بعد تخطيه الثمانين من العمر ونيله جائزة نوبل للآداب عام 1998، لم يعد الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو بحاجة الى اثبات موهبته الروائية الفريدة. ومع ذلك لا تزال جرأته في الكتابة ضمن هذا النوع الأدبي سليمة وكاملة، كما تشهد عليه روايته الأخيرة"الرجل المزدوج"التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً لدى دار"سوي"، والتي تشكل بطريقة كتابتها ومضمونها أمثولة حقيقية حول هذا الفن وامكاناته. وتندرج هذه الرواية أولاً في خط روايات ساراماغو السابقة التي تعتمد جميعها طريقة سرد معقدة ولكن ممتعة وترتكز كل واحدة منها على حدث خارق أو أسطورة تُستخدم كاستعارة لنقد حال زمننا ومجتمعاتنا. لكن هذه الرواية تتفرد بأسلوب أكثر فأكثر واقعية في عملية مساءلتها لبشرية تجري نحو هلاكها. والمثير فيها أيضاً هو اختيار ساراماغو المجازف لموضوع"الصنو"التقليدي نظراً الى معالجته سابقاً من جانب أدباء كبار كثيرين مثل ادغار ألان بو وغوغول وكونراد وملفيل وتوماس مان وخصوصاً دوستويفسكي الذي كتب عام 1840 رواية"الصنو". ولكن القارئ يلحظ بسرعة ان نص ساراماغو، إن بحبكته الذكية أو بطرافة أسلوبه وفرادته، يقارع نصوص هؤلاء الأدباء من دون ان يمت بأي صلة مباشرة الى أي واحد منها. مما يعني انه يفتح أفقاً خيالياً جديداً للموضوع المعالج يفضي الى نتائج أخلاقية خاصة. فبطل روايته الذي يحمل اسم فيلسوف رواقي مولود في قرطاجة عام 160، ترتوليانو، هو في الحقيقة أستاذ ثانوي في مادة التاريخ مطلق ومكتئب، يتردد في الارتباط من جديد بامرأة تحبه ويعيش رمادية طبعه من دون شجاعة ولا جبن في مدينة تذكرنا بلشبونة لتلالها الكثيرة وعدد سكانها الكبير. وفي أحد الأيام، أثناء مشاهدته في منزله فيلماً تافهاً نصحه به أحد زملائه، يكتشف ترتوليانو أن احد الممثلين الثانويين هو صنوه. ولن يلبث هذا الاكتشاف ان يصدّع عالمه الهش وهويته ويدخله في دوامة من الحيرة والتساؤلات. ولمعرفة من منهما هو النسخة الأصلية وسبر أسرار ذلك"الآخر الذي مثلي"عنوان الرواية بالفرنسية، يتتبع الأستاذ آثار هذا الممثل المجهول، من فيلم سيئ الى آخر أسوأ، داخل الدليل الهاتفي ثم لدى شركة الانتاج، الى ان يحصل على عنوانه واسمه الحقيقي. بعد ذلك، يلتقي الرجلان ويلاحظان انهما متطابقان في شكل كلي مع فارق واحد هو تسع وعشرون دقيقة فقط في ساعة الولادة! فهل يصبحان صديقين أم يتحولان خصمين أو حتى عدوين لدودين؟ وهل يتبادلنا امرأتيهما وحياتهما، أم يذهب كل واحد في طريقه وكأن شيئاً لم يكن؟ بما اننا بالكاد نتحمل الشخص الذي نراه في المرآة كل يوم وبما ان الأرض لا تتسع أحياناً لشخصين ولو متشابهين، يحل القلق مكان الكآبة وتحرك الضغينة دولاب القدر... بدلاً من الاستسلام الى لذة سرد القصة ? الأمر الذي لا يجوز عادة لأن الرواية لا نختصرها بل نحلمها ? نترك للقارئ عناية التفكير بالتكملة، مشيرين فقط الى ان التكملة التي ابتكرها ساراماغو لا تخلو من الاثارة والحذق، احدى فضائلها هي في كونها ليست التكملة الوحيدة الممكنة. وبالفعل، الروايات الجيدة هي تلك التي تتألف أيضاً من المغامرات التي توحي بها، في شكل طوعي أحياناً، تلك التي تولد من جميع الكتب التي يتخيلها قراؤها من دون أن يكتبوها. وفي هذه الرواية، كما في رواياته السابقة، يترك ساراماغو لقرائه حيّزاً واسعاً من التخيل يلعب أحياناً داخله دوراً موجهاً قبل أن يعود الى حبكته. وخلف الطابع البوليسي والخارق الظاهر للرواية، يستشف القارئ من مسار ترتوليانو بعداً فلسفياً يطرح الروائي عبره مسألة الهوية الشخصية بهواجسها وهوس فرادتها، ويشير في الوقت ذاته، وفي شكل غير مباشر، الى مشكلة تشابه الأفراد المتزايد داخل المجتمع الراهن. كما يتجلى أسلوب الرواية الفلسفي في الحوار الذي يدور بين ترتوليانو وشخصيات رئيسة ثلاث:"حسّ مشترك"مغيظ وساخر يناقشه في كل شاردة وواردة، صديقته موظفة المصرف الرقيقة والمتعبة من حيرته، ووالدته التي ستكون لها الكلمة الأخيرة. وثمة محاور آخر مهم: الروائي ذاته الذي يتدخل بسخرية لطيفة وثابتة في أحداث روايته، لمواكبة تطور الشخصيات وتفسير ما يفعلونه وما كان في مقدورهم ان يفعلوا، ولتوبيخهم واستهزائهم تارة، وللتحنن عليهم وتفهم أخطائهم وشكوكهم تارة أخرى، ويهدف ساراماغو من وراء هذا التدخل المستمر الى ابطاء عملية سرد القصة في وعي القارئ والتشويش عليها. فالاستطرادات الكثيرة التي يصوغها الروائي بجمل بطيئة وطويلة، تسمح له بالتعليق على احداث الرواية وتحليل شخصياتها بدقة مذهلة ولكن أيضاً بالقيام بملاحظات ذكية حول اللغة ومهنة التعليم ومادة التاريخ ومواضيع اخرى مختلفة. وتدخل هذه الاستطرادات في صراع مستمر مع الترقب القلق الذي تضعنا فيه الحبكة. وداخل هذا التوتر المتعمد, يعمل ساراماغو على تحريك الأحاسيس والمشاعر التي تغلفنا وتحددنا بطابعها العميق والمؤثر والزائل.