا، والتي ما أن ذوى العنصر الفلسطيني الذي رُبطت به حتى أُلحقت بالعنصر الإيراني، ثم بكل ما توافر من عناصر يمكن طيّها بها. وكان في الأمر، ولا يزال، جرعة من"ألف ليلة وليلة". فقد تبدّى لبنان مثل شهرزاد، إما أن تُقتل أو تؤلّف قصة يومية لشهريار الملك. والمنطقة تضج بالشهريارات ممن تعرضوا للخيانات، فقرروا استباحة العذراوات قبل ذبحهن. و"حادثة البوسطة"يوم من تلك الأيام السود حيث لم تنجح شهرزاد اللبنانية، على عكس شهرزاد الأصلية، في تأليف قصة وسردها.