تناولت الحلقة الثانية الاعتداءات الاسرائىلية على الجنوباللبناني وغارة الكومندوس وقتل ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت. وتحدثت عن التداعيات السياسية الداخلية وحصول مواجهات انتهت الى توقيع اتفاق ملكارت الذي أوضحت بنوده بعض النقاط الغامضة في اتفاق القاهرة. وهنا الحلقة الثالثة للاكاديمي اللبناني فريد الخازن. استطاع لبنان أن يتنفس شيئاً من الراحة بعد التطوّرات التي شهدها العالم العربي في مطلع السبعينات حرب الأردن، تسلّم حافظ الأسد الحكم، وفاة عبدالناصر، كذلك أعطته حرب 1973 استراحة قصيرة من معمعة الاضطراب. وإذا كانت حرب 1967 تمخّضت عن هزيمة أصابت كل العرب، فإن حرب 1973 انتهت إلى إنجازات عسكرية وسياسية مهمة لدول المواجهة، وكان اقتسام مغانمها أصعب على العرب من المشاركة في تحمّل الانكسار بعد هزيمة 1967. عانت السياسة العربية مشكلات ناشئة عن صعوبة اقتسام المغانم بعد الانتصار. فالقادة الذين ادّعوا الفضل في تحقيق ذلك النصر شعروا أنهم قادرون على أن ينأوا بأنفسهم عن أعباء الماضي وأخطائه، إنهم الأبطال الجدد لنظام عربي ما بعد حرب 1973. هذه الحرب شاركت فيها الدول العربية بمعظمها بشكل أو بآخر، أي أن الكل ساهم في تحقيق النصر، كل الجهود تضافرت من أجل القضية. لكن ما إن سكتت المدافع حتى شعر كل فريق أن من حقه أخذ قسط من الراحة يبحث خلاله في ما يمكن أن تكون الخيارات البديلة في المستقبل. من النتائج المباشرة لحرب 1973 كانت مشكلة التوفيق بين الانخداع بحجم النصر من جهة، والتوهّم حيال الانهزام من جهة ثانية. من هنا شكلت محاولات التوفيق بين الآراء والأولويّات لدى طرفي النزاع المادة الركيزة لعملية التسوية التي أعقبت حرب 1973، التي كان مهندسها وزير الخارجية الأميركية آنذاك هنري كيسنجر الذي تمخّضت "ديبلوماسيته المكوكية" بين سورية ومصر وإسرائيل عن وضع متأرجح وغير محسوم هو الأكثر إبهاماً في مجال النزاع العربيّ - الإسرائيلي في مرحلة ما بعد 1973. هذا الوضع فتح مجال المناورة والمساومة أمام كل الأطراف المعنيين. إن النتائج غير الحاسمة التي توقفت عندها حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 سهّلت لإسرائيل وللدول العربية على السواء التعاطي مع الوضع بنوع خاص من الديبلوماسية، كما مهدت الطريق للوصول إلى اتفاقات هي أيضاً من نوع خاص. كيسنجر كان أكثر الناس إدراكاً لهذا الوضع غير المألوف، أما الخوض في الإمكانات التي تتيحها الوقائع الجديدة على الأرض لاستكشاف ما يمكن أن تأتي به، فكان الرئيس المصري أنور السادات أكثر الناس استعداداً له. الخيارات الفلسطينية بعد حرب العام 1973 لم يكن للفلسطينيين موقع في كل هذه المنعطفات، فلا في قرار الحرب كانت لهم كلمة ولا في نتائجها السياسية المباشرة كان لهم أيّ دور. دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة ما بعد حرب 1973 من الباب الخلفيّ، تماماً كما دخل لبنان مرحلة ما بعد حرب 1967، لكنّ الفلسطينيين وجدوا أنفسهم، بين ليلة وضحاها، في قلب السياسة العربية - الإسرائيلية، ولكن من دون الإمكانات الكافية والسلطة التي يمكن أن تنهض بهم إلى دورهم الجديد. مع ذلك، وعلى رغم عدم استعداد القادة الفلسطينيين للتحديات المستجدة، كان لا بدّ لهم من مواجهة التغيّرات التي أنتجتها الحرب وذلك عبر