اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأبرز في العقدين الاخيرين ربما شكل فاصلا بين مرحلتين في تاريخ لبنان والمنطقة. مرحلة وصاية الحكام على شعوب المنطقة باسم اولوية المعركة القومية وبالتحديد الصراع ضد الاحتلالات الاسرائيلية، ومرحلة الوصاية الدولية على الشعوب والحكام في الآن نفسه تحت راية الديمقراطية وحقوق الانسان. كما وصاية الحكام تختلف الوصاية الدولية شدة وتتدرج من التنديد الاعلامي والعزل السياسي وصولا الى التهديد العسكري والاحتلال مروراً بقرارات المحاسبة وفرض العقوبات التي هي نفسها أنواع ودرجات. والظاهرة ليست جديدة بل تمتد الى سنوات عدة وربما تعود الى ما قبل سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. ولكن بعد هذه المحطة ازداد اثرها وتعاظمت قدراتها لأن الدول المصنفة في محور الشر أو"الدول المارقة"أصبحت تفتقد العون الذي كان يمكن أن نحصل عليه من الكتلة الأخرى التي كانت تصنفها دولاً تقدمية او وطنية تحررية في لغة تلك المرحلة. بل ان الدول المحسوبة على المعسكر الغربي نفسه كانت في تلك المرحلة تحسب نفسها محصنة تجاه أي تهديد وترفض أي ضغط أو تدخل في شؤونها الداخلية. إذ يكفي المعسكر الغربي أنها داخلة معه في تحالف عالمي ضد الشيوعية وضد ما تمثله من حركات داخلة معه من حركات"إخلال بالأمن وغسل لعقول الشباب وابعادهم عن جادة الايمان"ومثل هذه العلاقة انهارت من اسسها مع انهيار ابراج نيويورك وبدء الحرب على الارهاب واعتناق الادارة الاميركية لحق الضربة الاستباقية، بل الذهاب الى أبعد ما في سياسة محاربة الارهاب في جذوره وتجفيفه من المنابع. وتطبيق مثل هذه السياسة لم يعرفه الحلفاء وطال حتى"المحايدين"ودخل في تفاصيل الأنظمة من قوانين السجون الى توزع مقاعد الجامعة بين الجنسين. وكما في مرحلة الانقلاب القومي المدعوم من المعسكر الاشتراكي تقف الحركات السياسية وبعض الشرائح من المجتمعات موقف المتحمس تحذر من الانقلاب الديمقراطي المدعوم وأحياناً المستحضر من المعسكر الغربي. في الواقع ان الانقلاب بطبيعته القومية والديمقراطية كان يحمل بعض هموم الجماهير وشعاراتها. فضباط الحركات القومية مع اطارات أحزابها كانت تداعب طموحات شعبية في بناء قوى مسلحة قادرة على الحاق الهزيمة بإسرائيل من جهة وبناء إدارة حديثة تكون مقدمة للدولة الحديثة التي تبعد العشائرية والمناطقية والطائفية عن مفاتيح السيادات الحكومية وضمنا تقضي على انظمة الاستقلال، التي ظلت تصنف انها أنظمة انتدابية، تابعة لسلطات للانتداب، التي لم تخرج إلا شكلاً من البلدان العربية حسب ما كان شائعاً آنذاك. ورواد الحريات والحقوق المدنية اليوم يحملون اشارات مقبولة بقلق كبير للجمهور العريض فيها ارهاصات قيام دولة المؤسسات والقانون وضمناً تخلص شعوب البلدان العربية من حكومات وأنظمة مصنفة أنها انظمة مستبدة تخضع لنظام الحكم الفردي وان اختلفت درجات استبدادية هذه النظم نفسها وفي الانقلابين القومي والديمقراطي تظل شبهة ما تجعل استجابة الجمهور العريض قبل ان تنكفئ على نفسها وتقاطع السياسة مرغمة أو بإرادتها ولكن فترة التأييد هذه تكون عادة تمتد لفترة قصيرة وكافية لإضفاء الشرعية الشعبية وقبل الثورية على الانقلاب القومي والشرعية الاقتراعية وقبل الديمقراطية للانقلاب الذي تشهد بعض فصوله حالياً. شبهة الاشتراكية جعلت الرأي العام المسلم العريض ينظر بحذر يتحول الى عداء مقيم الى التغيير القومي. وشبهة الليبرالية تجعل الرأي العام نفسه يبادر الى طي مرحلة الحذر بسرعة والدخول في العداء بل مباشرة العمل المسلح كما هو حاصل في افغانستانوالعراق ومرشح بل هو في ساحات أخرى كان استباقاً كما يحصل في دول مثل المملكة الشريفية المغربية والمملكة العربية السعودية والكويت ولم تكن احداث الجزائر بعيدة عن مثل رد الفعل هذا. في الحال اللبنانية تكشف عن بعد آخر للتجاذب بين الانقلابين. فتطورات الاحداث شهدت ثلاث تحولات حصلت أو في طريقها للحصول. يتحول الموقع الجنبلاطي رمز الانقلابية القومية الاشتراكية على مدى عقود عدة الى موقع الانقلاب الديمقراطي. ولا تهم الاشارات، سواء تلك التي ترد من الموقع نفسه بقصد التخفيف من وقع الانقلاب مثل الحديث عن المقاومة و"سيد المقاومة"...