كل الحركات القومية في التاريخ الحديث كانت حركات استبدادية. فهل تشذ الحركة القومية العربية عن القاعدة؟ الاستبداد لغةً، هو التفرد بالرأي وفرضه على الآخرين وعدم التشاور معهم... الخ. بهذا المعنى لا يكون علاجه إلا بالديموقراطية الحديثة، التي هي نتاج الحضارة الرأسمالية بنسختها السياسية المكرسة في الثورتين الفرنسية والأميركية، تحت أحكام القانون الوضعي ودولة الحق، دولة حقوق الإنسان. قبلهما تجسدت الديموقراطية بصيغ شتى، من بينها النسخة اليونانية، التي تقوم على تشاور بين السادة دون العبيد، والشورى الإسلامية التي لم تخرج من النص الديني إلى الحياة العملية، بل ظلت أسيرة تصور نظري يحصر الاستشارة بأقلية من أهل الحل والعقد، وهما نسختان تعايشتا مع كل أشكال الاستبداد المعروفة في العصور القديمة، في ظل غياب القانون. النسخة الأولى من الديموقراطية الحديثة، التي بدأ تطبيقها في القرن السابع عشر هي استمرار لصيغة قديمة، لم تمنح حق المشاركة في اختيار الممثلين السياسيين لجميع المواطنين، بل كان يحصر هذا الحق في هيئة انتخابية مكونة من النخب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية. أما الاقتراع العام بمضمونه الديموقراطي المعاصر فلم يكن بلوغه سهل المنال، ولا سيما أن الحركات القومية ناصبت العداء للديموقراطية. هذا ما حصل في أوروبا وكلف البشرية تضحيات ودماء وحروباً خاضتها القوميات بعضها ضد بعض، وكان آخرها الحرب العالمية الثانية، وهو ما حصل في عالمنا العربي إلى أن أتت انتفاضات الربيع. القوميات كانت حاجة للتطور الرأسمالي في مراحله الأولى، فهي أخذت على عاتقها بناء الأوطان الحديثة (الدولة - الأمة) وتوحيد بلدانها، على غرار ما حصل في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، حيث تجمعت مدن أو ولايات أو مقاطعات، تحت راية الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا، لتشكل وطناً، ركائزه شعب وأرض وسيادة. في العالم العربي رفضت الحركات القومية فكرة الأوطان، ورأت فيها مؤامرة حاكها اتفاق سايكس بيكو غداة الحرب الأولى، وناضلت من أجل وحدة الأمة العربية، فيما راحت تتعزز فكرة الرباط الديني غداة قيام الدولة الصهيونية على أساس عنصري وديني على أرض فلسطين. وفي الحالتين، القومية والدينية، تشتتت الجهود، فلا قامت أوطان ولا نهضت أمة عربية ولا ارتضى التاريخ بأن يجره الجاهلون بقوانينه إلى الوراء باسم أوهام الخلافة السلطانية أو الحنين إلى عهد الصحابة أو إلى أمجاد أمة دينية في مواجهة الأمة القومية. من بين ما أثبته الربيع العربي أن المرحلة القومية أخرجت العالم العربي من التاريخ، أو هي أرجأت تطوره قرناً كاملاً من الزمن، بددت خلاله طاقاتها وإمكاناتها وثرواتها المادية والبشرية، ورفضت أن تتعلم من دروس التاريخ أن الحضارات كسباق البدل، تبدأ الجديدة من حيث تنتهي القديمة، واختارت أن تبدأ من حيث بدأت الحركات القومية في أوروبا، أي من التعصب القومي، الذي دفعت شعوب العالم ثمنه غاليا جداً. الحركة القومية العربية لم تنشأ باعتبارها حاجة تمليها ضرورات التطور التاريخي لبلدان العالم العربي، بل كحاجة لمواجهة الآخر المتمثل بالاستعمار الأجنبي، ولم تقصر الدول الرأسمالية في تأمين الذرائع لتحويل الحركات القومية إلى حركات شوفينية مبنية على التعصب والعداء للآخر. وهي لم تنشأ تعبيراً عن حاجة السوق للوحدة وحاجة الوطن لسلطة مركزية تجسد سيادة القانون، وعن الحاجة لبناء المستقبل في سياق حضارة جديدة ظهرت معالمها في الغرب وراحت تبشر بتعاليمها وتروج لبضائعها المادية والعلمية والثقافية بكل الأساليب