إعادة النظر بسياستهم وأهدافهم والتصدّي للمهمّة الكبرى المتمثلة برصّ صفوفهم وجمع كلمتهم. كان على الفلسطينيين، بعد حرب 1973، أن يصوغوا سياسة يعتمدونها في مؤتمر جنيف الذي كان مزمعاً عقده برعاية الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وأظهرت نقاشاتهم في هذا الإطار خلافات في وجهات النظر داخل منظمة التحرير الفلسطينية. الخلافات وعدم القدرة على حسم المسائل المطروحة وردت في أربعة مقالات تحليلية كتبها الدكتور يوسف صايغ، الرئيس السابق لمركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. اللاّفت في هذه القراءة لأحد المفكرين الفلسطينيين البارزين، غير المعروف بمواقفه المتطرفة، هو اتخاذه موقفاً متصلباً من المشاركة الفلسطينية في المؤتمر، وإن أبدى ليونة حيال اعتبار الحلّ الوسط جديراً بالمناقشة. لكنّ خيار الرفض هو الذي تمّ تبنّيه لأنه "أقل الخيارات إلزاماً لمنظمة التحرير الفلسطينية حيال أهدافها النهائية في إقامة دولتها المستقلة السيّدة على كامل التراب الفلسطيني". أما الطرح المؤيد لمؤتمر السلام فقد تمّ رفضه على أساس أن أيّ موقف مساوم لن يؤدي إلى إضعاف الدولة اليهودية ولا إلى استئصال الصهيونية. كان هذا الموقف ليوسف صايغ يقوم على افتراض أنّ بالإمكان تعبئة الجماهير العربية لمتابعة الكفاح لتحرير فلسطين، ولهذا السبب يجب ألا تقع منظمة التحرير الفلسطينية في شرك التنازل عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في استعادة فلسطين. كل تسوية جزئية للمشكلة كانت تعتبر مساومة على الحقوق الفلسطينية، أي خطوة أولى نحو التنازل عن حق الفلسطينيين التاريخي بفلسطين. المسألة الصعبة الأخرى أمام منظمة التحرير الفلسطينية كانت ضرورة الانتقال من وضع الحركة الفدائية إلى جسم نضالي يشكل نواة حكومة في المنفى. هذا الانتقال يمهد لتعاطي المنظمة مع مؤتمر القمة في الجزائر ومع السياسة المتغيّرة للقوتين العظميين، كما مع مؤتمر السلام في جنيف، وهي المسائل التي كان على الفلسطينيين التعاطي معها. في هذا المجال كان الدعم السوفياتي للفلسطينيين عاملاً مهماً، وقد ساعدت زيارة عرفات إلى موسكو في تشرين الثاني نوفمبر 1973 على تقوية الموقع الفلسطيني في السياسة العربية وبالتالي في ما يخص المعادلة العربية - الإسرائيلية. ومع أن مؤتمر القمة العربيّ السادس في الجزائر في نهاية تشرين الثاني 1973 ساده جوّ الخلاف الأردني - الفلسطيني، فقد انتزعت منظمة التحرير الفلسطينية اعتراف العرب باستثناء الأردن بكونها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. أنتجت حرب 1973 تغيّراً استراتيجياً متعلقاً بفصل القوات بين الجيوش المتحاربة على الخطوط الأمامية. وبدأت المفاوضات حول فك الارتباط بين مصر وإسرائيل في تشرين الثاني 1973 إلى أن توصل الطرفان إلى اتفاق في أواسط كانون الثاني يناير 1974 وقّعه رئيسا أركان البلدين. وبعد أربعة أشهر وقّعت سورية وإسرائيل اتفاقاً لفصل القوات في الجولان كان الأميركيون فاوضوا في شأنه. مع أنّ اتفاق فك الارتباط الثاني بين مصر وإسرائيل سيناء-2 استغرق التوصّل إليه سنة إضافية أيلول/ سبتمبر 1975، فقد أسّست ديبلوماسية الخطوة - خطوة التي مارسها كيسنجر الأرضية التي أدّت بطريقة الخطوة - خطوة أيضاً، إلى تهميش البعد الفلسطيني في النزاع