حتمت المكونات الجيوسياسية والديموغرافية والسوسيولوجية اللبنانية على لبنان حالة سياسية استثنائية، أطلق عليها السياسي اللبناني «النأي بالنفس» أو الحياد، إذ تنأى لبنان بنفسها عن الصراعات الإقليمية في منطقة متخمة بالصراعات، وكان هذا المصطلح محل تجاذبات داخلية لبنانية، بين ثلاث فئات، ترى الأولى أن لبنان يجب أن يكون جزءا عربيا أصيلا وطرفا في نزاعات المنطقة، وأخرى ترى التخلي التام عن كل الانتماءات العربية والإقليمية، وطرف ثالث يرى أن تبقى لبنان على الحياد ما أمكن، دون الانسلاخ من محيطها العربي والإقليمي. منذ استقلال لبنان عام 1943 كان مصطلح «النأي بالنفس» أو الحياد موجودا على ألسنة الساسة اللبنانيين وفي مخيلاتهم فقط، ولكن على أرض الواقع فقد أصبحت لبنان أشبه ما تكون بملعبٍ أولمبي سياسي تتصارع فيه قوى الشرق بينها البين من جهة، ومع قوى التأثير الغربي من جهة أخرى، ولذلك لم تكن لبنان يوما خارج الصراعات ولم تكن في منأى عنها، بل إنها أصبحت بوابة مشرعة لكل القوى الطامعة في الشرق الأوسط، ساعد على هذا البناء الاجتماعي الهش في دولة محدودة المساحة والإمكانات وليس بها قوة مسيطرة تبسط نفوذها على جميع القوى المتصارعة داخليا، ولم يكن هنالك يوم وعي ولا هوية جامعة لكل اللبنانيين فقد بقيت كل المكونات تلجأ لهوياتها الصغرى على حساب الهوية الكبرى الجامعة التي لم تتشكل بعد، وكان نتاج هذه التركيبة المعقدة في تكوينها والتي أضعفت الدولة والمجتمع على حد سواء؛ اندلاع الحرب الأهلية بين القوى الداخلية عام 1975م واستمرت لمدة 15 سنة وحتى تدخلت السعودية وقوى عربية وعالمية لوقف الحرب الأهلية وكان ذلك في اتفاق الطايف عام 1989م. ومنذ مطلع الثمانينات، إذ كانت إرهاصات تشكل حزب الله اللبناني وبدعم لوجيستي إيراني، إذ تولت إيران تمويله وتدريبه في ظل تغاض سوري، إذ كانت سورية تحتل لبنان ولم تنسحب منه إلا عام 2005 بعد جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وأصبحت هذه الميليشيا هي المسيطرة على جنوبلبنان ثم بدأت بالسيطرة على المشهد اللبناني، وأصبحت هذه الميليشيا أقوى من الجيش القومي اللبناني، وبدأت من خلاله تصدير الفوضى لمحيطها الإقليمي وأصبح حزب الله المنطلق لكل الأذرع الإيرانية في المنطقة وكانت سببا في تسهيل مهمة إيران في اختطاف العراق ثم سورية وحاولت اختطاف اليمن لتتصدى لها السعودية بكل قوة، وهذا ما يجعل التدخل السعودي لقطع أذرع إيران في المنطقة ضرورة وليس خيارا، على أن الحل الوحيد هو نزع سلاح الميليشيا الإيرانية -حزب الله- وعودة مصطلح «النأي بالنفس» ليكون واقعا وليس لفظا وخيالا سياسيا طوباويا، على أن المتضرر الأول من اختطاف لبنان هو لبنان نفسه الذي ينص دستوره على أن لبنان جمهورية ديموقراطية، ولا يمكن أن تكون جمهورية ديموقراطية وداخلها دولة صغرى، إذ إن حزب الله يفرض إرادته بقوة السلاح على كل المكونات الأخرى المسيحية والإسلامية الحرة والسيادية المستقلة. الديموقراطية اللبنانية ليست الديموقراطية الكوسومبولوتية -الكونية- التي يعرفها الجميع، أي حكم الأكثرية، ولكنها نوع آخر يسمى الديموقراطية التوافقية، وهي نوع آخر مطبق في دولٍ غربية ولكنها تميزت بوعي عام ووعي خاص يجعل المصلحة القومية فوق كل المصالح الخاصة للفئات المكونة للمجتمع، وهو مالم يتوفر في لبنان بعد ولن يتوفر ما دام «حزب الله» لم يحل وينزع سلاحه بعد، ولم يتم تطبيق القرار 1559 الذي يقضي بحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية المسلحة، وحتى ذلك الحين فلن تكون لبنان جمهورية ديموقراطية والشعب فيها يصوت تحت تهديد السلاح الإيراني وفي ظل رئيس جمهورية مرشح من قبل هذه الميليشيا ويأتمر بأمرها وهي تأتمر بأمر إيران!.