والطرق، عبر الإرساليات وبواسطة الجيوش... الخ، بل تعبيراً عن رغبة في استعادة مجد مضى وحضارة غابرة، يرمى الاستعمار بتهمة تدميرها وتقسيم العالم العربي إلى أقطار. وليس أبلغ دلالة على ذلك من أن يحمل أحد روافد الحركة القومية اسم البعث العربي. أنظمة الحكم الأولى التي قامت بعد الاستقلال في كل من مصر وسوريا والعراق حملت أجنة ديموقراطية أجهضتها أحزاب الحركة القومية، بانقلابات عسكرية متتالية، كان أبرزها انقلاب 23 تموز (يوليو) في مصر بعد انقلابات في سورية وقبل أخرى في العراق، ثم على منوالها في السودان وليبيا والجزائر. قبل الانقلابات كانت تلك البلدان تعيش حياة سياسية عادية، يجاز فيها التظاهر السلمي، وتنظم انتخابات دورية وإن مع الشوائب... إلخ. بعد مرحلة الانقلابات ماتت الحياة السياسية وبات لا يعلو صوت فوق ضجيج المعركة المتخيلة مع الكيان الصهيوني، التي باسمها كُمَّت الأفواه وفرضت الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وعلقت الدساتير، ونمت أجهزة المخابرات على حساب الدولة ومؤسساتها والفصل بين سلطاتها، وتم التصويب على عدو خارجي وعلى عملاء له في الداخل (الاستعمار وأعوانه من القوى الرجعية)، وابتكرت صيغ من العداء للآخر، القريب والبعيد، وامتلأت السجون برفاق السلاح وعلقت المشانق لكل صاحب رأي مختلف، وفتحت أبواب المنافي لمن ليس مرغوباً به مقيماً في مسقط رأسه... الخ. ليست حالة الحركة القومية العربية حالة فريدة من نوعها في العالم، فهي متماثلة في كل مكان، من أوروبا مركز انطلاقتها، إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. القومية صارت مرادفاً للتعصب والشوفينية والعداء للديموقراطية. الرأسماليات الأولى وضعت القوميات في تنافس وأضرمت بينها حروباً ضارية، والاشتراكية اقترحت حلاًّ يقضي بإلغاء القوميات وتذويبها في مصهر الأنظمة الشمولية، والبلدان المستعمَرة (بفتح الميم) استنهضت نفسها ضد المستعمر وجيشت واستنفرت ثم اكتفت بالتصويب على «عملاء» في الداخل ينتمون إلى قوميات أخرى. الربيع العربي أخمد الضجيج والصخب اللذين رافقا الأوهام القومية، وطالب المناضلين من أهل ساحات الحرية والتحرير بمزيد من الواقعية والتشخيص العلمي لأزمات بلداننا، ويأتي في رأس الخلاصات التي توصل إليها أهل الربيع أمران: الأول هو أن هذا العالم العربي ينتمي إلى تاريخ واحد، وأن معالم الربيع في كل أنحائه تكاد تكون واحدة، وإن اختلفت أشكال الثورات وأساليبها، وأن المعنى المشترك في كل انتفاضاته هو البحث عن الديموقراطية الموؤودة. الثاني هو أن الوحدة القومية العربية لا تتنافى مع وجود أقطار ترسخت كياناتها خلال قرن من الزمن، وأن وجود الأقطار ليس مفتعلاً، بل هو امتداد لوجود الولايات في مرحلة الحكم العثماني، وأن المفتعل حقاً والمجافي للواقع هو العمل بكل وسائل الإكراه والعنف، على غرار ما حاول أن يفعله النظام السوري في لبنان والنظام العراقي في الكويت، على إلغاء الخصوصيات القطرية التي تكونت في مجرى التاريخ الطويل لبناء المجتمعات العربية. القضية القومية الأولى اليوم هي توحيد الأمة ضد الاستبداد القومي الذي مارسته الحركة، بمكوناتها الحزبية الثلاثة :أحزاب الإسلام السياسي، الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، الأحزاب القومية البعثية والناصرية ومشتقاتها. القضية القومية الأولى اليوم تتجسد بالعمل على بناء دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الحريات العامة والديموقراطية. الربيع العربي يتخبط، لكن لا حل لأزمات الديموقراطية إلا بالمزيد من الديموقراطية. * كاتب لبناني