العربي - الإسرائيلي. هذا التحوّل الاستراتيجي في ميزان القوى الإقليميّ ترك تأثيراً كبيراً في وضع لبنان وهو المعقل الأخير للفلسطينيين. دبلوماسية المكوك التي اتّبعها كيسنجر لم تشمل منظمة التحرير الفلسطينية ولا لبنان، الذي لم يشارك في حرب 1973. أما منظمة التحرير فلم تكن طرفاً في الحروب العربية - الإسرائيلية وكانت لا تزال تنتظر اعتراف الكثير من الدول بها، هذا فضلاً عن اعتراف الولاياتالمتحدة وإسرائيل بها، وكان لا يزال بعيداً. كانت حصة لبنان من كل هذه التطورات زيارة عابرة في 16 كانون الأول ديسمبر 1973 أمضى فيها كيسنجر بضع ساعات في مطار رياق العسكري حيث وافاه إلى هناك رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية ورسميون آخرون. كان الهدف من هذا المرور العابر البحث في مشاركة لبنان في محادثات جنيف قبل إطلاق الوساطة الأميركية، وأثار القادة اللبنانيون مسألة الحدود النهائية بين لبنان وإسرائيل، كما أثاروا مسألة تسوية القضية الفلسطينية. لم يدخل كيسنجر في أية تفاصيل مع القادة اللبنانيين حول هذه المسائل ولا أعطى أية التزامات بالنسبة إلى تسوية القضية الفلسطينية، لكنه مع ذلك أبدى حزنه على الواقع اللبناني معبّراً عن ذلك بقوله "تردّدت، مراعاة لشعور الرئيس فرنجية، في أن أقول له إن كل ما سمعته في الشرق الأوسط ينبئني بأن خلاص لبنان من ضيوفه الفاغرين أفواههم لابتلاعه يبدو أمراً غير وارد". منذ تلك الزيارة الخاطفة لم يستقبل لبنان وزيراً للخارجية الأميركية إلا بعد حرب 1975- 1976، وهذا ما عكس بوضوح أقصى ما كانت توليه الولاياتالمتحدة من اهتمام بالشأن اللبناني وغياب أية نية لديها أو مبادرة حيال لبنان منذ ما قبل اندلاع الحرب فيه. كان من تطوّرات تلك الفترة أيضاً الدعوة إلى إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة في الأرض المحتلة. أعلنت هذه الدعوة في مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر في أوائل حزيران يونيو 1974 وشكلت تغيّراً نوعياً في استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبح لها الآن موقف سياسيّ محدد يمكّنها من ولوج أية مفاوضات مقبلة على أساسه. بموازاة هذا العامل بدأت السياسة الفلسطينية في العام 1974 تتخذ نهج سياسة "الدولة"، فقد عززت الإنجازات السياسية والديبلوماسية في ذلك العام الموقع الدوليّ لمنظمة التحرير الفلسطينية التي ربحت في تشرين الأول من تلك السنة معركة سياسية كبيرة ضد الملك حسين حين انتزعت في قمة الرباط العربية اعترافاً عربياً كاملاً بأنها "الممثل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطيني". بعد ذلك بشهر واحد سجلت المنظمة إنجازاً ديبلوماسياً تمثل بإلقاء ياسر عرفات خطاباً أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ما لبثت أن أضافت إليه حملة علاقات عامة ناجحة في أوروبا الغربية حيث بدأت تنشئ لها ممثليات دائمة. الخنادق الفلسطينية الاستراتيجية في لبنان فرضت ديبلوماسية الدول الكبرى على منظمة التحرير الفلسطينية ضرورة التكيّف مع المتطلبات الجديدة التي تؤهلها للمشاركة في السياسة الإقليمية حيث تربح ثقة مؤيديها وتنتزع احترام خصومها. وقد ظهر هذا التحوّل، أوضح ما ظهر، في المسار السياسيّ لحركة فتح التي أدرك قادتها أن لهم مصالح لا بد من حمايتها ولا