تفترض قراءة روايات جوزيه ساراماغو بعضاً من الإلمام بتاريخ البرتغال القديم والحديث فمعظم هذه الروايات تستمد أحداثها ووقائعها وبعض شخصياتها من الذاكرة التاريخية الجماعية ومن التراث العام والمعاناة التي كابدها البرتغاليون في مراحل مختلفة من تاريخهم. إلا أن ساراماغو الذي فاز قبل أيام بجائزة نوبل للآداب ليس مؤرخاً ولا كاتب تحقيقات بل هو روائي بامتياز، روائي يتقن فن الحكاية ومهنة السرد الخالص. وليس لجوؤه إلى التاريخ البرتغالي هو من قبيل العمل التأريخي مقدار ما هو بحث في الذاكرة عمّا يضيء الحاضر ويجمّله جاعلاً إياه أشد إلفة وغرائبية في الحين عينه. ولم يلجأ ساراماغو إلى التاريخ ليختار منه ما يبهر القراء أو يؤانسهم في معنى ما من شدّة "اغترابه" أو طرافته بل هو عاد إلى التاريخ ليشكّك فيه على غرار المؤرخين الحائرين وليبنيه مرّة تلو مرّة عبر المخيّلة والذاكرة، عبر التوهيم و"التأريخ" غير المنهجي. وليس ساراماغو غريباً أبداً عن شخصية المصحّح في رواية "قصة حصار ليشبونة" 1989 وقد سئم العيش مجهولاً في ظلّ الكتّاب الذين يصحح كتبهم قبل صدورها فيجيز لنفسه مرّة أن يتدخّل في كتاب يؤرّخ حقبة من حقبات مدينة ليشبونة ويبدّل الصيغة الإيجابية بصيغة سلبية فيصبح السرد التاريخي قائماً على النفي وهكذا يتبدّل مسرى الرواية وتنعكس وجهة أحداثها وتمسي رواية أخرى هي الحقيقية في نظر "الكاتب" المحرِّف أو الراوئي. لكنّ ساراماغو لم يحرّف التاريخ لينحاز إلى الرواية وإلى التخييل الروائي بل هو جعل منه ذريعة لقراءة الواقع أولاً انطلاقاً من وعيه النقدي والماركسي له. ويقول على هذا المستوى: "إنني لا أكتب رواية تاريخية وإنّما أتحدّث عن بقاء البشر". فالتاريخ مهما أوغل في قدمه يظلّ تاريخاً معاصراً. ولا يرجع الكاتب إلىه إلا ليجعله مادّة حكائية: "نحن حكايات تحكي حكايات" تقول إحدى شخصيات ساراماغو أو أحد رواته تحديداً. والراوي هو أقرب إلى الشخصية التي يبتدعها الروائي ليختفي وراءها وليحرّف من خلالها التاريخ المرويّ تحريفاً سرديّاً أو تخييلياً. فالحاضر سرعان ما يصبح ماضياً بعدما كان هو المستقبل. والماضي حين يستعاد لا بدّ من أن ينتحل صفة الحكاية. والحكاية ليست أمينة دوماً على المادة التي حمّلها التاريخ إيّاها. إنّها تسرد التاريخ ولكن من وجهة تخييلية. بل إنّها تصوغ وقائع التاريخ بحسب ما تفترض المخيّلة. هكذا حفلت روايات ساراماغو بشخصيات غريبة وأحداث غرائبية وأوهام وتخيّلات وطقوس سحريّة وأطياف وأشباح وسحرة... ولم يرجع ساراماغو إلى التاريخ نزولاً عند الحاجة إليه التي تفترضها المراحل السياسية الراهنة بحسب ما عبّر جورج لوكاش في وصفه للرواية التاريخية. قد تكون رواية ساراماغو التي تعتبر الأولى فنياً وروائياً "دليل الرسم والخط" التي صدرت في العام 1977 وكان هو في الخامسة والخمسين خير مدخل إلى قراءة شخصيته فهي تروي حكاية رسام وجوه يتخلّى عن الرسم رغبة في العيش وفي الإستسلام للحياة الإجتماعية. إلا أنه يقرّر أن يصبح كاتباً ذات مرّة ولا يحقق "دعوته" الجديدة إلا عبر كتابة سيرته الذاتية. والشخص هذا يشبه ساراماغو شبهاً كبيراً. فالكاتب الذي نشأ في عائلة من المزارعين الذين لا أملاك لهم وترك المدرسة باكراً لينصرف إلى بعض