غاب عنا الأربعاء الماضي الروائي السوداني الطيب صالح، صاحب الرواية الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال"، عن عمر يناهز الثمانين في العاصمة البريطانية لندن تاركاً من ورائه إرثا روائيا ، كفيلا برسم السودان بعين أديب متميز. عاش الطيب صالح طفولته وصباه في شمال السودان، حيث ولد في إقليم مروى شمالي السودان قرب قرية "دبة الفقراء"، وهي إحدى قرى قبيلة الركابية، عام 1929، واستقر هناك إلى أن انتقل للخرطوم، التي بدأ في جامعتها دراسة العلوم إلا أنه لم يكمل دراسته وانتقل إلى إنجلترا، حيث درس العلاقات الدولية وأمضى بقية حياته. عمل الطيب صالح مديرًا لقسم الدراما في هيئة الإذاعة البريطانية، وكذلك وزارة الإعلام القطرية بالدوحة ومقر اليونسكو في باريس. كانت بداية الطيب صالح مع الأدب، في عام 1953 من خلال قصة قصيرة بعنوان: نخلة على الجدول (1953م)، ثم توالى بعد ذلك إنتاجه الروائي: عرس الزين (1962)، موسم الهجرة إلى الشمال (1971)، مريود، نخلة على الجدول، دومة ود حامد. لفت الطيب صالح الأنظار إليه كأديب بروايته الثانية "موسم الهجرة للشمال"، التي نشرت عام 1966 في بيروت لتصبح فيما بعد علمًا في الرواية العربية المعاصرة، برغم ما تعرضت له من منع في السودان ذاته بحجة تضمنها مشاهد ذات طابع جنسي. لكن ذلك لم يقلل من قيمتها كرواية اخترقت في وقت مبكر نسبيا منطقة التقاء الحضارات بين الشرق والغرب، وربما لهذا كانت ضمن قائمة أفضل 100 رواية في القرن العشرين، التي تم وضعها عام 2002 من قبل مائة من كبار الكتّاب الذين ينتمون إلى 54 دولة. تميزت كتابته الروائية، التي دارت معظم أحداثها داخل حدود الإقليم الشمالي في السودان، حيث نشأ، بالتركيز على التفاصيل الصغيرة في حياة القرية السودانية مع ما تمتلكه تلك المنطقة من خصوصية التقاء الثقافات ما بين عربي وإفريقي ونوبي، وهو ما ساهم في تكوين شخصية ثرية ذات طابع خاص. وصنعت روايات الطيب صالح، مثل "مريود" و"عرس الزين"، بشخوصها وتفاصيلها المنسوجة من تراب الأرض وعرق البشر، عالما روائيا شديد الشبه بالأساطير من حيث الغموض وتنوع الرموز، ومع ذلك تبقى تلك الشخصيات شديدة الالتصاق بالواقع. تميز الروائي السوداني الذي يجوز أن نطلق عليه "ذاكرة السودان النابضة" بحس روائي مرهف مكّنه من سَبْر أغوار النفس البشرية والغوص في أعماقها بحرفية عالية، كما يبدو تأثير حياة الطيب صالح ذاته جليًّا فيما أبدع؛ إذ يشكل وعيه بالغربة محركا لصراع الهوية الذي عايشه بنفسه إثر انتقاله للعيش في أوروبا، ولهذا تطرح راوياته أسئلة مستمرة حول الوجود والعزلة.. والوعي بالجذور المختلطة.كتابات الطيب صالح اتصفت كذلك بأناقة اللغة والغزارة الشعرية التي تجعل من رواياته قصائد صوفية كونية.. هذا بالإضافة لتجديده في بنية الرواية العربية، من خلال استخدامه الواعي والمؤصل لتيار الوعي في كتابته وغوصه في عمق الشخصية العربية ليحررها من حدود المكان الضيق إلى الفضاء الإنساني الفسيح. نال الطيب صالح تقديرًا يتناسب مع حجمه الأدبي والإبداعي خلال السنوات الماضية؛ إذ أصدر مجموعة من الباحثين مؤلفا بعنوان "عبقري الرواية العربية"، وكرمه ملتقى القاهرة الثالث للإبداع الروائي العربي عام 2005، كما تم ترشيحه من قِبَل مؤسسات سودانية لنيل جائزة نوبل، الجائزة التي استغنى عنها الطيب صالح، مؤكدًا في مقابلة مع صحيفة "الحياة" اللندنية أنه لم ينتظرها يوما. قدم الطيب صالح نموذجًا يُحتذى من خلال رصد أموال كان قد جمعها له محبوه عند بلوغه السبعين لدعم العمل الثقافي والإبداعي في السودان، وكان من بينها تخصيص جائزة للإبداع الروائي باسمه وذلك عام 1998م. حظيت أعمال الطيب صالح باهتمام كبير من النقاد العرب والأجانب على السواء، وترجمت بعض رواياته إلى أكثر من ثلاثين لغة، ويعده العديد من النقاد سفير الرواية العربية في الغرب؛ إذ ترجمت أعماله الروائية إلى معظم اللغات الأوروبية، فقد ترجم المستشرق الإنجليزي دنيس جونسون ديفيز روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى اللغة الإنجليزية، كما ترجمت روايته "عرس الزين" إلى اللغة البولندية، كما ترجمت قصته دومة ود حامد إلى اللغة الألمانية، وترجمت قصته "هكذا يا سادتي" إلى اللغة الفرنسية. تحولت رواية الطيب صالح "عرس الزين" إلى دراما في ليبيا ولفيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينيات، حيث فاز بإحدى جوائز مهرجان كان.