يجوز تعريضها للخطر. اعتبر هؤلاء القادة أن ما نيل بالوسائل السلمية لا يجوز أن تعرّضه للخطر أعمال المتطرفين ممن ليس لديهم أيّ رصيد يخسرونه. من هنا تتضح سياسة الاعتدال وضبط النفس التي مارستها فتح في النصف الأول من العام 1974 حين كانت لم تتضح بعد النتيجة النهائية للمفاوضات العربية - الإسرائيلية التي كانت ترعاها الولاياتالمتحدة. كان لبنان في أواسط السبعينات المجال المفتوح المتبقي لمنظمة التحرير الفلسطينية وقاعدتها ذات الاستقلال الذاتي نسبياً، واعتبرت المنظمة أن للبنان بالنسبة إليها قيمة استراتيجية إضافية وسط تبدّل سريع في ميزان القوى الإقليميّ. وفي حين سعت الدولة اللبنانية للحفاظ على سيادتها وموقعها الاستراتيجيّ، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تسعى لتثبيت ما اكتسبته من امتيازات كيان "الدولة" في لبنان. كانت المنظمة المستفيد الأول من هذا المجرى للأحداث، فأياً تكن مصالح الدول العربية والدول الكبرى في لبنان في فترة السبعينات، تبقى أقل ارتباطاً بلبنان بالذات منها بما كان موجوداً في لبنان: القاعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية الرئيسة للفلسطينيين، ومقر أكبر تجمّع للشعب الفلسطيني بعد الأردن خارج فلسطين التاريخية. وحرصاً على الإنجازات التي وضعت المنظمة في موضع شبه الدولة، باتت حركة فتح ترى في استقرار لبنان النسبيّ في تلك المرحلة مكسباً مهماً للحفاظ على المصالح الوطنية الفلسطينية وتدعيمها. مثل المنظمة في هذا الوضع يشبه المستثمر الذي اضطرّ إلى الدخول في عملية استثمارية أقل ضماناً لرأس المال مما كان يشتهي، لذلك أصبح لا بد لها من الحفاظ على لبنان الذي أصبح بالنسبة إليها بمثابة المصرف الذي أودعته رأس مالها وكل استثماراتها. منطق الملجأ الأخير هذا هو الذي دفع قادة فتح إلى اختيار الواقعية سبيلاً للتعامل مع الحكومة اللبنانية في مطلع 1974، والى التخفيف من العمليات العسكرية ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية. لا بد من أن هؤلاء القادة أدركوا أن حرب الاستنزاف التي أعقبت حرب 1967 قد انتهت بانتهاء حرب 1973، وأنّ فصل الجيوش العربية والإسرائيلية سيؤدي، الآن أو بعد حين، إلى تحوّل انتباه إسرائيل نحو "فتح لاند" في جنوبلبنان. انعكس هذا الهمّ في الخطاب السياسيّ لقادة فتح الذين شددوا على ضرورة عدم إعطاء إسرائيل الذرائع لمهاجمة لبنان. أظهر هذا التصرف الحذر للفلسطينيين خوفهم من إمكان الوقوع ليس فقط في الشرك الإسرائيلي، وإنما أيضاً في حبائل الأنظمة العربية التي كانت تسعى للسيطرة عليهم من طريق خلق وضع من عدم الاستقرار في لبنان، ذلك أن منظمة التحرير لم تعد في وضع القادر، بعد حرب 1973، على نيل الدعم غير المشروط من الدول العربية في حين أوقفت تلك الدول حربها مع إسرائيل. أضف إلى كل ذلك ما باتت تواجهه منظمة التحرير الآن من منافسة قوية، خصوصاً مع أنور السادات وحافظ الأسد، اللذين شنّا حرباً على إسرائيل استعيدت فيها الكرامة العربية بعد هزيمة 1967، وهو عمل لا يقل ثورية عن أعمالها. الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية ونتائجها على لبنان لكن العمليات العسكرية الفلسطينية داخل إسرائيل لم تتوقف، وكانت الذريعة التي استعملتها اسرائيل لشن غاراتها على لبنان. فمنذ شهر نيسان