قال المشير عبدالرحمن سوار الذهب ل"الحياة"ان الوضع في السودان مطمئن جداً، خصوصاً بعد توقيع اتفاق السلام في نيروبي،"ولكن ستظل المشكلات المرتبطة بهذا الاتفاق الذي ينص بعد مضي ست سنين على استفتاء يخيّر أبناء الجنوب بين المشاركة في الحكم والانفصال عنه". وناشد المنظمات الدعوية الإسلامية والخيرية والإخوان في الدول العربية"لعب دور لإقناع الجنوبيين بالمحافظة على السودان الواحد". وأعرب عن تفاؤله بالمستقبل انطلاقاً من أن الأحزاب وقعت اتفاقاً في مصر، و"ستعود لممارسة نشاطها بعد رفع القيود التي كانت تحد منه، إذ سيكون الحكم ديموقراطياً، والآن هناك لجنة لإعادة صوغ الدستور، وأهم بنوده رفع القيود التي كانت تمنع حركة الأحزاب، وأتصور أن الناس مقبلون على مرحلة جديدة". التقينا سوار الذهب في إحدى زياراته إلى الرياض، وسألناه عن تجربته النادرة في الحكم، عندما تسلّم السلطة عام 1985، منقلباً على حكم جعفر نميري، وممهداً لانتخابات حكومة مدنية، فقال:"عينني الرئيس جعفر نميري قائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، وعندما كان مسافراً إلى أميركا قامت تظاهرة واحدة ضد عهده في البداية منطلقة من جامعة أم درمان الإسلامية، وبعدها توسعت التظاهرات، وأجمعت الأحزاب في لحظة واحدة على ضرورة إنهاء حكم نميري، وأذكر أننا طلبنا من الاتحاد الاشتراكي أن يقوم بتظاهرة موالية لنميري، لكن هذه التظاهرة لم تنضج، وبعدها أُجمع على إسقاط نظام نميري". واتضح لاحقاً أن نميري لم يكنله أي نفوذ قوي في السودان، إذ خرج موكب هزيل جداً لتأييده، وتأكد لي أنه لا بد من أن يقف الجيش كتلة واحدة وعدم الانشقاق، وكنت أتحرك بنفسي إلى الوحدات العسكرية وأخاطب قوات المهندسين وقوات المشاة وقوات الصاعقة والقوات الجوية، وكذلك اجتمعت بالضباط الكبار واحداً واحداً، واكتشفنا عدم وجود مؤيد لنميري. وحفظاً للنظام وعدم إراقة الدماء وحفظاً لسيادة الجيش، اجتمعت مع قادة القوات واتخذنا قراراً بأن ننحاز للشعب لا لسلطة مايو. وبسبب عدم الولاء لنميري تعزز اتجاه الجيش لحفظ وحدة السودان وإنهاء النظام، وإقامة انتخابات نزيهة وتسليم السلطة لممثلي الشعب، وفي اليوم الثاني للتحرك، صادفنا قبولاً لا مثيل له من الجيش والشعب كافة. وكان اللواء عمر محمد الطيب نائب نميري اتصل به وابلغه بسيطرتنا على الموقف فقفل راجعاً، وعندما نزل في مصر طوى المصريون البساط الأحمر لأنه لم يعد رئيساً للدولة واستقبلوه كسوداني عادي، وكان نميري اتخذ قرار العودة للسودان لكن الطيارين السودانيين رفضوا الرجوع به لأننا أغلقنا جميع المنافذ، واتصل بنا الرئيس حسني مبارك يسأل هل في الإمكان عودة نميري لاحتواء الوضع فقلنا لا إمكانية لذلك، وحفاظاً على دمه وروحه نفضل أن يبقى في مصر، وشكلنا المجلس العسكري وأعلنّا مع الأحزاب قيام الحكومة الموقتة. وكانت هنالك مشكلة المجاعة في السودان غرب السودان فطلبنا إغاثة من كل الدول العربية كالسعودية وغيرها، ولله الحمد وصلتنا إغاثة، وطلبنا من الأحزاب تحديد فترة المجلس العسكري بسنة واحدة، وقمنا بالإعداد للانتخابات وحددنا البرنامج وأجريت الانتخابات، ثم اجتمعت الجمعية التأسيسية لتنتخب رئيس الدولة ومجلس السيادة، وجرى ذلك وحرصت على أن يكون التسليم في اليوم نفسه. وطلبت أن يعقد البرلمان الجديد، وتولى أكبر النواب سناً