بدا فوز الروائي السوداني الطيب صالح بجائزة"ملتقى القاهرة الثالث للابداع الروائي العربي"الذي اختتم اعماله مساء امس، في القاهرة، اشبه بالرد غير المباشر على بادرة الروائي المصري صنع الله ابراهيم الذي كان رفض الجائزة نفسها العام الفائت مثيراً زوبعة من المواقف المتناقضة مصرياً وعربياً، بين مؤيدين له ورافضين، وكانت ذريعته ان الجائزة تمنحها"حكومة لا تملك صدقية منحها". إلا ان الجائزة هذه استعادت عبر فوز الطيب صالح بها موقعها الخاص وصداها الطيب، وهي اصلاً جائزة معنوية أكثر مما هي مادية تبلغ قيمتها ما يوازي 17 ألف دولار اميركي كونها تمنح في أهم مؤتمر للرواية العربية ينظمه المجلس الاعلى للثقافة، برئاسة الدكتور جابر عصفور وتشرف على منحها لجنة غير رسمية تضم دوماً اسماء معروفة بصدقيتها وكفايتها. وتم هذا العام تداول اسماء عدة للفوز بالجائزة وآخر اسمين تنافسا عليها بشدة الطيب صالح وابراهيم الكوني. لم تتوج الجائزة فقط نتاج الطيب صالح، هذا الروائي السوداني الحاضر بشدة في المشهد الروائي العربي المعاصر، بل توجت ايضاً الادب السوداني، الذي لا يزال شبه مجهول عربياً، وقد جاءت مترافقة مع اعلان الخرطوم عاصمة للثقافة العربية للسنة 2005، ما اضفى عليها طابعاً احتفالياً. ولئن كان صالح هو الأبرز والأشهر عربياً بين ادباء السودان، وان كان أدبه الروائي والقصصي بمثابة الجسر بين الداخل السوداني والخارج العربي والعالمي، فهو لم يدّعِ يوماً انفصاله عن الادب السوداني، ولا انقطاعه عن الهموم السودانية، وكانت سنوات"غربته"البريطانية زادته حنيناً الى ارضه وشعبه، فهو كتب رائعته"موسم الهجرة الى الشمال"في لندن حيث كان يقيم بدءاً من العام 1953. وعندما نشرت هذه الرواية في بيروت العام 1966 كانت بمثابة الحدث الروائي الذي كان منتظراً، لكنه عوض ان يأتي من القاهرة او بغداد او بيروت جاء من السودان. استطاع الطيب صالح في هذه الرواية الفريدة ان يقدم مشروعاً روائياً جديداً يحمل الكثير من علامات التحديث، شكلاً وتقنية وأحداثاً وشخصيات. وقد عالج في هذه الرواية قضية اشكالية هي الصراع بين الشرق والغرب او بين الجنوب والشمال من خلال علاقة مأسوية بين مصطفى سعيد و"زوجته"البريطانية. ومنذ ان صدرت الرواية اصبح اسم هذا البطل مصطفى سعيد في شهرة بعض ابطال نجيب محفوظ ولا سيما احمد عبدالجواد في"الثلاثية". واذا كانت"موسم الهجرة الى الشمال"ذروة اعمال الطيب صالح، وأكثرها شهرة ورواجاً، فإن اعماله الاخرى، الروائية والقصصية لا تخلو من الفرادة والخصوصية، سواء في لغتها السردية ام في تقنياتها وأشكالها. ومن تلك الاعمال رواية"عرس الزين"التي ترصد اسطورة الشخص القروي الغريب الاطوار الذي يدعى"الزين"في علاقته بالفتاة نعمة، وكذلك رواية"بندر شاه"في جزئيها:"ضوّ البيت"و"مريود"، وتمثل هذه الرواية الصدام البيئي والحضاري بين القديم والحديث. ومن اعماله القصصية البديعة"دومة ود حامد"وهي تدور حول الصراع بين الحكومة وأهل قرية"ودّ حامد"التي تقع على الضفة الشرقية من النيل، الحكومة تريد تحديث القرية واقتلاع شجرة الدوم التي هي رمز القرية والأهل يصرون على تقاليدهم. وهذه القرية السودانية"ودّ حامد"تحضر كثيراً في نصوص الطيب صالح رمزاً لعالم الطفولة والبراءة المتجذر في شمال السودان. سمّي الطيب صالح"زوربا السوداني"، فهو لم يكتب إلا عن السودان مستخدماً في أحيان اللغة العامية ترسيخاً لارتباطه بأرضه الأم التي هجرها جسداً وليس روحاً ولا قلباً. وقد تكون اعماله مرآة حقيقية تنعكس فيها صورة الحياة السودانية، بمآسيها الصغيرة وأفراحها وتقاليدها المتوارثة جيلاً تلو جيل. يبلغ الطيب صالح الآن السادسة والسبعين، لكنه لا يؤثر الاستراحة فهو يعكف على إصدار اعمال جديدة، مدركاً في الحين عينه، ان روايته"موسم الهجرة الى الشمال"هي اشبه بالعبء الثقيل، كما عبر مرة، من شدة ما تختزن من جماليات وأبعاد ومعانٍ، وتخطيها ليس بالعمل السهل والبسيط.