ابريل انطلقت موجة جديدة من أعمال العنف أودت بحياة المئات من المدنيين. الغارات الإسرائيلية بين شهري نيسان وحزيران لم تكن تميّز بين المدنيين وسواهم وقد حصدت الكثير من الضحايا، وكانت رداً على عمليات فلسطينية ضدّ أهداف مدنية داخل إسرائيل في مستعمرات كريات شمونة ومعالوت ونهاريا. صادفت هذه الغارات المتبادلة مرحلة دقيقة كان كيسنجر خلالها على وشك الوصول إلى اتفاق فصل القوات بين سورية وإسرائيل، وقد نفذتها الجبهة الشعبية - القيادة العامة والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التابعة لنايف حواتمه، وهما المنظمتان الرئيستان في جبهة الرفض التي وقفت ضد اتفاق فصل القوات. بعد الهجوم على مستعمرة معالوت أكّد حواتمه أنّ هدفه كان "إجهاض مهمة كيسنجر في المنطقة". لم تكن سورية، ولا منظمة الصاعقة التي تدور في فلكها، حتى ذلك الوقت شريكتين في جبهة الرفض، كذلك لم تكن فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد اتخذتا موقفاً واضحاً حيال هذه المسألة. أما الجبهة الشعبية القيادة العامة والجبهة الديموقراطية، فعلى رغم الخصومة بينهما، كانت عملياتهما ضد إسرائيل تهدف إلى زعزعة مواقع الذين يستفيدون من الوقف الموقت لتلك العمليات، وتحديداً سورية وحركة فتح. كانت الجبهتان على علاقة بليبيا وبالعراق وهما النظامان اللذان لم يكن لديهما ما يخسرانه في العام 1974 إذا مالت سياستهما نحو التطرف، بل بالعكس فكلما ازداد موقفهما تصلباً، خصوصاً العراق، الخصم الرئيس لسورية، ازداد رصيدهما. بالنسبة الى القذافي، القابع في ليبيا بعيداً من موقع الحدث، كانت سياسة التطرف خبزه اليوميّ، لبنانياً وعربياً على السواء. كانت المنظمات الفلسطينية الراديكالية هي أيضاً وراء الصدامات التي انفجرت قرب مخيم تل الزعتر في ضاحية الدكوانة في بيروت حيث اشتبكت عناصر من الجبهة الشعبية - القيادة العامة بمناصرين محليين لحزب الكتائب، واستمرت المواجهات ثلاثة أيام متتالية لكنها اقتصرت على جوار المخيّم. صحيح أن هذه المواجهات لم يتسع نطاقها، لكنّها مع ذلك أدّت إلى نوع جديد من الترتيبات الأمنية وهو تشكيل قوة مشتركة لبنانية - فلسطينية - كتائبية لحفظ الأمن. هذا الترتيب كان موضع انتقاد شديد من جانب الكثير من السياسيين اللبنانيين، وفي طليعتهم ريمون إدّه، ذلك أن ترتيبا كهذا شكّل سابقة في التعاطي مع الفلسطينيين لا بل شكّل اعترافاً من الدولة بأن يكون لفريقين من خارج الدولة، الفلسطينيين والكتائب، الحق في أن يفرضا القانون إلى جانب قوى الأمن الشرعية. في العام 1974 تحوّلت مسألة الدفاع عن المخيّمات الفلسطينية ضد الغارات الإسرائيلية موضوع نقاش داخلي، وكان حصول الفلسطينيين على السلاح يتم عبر تهريبه من سورية إلى لبنان. وحين صعّدت إسرائيل غاراتها الجوية أقامت سورية، بناء على طلب عرفات، نظاماً للدفاع الجوي في المخيّمات، وكان عرفات طلب إلى الرئيس الأسد التدخل لدى الرئيس فرنجية للسماح بإقامة النظام الدفاعي في مخيّم تل الزعتر حيث دخلت وحدة عسكرية سورية من واحد وعشرين عنصراً لتشغيله. كذلك دخلت المخيّمات وحدات من لواء القادسية، ولكن بمعرفة السلطات اللبنانية هذه المرة. فالسلطة اللبنانية لم تكن غير قادرة على حماية المخيّمات الفلسطينية فحسب، وإنما كانت عاجزة عن حماية المدنيين أيضاً. وفي خطوة