المهن الصغيرة صانع أقفال مثلاً لم يلبث أن بدّل حياته حين اكتشف الكتابة كمصحّح أولاً في إحدى الدور وكصحافي ومترجم لاحقاً. وفي ذلك الحين كتب ساراماغو قصائد وقصصاً ومقالات وكانت روايته الأولى "أرض الخطيئة" التي أنجزها في الخامسة والعشرين من عمره 1947 أقرب إلى التحقيق الصحافي "الصرف" وقد أجراه الكاتب حول المزارعين الفقراء في أرض طفولته. ظلّ ساراماغو قابعاً في الظل حتى العام 1980 وانطلاقاً منه بدأ يعرف الشهرة وكان قارب الستين من عمره. وتأخّره في الكتابة أو تباطؤه فيها جعلاه من الكتّاب الناضجين الذين ينتظرون سحابة أعوام لينطلقوا في أعمالهم الأدبية. إلاّ أن ساراماغو كان طوال تلك الأعوام مناضلاً ضدّ النظام الدكتاتوري الذي رسّخه الحاكم البرتغالي الشهير سالازار ولم يسقط إلا في العام 1974. وبعدما سقط النظام الديكتاتوري راح ساراماغو يستعيد أنفاسه ووجد أن المرحلة التالية هي المرحلة المؤاتية للكتابة. وشرع يكتب الرواية تلو الأخرى حتى أنّه استطاع أن ينجز خلال سنوات صنيعه الروائي الأساسي والمتمثل في رواياته التي تستعيد في معظمها حقبات ومراحل من تاريخ البرتغال القديم والحديث. في العام 1982 أصدر ساراماغو إحدى رواياته المهمّة التي تعبّر خير تعبير عن أسلوبه السرديّ وتقنياته الروائية وعن طريقته في استيحاء التاريخ وإعادة كتابته روائياً. والرواية هي "مذكرات الدير" وقد حملت في بعض الترجمات الأوروبية عناوين أخرى الإله الأكتع في الترجمة الفرنسية مثلاً نظراً الى عدم انتمائها الى المذكرات على الرغم ممّا يدل عنوانها. فهي أقرب الى الملحمة السردية التي تروي تاريخ مدينة ليشبونة في بداية القرن الثامن عشر وتصفها وصفهاً دقيقاً وباروكياً وساحراً في أجوائه الغريبة. كانت ليشبونة في تلك الحقبة مدينة الثراء والتجارة والذهب. لكنّ الفساد سرعان ما دبّ فيها ولا سيّما مع نهوض "جزاري" المحاكم كما يسمّيهم الكاتب والأجهزةالتي ابتدعوها ليكونوا على بيّنة ممّا يحاك ضدّهم... ويسلك ساراماغو في كتابته تاريخ تلك الحقبة مسلك الحكاية الخرافية والغرائبية الفانتاستيك فيرسم صورة متخيّلة للملك دوم جواو الخامس وللشخصيات الأخرى التي أحاطت به أو واجهته. يسخر ساراماغو طبعاً في سرده الوقائع والأحداث وفي بنائه الشخصيات ونسج علاقاتها وينحاز كعادته في معظم رواياته الى معذّبي التاريخ وإلى ضحاياه وهم كثر في الرواية حتى وإن قبعوا في زواياها ولم يبرزوا. فهم الذين بنوا الدير وهم الذين تقع عليهم أحكام الملك... في هذه الرواية يبدو أثر فولتير واضحاً فهو كتب في روايته الشهيرة "كانديد" عن الحقبة نفسها التي عرفتها ليشبونة وفي طريقة ساخرة أيضاً ولكن أقلّ غرائبية وسحراً. ويكفي أن يعلن العالم بارتو لوميو نظرته الى بارئه لنتذكر بعض مواقف "كانديد" من القدر، كأن يقول بارتو لوميو: "ليس لله يد يسرى، لأنّه الى يمينه يجلس المختارون. ولم يُحك أبداً عن اليد اليسرى للّه، لا الكتابات المقدّسة حكت عنها ولا علماء الكنيسة". لعبة المرايا وإذا بدت رواية "مذكرات الدير" خير نموذج للكتابة الروائية التاريخية - الخرافية التي تميّز بها ساراماغو فأنّ روايته الشهيرة "سنة موت ريكاردو رييس" التي صدرت في العام 1984 تمثل ذروة صنيعه الروائي الواقعي - التخييليّ. وقد تكون هذه الرواية من أطرف رواياته وأشدّها فانتازية. وقراءتها التي تبدو مغرية جداً تفترض بعض الإلمام بتاريخ البرتغال الحديث صعود الديكتاتورية في العام 1935 وببعض نتاج الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا. فالكاتب أو الروائي ينتحل ملامح بطله من إحدى شخصيات فرناندو بيسوا نفسه التي توارى وراءها. وقرّاء بيسوا يعرفون جيّداً أنّ الشاعر وقّع قصائده وكتاباته بأسماء مستعارة كثيرة حتى أنّه حيّر القراء والنقاد على السواء. ولم تكن تلك الأسماء المستعارة مجرّد أسماء مجهولة بل كانت أقرب الى الشخصيات المنفصمة عن الشاعر نفسه وقد ملكت أساليبها الخاصّة وأفكارها ومواقفها... من تلك الأسماء - الشخصيات اختار ساراماغو "ريكاردو رييس" ليجعله بطلاً لروايته التي تروي قصّة بيسوا نفسه في علاقته مع شخصيته المختلقة. وكان بيسوا قال على لسان ريكاردو رييس في أحد كتبه: "إنني شخصية من شخصيات رواية تنتظر مَن يكتبها". وكان على ساراماغو أن ينطلق من هذه المقولة ليكتب الرواية المزدوجة، الرواية - السيرة والرواية - المتاهة. وليس من الصدفة أن يعتمد ساراماغو لعبة الشاعر وقرينه فهو سرعان ما انتهى الى لعبة المرآة التي تعكس الصورة الأخرى للشخصية. هكذا يستدعي الروائي الشاعر الذي كان رحل في العام 1935 ليجعله يحاور قرينه أو الشخص الذي اختلقه وتوارى وراءه ليبدو وكأنّه يحاور نفسه في مرآة. كان بيسوا اختلق شخصية وإسم ريكاردو رييس عام 1914 وأسبغ عليه صفة الطبيب الفوضوي الذي يجيد اللاتينية ويميل الى "الوثنية الجديدة". ومن هذه المواصفات انطلق ساراماغو في بناء شخصيّته وروايته تالياً. لكنّ ريكاردو رييس في الرواية كان ولد في العام 1887 ونشأ في معهد لليسوعيين وأصبح طبيباً، وشاءه ساراماغو أن يهاجر الى البرازيل ليعود الى وطنه البرتغال بعد ستة عشر عاماً وتحديداً في العام 1935 وهو عام موت بيسوا. وعلاوة على كونه طبيباً فهو شاعر بدوره وصاحب أناشيد تستوحي ربّة الشعر والآلهة وأجواء الطبيعة وهي نفسها الأناشيد التي كتبها بيسوا موقّعة بإسم ريكاردو رييس... وخلال إقامة الطبيب الشاعر في أحد فنادق ليشبونة متنعماً برتابة المدينة الهادئة يتعرّف الى امرأتين هما: ليديا ومرسيندا. ويحار إن كان يحبّهما حقاً ويصعب عليه أن يحدّد عواطفه تجاههما. وهي الحيرة نفسها التي تولّت بيسوا حيال بعض النسوة اللواتي عبرن حياته. والبطل الذي كان يقرأ كتاب "إله المتاهة" ولم يكن يتخلّى عنه أحسّ نفسه ضائعاً في متاهة المدينة، في متاهة الشوارع التي كان يجتازها مرّات ومرّات من غير أن يحدّد وجهة ما يقصدها... وقد أفاد الروائي من نزهات بطله في ليشبونة ليمعن في وصفها وصفاً أخاذاً وساحراً. أمّا أجمل اللوحات في الرواية فتلك التي تجمع بين ريكاردو رييس القرين الحيّ وفرناندو بيسوا، والشخص الميت، بين المبروء والبارىء، بين الشخصية وصانعها... وعبر تلك الحوارات "المتاهية" تتبدّى وجوه الشاعر الأخرى ونزعاته وميوله وتبرز بعض الوقائع والأحداث وبعض المرويّات الطريفة والفانتازية والمتخيّلة... ويجد القارىء نفسه أمام "متاهة" فعلية تذكّر بمتاهات بورخيس الرائعة تضيع فيها الشخصية وقرينها وتضيع الأسماء والهويات وتزول النواحي أو الحدود التي