الخ أو ترد من مناوئيه الذين يرون في هذا الانقلاب مجرد حال موقتة أسبابها انتخابية وتحالفية. فالانقلاب حصل واصبح أمراً واقعاً بل أكثر من ذلك، هو المظلة التي تتم تحتها عملية استكمال عناصر الانقلاب واغتيال رفيق الحريري ليقضي ليس فقط على ابرز قوة سياسية اقتصادية مقررة في مستقبل لبنان، بل أيضا على نقطة توازن كان يمثلها الحريري بين الانقلابين، ما يعني ان الاغتيال أياً كان القائم به وأياً يكن المستهدف به اشارة لفتح الصراع على افق اكثر جذرية ووضوحاً مما قبله. والانقلاب يدخل مرحلة متقدمة تمهد لتكامل حلقاته الأخرى مع انسحاب الجيش السوري وانهاء الدور الامني السياسي لسورية في لبنان الذي بدأ في حزيران يونيو 6791 وتكرس في اتفاق الطائف 9891. الحلقات الثلاث تكون قد أزاحت من الطريق معظم ما أفرزته مرحلة الثلاثين عاماً الماضية التي هي في نظر البعض سنوات اعادة"تعريب "لبنان ونقله الى خانة المعسكر"القومي"في العالم العربي بعدما ظل في نظر هذا البعض نفسه متأرجحاً بين انتمائه العربي وانتمائه للغرب مع مراحل من الصراع المحتدم والهدنة الهشة. ومثل هذا يظهر في ادبيات المعارضة مثل القول الساعة ان ما يحصل اليوم هو انتفاضة اعادة لبنان الى"وجهه الاصلي"الذي انقلبت عليه"حروب الآخرين"على أرض لبنان. ومثل هذه المقولات لا ترى في الانقلاب الديمقراطي"إلا ثأراً من سنوات"الانقلاب القومي"وتصفية لآثاره، والنماذج المقدمة تقول: ان غزو العراق كان عملياً انتقاماً لانقلاب 41 تموز يوليو الذي اطاح بالملكية والتي نقلت العراق من معسكر الى معسكر، وان التوبة مع ليبيا وصلت الى الهدف نفسه ولكن بوسائل سلمية، وقبلها انهاء الحرب في الجزائر لصالح واقع شعبية النفوذ الفرنسي، ويدلون مثلاً على ذلك استقبال الرئيس الفرنسي جاك شيراك استقبال الفاتحين لأول رئيس فرنسي يزور الجرائر منذ حرب الاستقلال. وعلى القائمة الآن تبرز سوريا وايران. الأولى لأنها كانت أول بلد في المشرق رفع لواء"معاداة"المعسكر الغربي وأقام علاقات مع المعسكر الاشتراكي. اما الثانية فالثأر معها مفتوح على جبهات عدة. ويرى من يضع الامور في هذا السياق ان حرب الوحدة اعفت اليمن الشمالي من ثأر الانقلاب على الامامة وأن كامب دايفيد أعفت مصر من ثأر الانقلاب على الملكية. بهذا المعنى يبدو الحديث المنسوب للرئيس بشار الأسد في احدى الصحف الايطالية، اقرب الى الواقع رغم نفيه من قبل المصادر السورية وفيه ينسب للأسد أنه يتوقع عملاً عسكرياً اميركيا ضد بلاده. الحلقة الاكثر حساسية والساحة اللبنانية حبلى بها، وآثار الحمل تظهر على رغم كل محاولات الاخفاء، هو ان عملية الثأر ستتضمن اتاحة الفرصة لإسرائيل كي تثأر من"حزب الله"لأن اعتقاداً سائداً بانه القوة الوحيدة في المنطقة التي نالت من سطوة اسرائيل وألحقت بها هزيمة سياسية وعسكرية، وأن الاشادات المتتالية من جميع الاطراف بالمقاومة وسيدها تكاد تكون مجرد تبرئة للنفس مما سيحصل، تماماً تشابهها وفق الكلام الرثائي الايجابي الذي قيل في الراحل المغدور الشهيد رفيق الحريري. ولقائد ان يقول ان ابرز ظاهرتين حَملتا وحُملتا سمات ايجابية في ربع القرن الاخير في لبنان هما رفيق الحريري وحزب الله... وانهما الطرفان اللذان يتبدل الحديث حولهما 081 درجة من الذم الى المدح ويصح عكس ذلك ايضاً. يجب ان نعترف ان واقعنا السياسي والاجتماعي هو الذي اسقط الظاهرات النبيلة قبل ان يتجرأ احد على مد يد العدوان عليها. وان واقعنا هذا نفسه هو المسؤول عن انتهاء الانقلاب القومي الى حكم الحزب الواحد او الفرد المستبد. وانه سيكون المسؤول عن انتهاء الانقلاب الديمقراطي الى توليد بؤر للتفتيت والصراعات الطائفية وربما المذهبية. مع ذلك علينا ان نركز الضوء على ايجابيات تتمثل المقدمة في العمليات الانتخابية البلدية في السعودية والبرلمانية في العراق والرئاسية في فلسطين. ولقائل ان يقول نصف الكأس ملآن ماء، ونصفه ليس فارغاً بل ملآن دماء من تفجير يودي بحياة رفيق الحريري وآخرين معه، وآخر يودي ب 811 من ابناء مدينة الحلة في العراق. * كاتب لبناني.