مماثلة هدفت إلى تقوية الدفاع عن الجنوب شرعت منظمة التحرير في بناء ملاجئ تحت الأرض في عدد من المخيّمات، وجاءت هذه الخطوة تمشياً مع قرارات مجلس الدفاع العربي المشترك الذي عقد في القاهرة، وقد رصدت الدول العربية لهذا المشروع أربعين مليون ليرة لبنانية شكلت أول تمويل عربيّ رسميّ للبنى التحتية العسكرية للفلسطينيين في لبنان. لم تمانع الحكومة اللبنانية بهذه الإجراءات في غياب البدائل الأخرى. طبعاً هذا لا يعني أن منظمة التحرير لم يكن لديها ما تعتمد عليه سوى حسن نيات العرب وأموالهم لبناء الملاجئ وشراء السلاح، وإنما كان لهذا القرار أهمية رمزيّة معناها اعتراف العرب بحق الفلسطينيين باتخاذ ما يرونه ضرورياً من إجراءات الدفاع عن أنفسهم. ثمة قرار عربيّ آخر لافت اتخذه مؤتمر القمة العربية في الرباط في العام 1974 وهو تكليف الرئيس اللبناني إلقاء خطاب باسم الدول العربية أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني. وقد رافق فرنجية إلى نيويورك وفد رفيع المستوى شكل دليلاً ليس فقط على دعم لبنان القويّ للقضية الفلسطينية، لكن على توافق لبناني حول ضرورة الوصول إلى تسوية شاملة للنزاع العربي - الإسرائيلي، وخصوصاً تسوية جوهر هذا النزاع، أي القضية الفلسطينية. العسكرة المنظمة عبقت الأجواء اللبنانية في العام 1974 بمناخ من العسكرة المتمادية والظاهرة، وفي آذار مارس من ذلك العام شهد لبنان منحى لم يكن يعرفه من قبل وهو الشكوى الشيعية التي رافقها ظهور السلاح، أي عسكرة الاحتجاج الشيعيّ. ففي لقاء شعبيّ حاشد في مدينة بعلبك البقاعية أعلن الإمام موسى الصدر ثورة الشيعة على الحرمان، وفي خطاب ألقاه في الآلاف من مناصريه قال السيد موسى: "إن السلاح زينة الرجال". وما إن أعلن الإمام عن انطلاق حركة المحرومين حتى أخذ أنصاره يقتنون السلاح ويتدربون على يد حركة فتح قرب بعلبك. تابع اللبنانيونوالفلسطينيون مراكمة السلاح وكان التوتر شديداً في شكل خاص بين بعض الأطراف، ففي 22 أيلول 1974 وقع اشتباك في قرية ترشيش في المتن الأعلى بين أنصار كمال جنبلاط في المنطقة وأعضاء في حزب الكتائب كانوا يحتفلون بافتتاح مكتب حزبي في القرية، وانتهى الاشتباك بسقوط ثلاثة قتلى وجريحين. صحيح أن الاشتباك انحصرت مفاعليه في الخصومات المحلية، ولكنّ الصحيح أيضاً أن جواً مشحوناً بالتطرف كان آخذاً بالانتشار في كل أرجاء البلاد. وفي حادث آخر وقع في صيدا قتل فيه أحد أفراد الشرطة مسلّحاً فلسطينياً، انتشر بعده المسلحون الفلسطينيون مقيمين الحواجز على الطرقات ومفجّرين العبوات الناسفة في أنحاء مختلفة من المدينة. وفي بيروت وقع اشتباك مسلّح بين فصائل من أحد الأحزاب الناصرية، وكان ذلك عندما نصب كمين مسلّح للنائب الناصريّ نجاح واكيم أصيب فيه أربعة أشخاص بجروح. عكس هذا الحادث تضارب المصالح لدى المناصرين الفلسطينيين والعرب للأحزاب الناصرية المتعددة في البلاد. بين الذين كانوا موضع شك في نصب هذا الكمين إبراهيم قليلات، الذي تولّى في ما بعد قيادة "المرابطون"، أكبر التنظيمات السنية خلال الحرب. في شهر أيلول 1974 وجد الرئيس تقي الدين الصلح أن حكومته التي أمضت في الحكم خمسة عشر شهراً أخذت تفتقد الانسجام بين وزرائها، وقد تمحور الخلاف الذي هدّد تماسك الحكومة حول فشلها في تطبيق الحظر على الأسلحة النارية. وكانت