تفصل بين الشخصية المزدوجة كشخصية روائية تقع ضحية رواية أخرى. وفي الرواية هذه تتجلّى لغة ساراماغو الباهرة. ويتجلّى كذلك أسلوبه الروائي الطريف والقائم على خلفية باروكية وسرديّة تندمج فيها التفاصيل واللحظات والأوصاف والمعالم. إنّها "آليته" الروائية التي لا تدع نوعاً إلاّ تستعين به، بل هي لعبته الروائية التي تلجأ الى الغرائبية والمفارقات لتبني عالماً ساحراً ومتداخلاً بعضه في بعض تداخل الحلم والحقيقة، الخرافة والواقع. أمّا رواية "الأنجيل بحسب يسوع المسيح" التي أثارت حين صدورها في العام 1991 استياء بعض الأوساط المسيحية في البرتغال وأوروبا فهي ليست كما قيل فيها انجيلاً خامساً ولا سيرة للمسيح تنطلق من السيرة لتي روتها الأناجيل الأربعة. إنّها أوّلاً وآخراً رواية متخيّلة بطلها المسيح الذي يختلف عن صورته التي عُمّمت سابقاً. وقد انطلق ساراماغو من جملة وردت في مطلع انجيل القديس لوقا وبها استهل روايته ومفاد الجملة: "لمّا أن أخذ كثير من الناس يدوّنون رواية الأمور التي تمّت عندنا، كما نقلها الينا الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثمّ صاروا عاملين لها، ورأيت أنا أيضاً، وقد تقصّيتها جميعاً من أصولها، أن أكتبها لك مرتبة ياتاوفيلس المكرّم، لتتيقّن صحّة ما تلقّيت من تعليم" لوقا 1: 1-4. يفترض ساراماغو إذن معطيات تاريخية أخرى يكتب من خلالها رواية يسوع الناصري كشخصية روائية صرفة. ويجعل الروائي من المسيح الضحية التي تقدّم على مذبح البشرية بعدما جسّد فكرة في المفهوم الحرّ وغير اللاهوتي. الله والرواية تحتاج الى قراءة خاصّة وعميقة على الرغم من كونها أقرب الى الدراما الروائية التي تدمج التاريخ والأسطورة والسرد في نسيج واحد. وقيل لو أن ساراماغو عاش قبل عصور لكانت روايته أو انجيله أوقعته تحت مقصلة الكنيسة وفي نيرانها التي ابتلعت الكثير من الهراطقة. ولا شكّ أنّ ساراماغو هو مهرطق في نظر المسيحيين الملتزمين وفي نظر الكنيسة. فهو شيوعي غير مؤمن وليس ملحداً يرسم صورة للمسيح، شخصية، حيّة وإنسانية. ومثلما أثارت روايتا الكاتب اليوناني كازانتزاكيس عن المسيح استياء المسيحيين والكنائس وكذلك فيلم الإيطالي بازوليني وقصّة البريطاني د.ه، لورنس الرجل الذي كان ميتاً كان لا بدّ أن تثير رواية ساراماغو حفيظة الكنيسة واستياءها الشديد. وكان على رئيس جمهورية البرتغال أن يعتذر في العام 1991 من كلّ المراجع المسيحية التي شجبت الرواية، عمّا كتبه ساراماغو. الكاتب البرتغالي بامتياز، غير أنّ ساراماغو يظلّ روائي التاريخ بامتياز، التاريخ المحرّف طبعاً كي يلائم فعل السرد المتجذّر في المخيّلة والحلم واللاوعي الجماعيّ. بل يظلّ روائي "الواقعية" التاريخية السحريّة على غرار غبريال غارسيا ماركيز وأليخو كاربانتيه وسواهما. إنها "الواقعية" التي لم تحل ماركسيّة ساراماغو أو شيوعيته دون كسرها وتخطّيها عبر الغرابة والتخييل والسخرية والفانتازيا، إنّها "الواقعية" المتحرّرة من أسر الأيديولوجيا والنظريات الجاهزة والمغلقة. ولئن تأخّر ساراماغو في ترسيخ نتاجه الروائي في البرتغال والعالم فهو في الخامسة والسبعين يبدو أشدّ فتوّة من الروائيين الذين يصغرونه فهو قياساً إلى "عمره" الأدبيّ لا يزال من الجيل الجديد.