قوى الأمن اعتقلت عدداً من الأشخاص بتهمة حيازة أسلحة غير مرخص بها. لكن ذلك لم يكن سوى إجراء شكلي يرمي إلى إسكات معارضي الحكومة، خصوصاً كمال جنبلاط الذي كان ممثلاً فيها بوزير الداخلية بهيج تقي الدين. كان جنبلاط أعلى معارضي الحكومة صوتاً، اتهم بيار الجميّل وكميل شمعون، اللذين كانا ممثلين في الحكومة أيضاً، بجمع السلاح وتدريب الميليشيات فيما هما يتآمران ضد الفلسطينيين. جاء ردّ الجميّل وشمعون على جنبلاط باتهامه بامتلاك ترسانة من الأسلحة في بلدته المختارة، وبأنه "أكبر المتآمرين على الفلسطينيين". الحقيقة أن كل من اتهم الآخر بتجميع الأسلحة كان اتهامه في محله، ففي العام 1974 لم يبق فريق لبناني أو فلسطينيّ إلاّ اقتنى السلاح وتدرّب عليه. بعد أحداث 1969 انخرط أعضاء في حزب الكتائب في عمليات تدريب عسكرية غير منتظمة، إلى أن جاءت مرحلة مفصليّة أعقبت المواجهات بين الجيش اللبناني والقوات الفلسطينية في العام 1973، عندها بدأت الأحزاب ذات القواعد الشعبية المسيحية تجمع السلاح وتتدرب على استخدامه بصورة منتظمة. وكان حزب الكتائب أكثر هذه الأحزاب تنظيماً والتزاماً وهو، بتركيبته شبه العسكرية وقاعدته الشعبية الواسعة والممتدة في معظم المناطق اللبنانية كان، كما أشار فرانك ستوكس، "رافداً حيوياً للدولة" وجاهزاً باستمرار لنجدتها عندما تدعو الظروف المتأزّمة إلى ذلك. كذلك بدأت أحزاب أخرى تنظم صفوفها عسكرياً، خصوصاً حزب الوطنيين الأحرار بقيادة كميل شمعون، وفريق نخبويّ محدود الحجم من المهنيين المسيحيين الشباب كان يدعى "التنظيم"، بقيادة الطبيب فؤاد شمالي. لكنّ أمراً جديراً بالتذكير هنا هو أن كل الأحزاب اللبنانية، بقواعدها الإسلامية أو المسيحية، اليسارية أو اليمينية، لم تكن لتقترب من مرتبة منظمة التحرير الفلسطينية ومستواها، ليس فقط من حيث تفوقها في امتلاك البنى التحتية العسكرية والأمنية، وإنما على الأخص من حيث مواردها المالية. كانت الأحزاب ذات القاعدة اليسارية والإسلامية تعمل بالتعاون الوثيق مع الفلسطينيين، وكانت تحصل على الدعم المالي والعسكري من الدول العربية خصوصاً ليبيا وسورية والعراق. أما الأحزاب ذات القاعدة المسيحية فكانت تعتمد في شكل رئيس على الدعم المالي الخاص، كما حصلت على مساعدات عسكرية من الجيش اللبناني ابتداء من العام 1973، وكانت تلك المساعدات عبارة عن أسلحة خفيفة وبعض أنواع التدريب قام بها ضباط من الجيش. البناء السياسيّ والإعلامي والعسكريّ الأكثر فاعلية في لبنان كان ذاك الذي امتلكته المنظمات الفلسطينية. ففي العام 1974 كانت المنظمات الفلسطينية العاملة في لبنان لا تقل عن عشر منظمات وكانت بناها التحتية العسكرية والسياسية منتشرة في محافظاتلبنان الخمس. وكانت تلك المكاتب - المراكز تستخدم لأهداف سياسية وأمنية وعسكرية وإعلامية واستخباراتية. في بيروت كان عدد المراكز مئة مركز 37 لحركة فتح و12 للصاعقة و12 للجبهة الشعبية - القيادة العامة، نصفها تقريباً كان يستخدم لأغراض عسكرية وأمنية. كانت القدرات العسكرية للمنظمات الفلسطينية عشية الحرب اللبنانية تتجاوز، حجماً ونوعاً، قدرات كل الفئات اللبنانية مجتمعة، وبلغ عدد القوات الفلسطينية 11698 عنصراً، حصة مخيّم عين الحلوة منها 2300 عنصر، يليه من حيث العدد مخيّما صبرا وشاتيلا فمخيّم الرشيدية ثم مخيّم تل الزعتر. استقالة حكومة تقي الدين الصلح صمدت حكومة تقي الدين الصلح أكثر من سنة في وجه العواصف التي هبّت عليها نتيجة الأعمال الحربية الفلسطينية - الإسرائيلية من جهة والغليان الداخليّ من جهة ثانية. وحافظ الصلح خلال فترة حكومته على علاقة جيدة مع الرئيس فرنجية، في حين سهّل عليه جنبلاط مهمته بتهدئة معارضي الحكومة، خصوصاً في صفوف مناصريه اليساريين، كما إن الحصيلة النهائية للنتائج السياسية لحرب 1973 لم تكن قد تبلورت بعد، فكان ذلك عاملاً مسهّلاً لحكومة الصلح. لكن هذه الحكومة فقدت القدرة على الاستمرار في شهر تشرين الأول 1974. بعد استقالة حكومة الرئيس الصلح كلّف فرنجيّة صائب سلام تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن كانت علاقة الرجلين تحسنت منذ استقالة سلام في 1973. لم ينجح سلام في تشكيل الحكومة، فإضافة إلى صعوبات التوفيق بين المطالب المتضاربة للأحزاب والقادة السياسيين حول توزيع الحقائب الوزارية، اعترض سلام على إصرار فرنجيّة على إشراك ابنه طوني في الحكومة. لكن الحقيقة أن سلام كانت لديه أسباب أخرى جعلته يتردد في التصدي لمهمة تشكيل الحكومة، فبحسب ريمون إدّه الذي استشاره سلام حول مسألة التشكيل، كان سلام متردداً في تولّي المهمة لأنه كان "يملك معلومات بأن البلاد مقبلة على أحداث خطيرة". لعلّ أهم التحديات التي يمكن أن يواجهها أيّ رئيس حكومة في نهاية العام 1974 النفوذ المتزايد لكمال جنبلاط في السياسة السنيّة. وفيما كان المرشحان البارزان لرئاسة الحكومة رشيد الصلح وعبدالله اليافي، فقد نجح كمال جنبلاط في إثبات نفوذه بأن جاء إلى رئاسة الحكومة برشيد الصلح الذي يدين له بالولاء الكامل. شكّل رشيد الصلح، وهو ليس من السياسيين الأقطاب، حكومة من 18 وزيراً في 31 تشرين الأول 1974 ونالت ثقة مجلس النواب بعد تشكيلها بثلاثة أسابيع. أما معادلة التوازن في هذه الحكومة فكانت قائمة على المساواة في التمثيل بين كمال جنبلاط وكميل شمعون وبيار الجميّل، كلّ منهم بوزيرين. انتهى العام 1974 بتطوّر مثير للاهتمام، وهو ما أسفرت عنه الانتخابات الفرعية في النبطية لملء مركز نيابي شغر بوفاة نائب المنطقة، فقد فاز بالمقعد الشاغر المرشح رفيق شاهين الذي كان يدعمه الإمام موسى الصدر ضد المرشح الذي كان يدعمه رئيس المجلس النيابي آنذاك، كامل الأسعد، وكان فارق الأصوات كبيراً. كان انتصار شاهين ضد مرشح الأسعد وضد مرشحين يساريين آخرين يدعمهما الحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث الموالي للعراق، إشارة ساطعة الدلالة على ما بلغه نفوذ الإمام الصدر داخل الطائفة الشيعية. نتج هذا الواقع السياسيّ من عملية انتخابية حرّة وتنافسية فكان إشارة الى تراجع النمط التقليديّ في السياسة الجنوبية الشيعية التي بقيت تحت سيطرة آل الأسعد منذ إنشاء الدولة اللبنانية في العام 1920. أما النقطة المهمة التي تكشفها تلك النتيجة الانتخابية، خصوصاً من حيث حصولها قبل اندلاع الحرب ببضعة أشهر فقط، فهي أنها أظهرت أن التغيير كان ممكناً حتى في أكثر المواقع خضوعاً ل"الإقطاعية" في لبنان، كما أظهرت أن أصوات الناس العاديين، وليس العنف، يمكن أن تفكّ قبضة الزعامة التقليدية بالغاً ما بلغ تجذّرها. مقاطع من الفصل الخامس من كتاب "تفكيك أوصال الدولة في لبنان"، دار النهار، بيروت.