رئاسة الجلسة، فسلمناه السلطة وتلينا بياناً ينهي سلطة المجلس العسكري، وقلنا للنواب أنتم ممثلو الشعب وهذه سلطتكم، فطلبوا عشرة أيام لتصحيح الوضع والسيطرة على الموقف وتشكيل الحكومة وتعيين رئيس الدولة ورئيس الوزراء ومجلس السيادة، وبعد عشرة أيام انعقد البرلمان وأجيزت الحكومة وأجيز رئيس الدولة، فقدمت استقالتي وذهبت إلى البيت متقاعداً. هذا الرجل الذي تسلّم السلطة بانقلاب وتركها طوعاً، هل هو نادم وهل يتمنى العودة إليها؟ يقول:"لا أتمنى العودة إليها أبداً، لأنني حددت مساري بعد الفترة الانتقالية أن أنصرف إلى العمل التطوعي، وقد وفقني ربي بالإخوة في السعودية حينما رشحوني في الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وأشكر الدكتور المرحوم مانع الجهني بتفضله علي وترشيحي في العمل الخيري والتطوعي فقط للندوة، وكنت طلبت منه الاعتذار قبل عشر سنين لأن هناك من هو أحق مني وكان هناك 200 اسم، واخترت للفوز بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 1425ه لذلك أشكر الحكومة السعودية ملكاً وحكومة وشعباً". عندما تسلمت السلطة في السودان أذكر أنه كانت هناك مناورات درع الجزيرة في شرق السعودية في حفر الباطن وكان هذا في نيسان ابريل عام 1985 وكان يحضر تلك المناورات الشيخ حمد بن خليفة حاكم قطر وكان في ذلك الوقت ولياً للعهد وكنت في وقت سابق معاراً في دولة قطر أعمل مع الشيخ حمد. وفي 6-4-1985 أبلغ جلالة الملك فهد وكان يجلس معه الشيخ حمد بن خليفة أن عبدالرحمن سوار الذهب تولى السلطة في السودان، وقال الشيخ حمد هذا الرجل أعرفه وكان فاضلاً، وأرسل الملك السفير السعودي في الخرطوم لمقابلتي، وابلغني أن الملك يبارك لك بالحكم ويتمنى لك التوفيق ويقول أرسل مندوبك لتحقيق مطالبك. وعندما تسلمت السلطة في المساء اجتمعت مع الوزراء للتعرف الى الأوضاع، فأعطوني صورة قاتمة ومظلمة، وقال وزير المال أن الديون كثيرة علينا، وتحدث وزير الزراعة عن ضرورة مواجهة المجاعة والتصحر، والأهم من ذلك وزير الطاقة الذي قال:"ليس لدينا بترول إلا لمدة ستة أيام، فبت في ذلك اليوم مهموماً لا أرى المخرج، وفي اليوم التالي كنت في المكتب وجاءني السكرتير، قائلاً: مندوب الملك فهد يريد أن يقابلك، فقلت: فليتفضل، فجاءني السفير بتلك الرسالة القصيرة العظيمة"أرسل مندوبك لتحقيق مطالبك". كانت الأجواء السودانية مغلقة فأرسلت طائرة خاصة حملت وزراء البترول والصحة والصناعة وحاكم بنك السودان لمقابلة الملك فهد، وكان وقت وصولهم بعد المغرب، ومع ذلك سمح لهم بمقابلة الملك فوراً، وقال: سنتقاسم الخبز مع السودان. وتبرع الملك فهد بمبلغ 60 مليون دولار، وقد فرج علينا هذا المبلغ كثيراً من الهموم وأزاح الكثير من الديون". وهل نفهم من ذلك أن الرئيس نميري صفّى خزائن السودان؟ يجيب سوار الذهب: كان نزيهاً لكن بعض الحاشية هم الذين تسببوا في ذلك، وتمت محاسبتهم، والحقيقة أن الحرب استنزفت كل ما عند الدولة، وقلت الصادرات من الصمغ العربي لوجود القحط وتدنت الأحوال. فمعظم من عملوا مع نميري من أبناء الشعب السوداني الشرفاء. وسئلت من قبل عن الرئيس نميري فقلت:"يكفي أنه أرسل إلى كل القياديين في السودان يدعوهم إلى النزاهة والإخلاص في العمل والتخلي عن الأعمال القبيحة كشرب الخمر والميسر، وطبق قوانين الشريعة في شهر أيلول سبتمبر، ولذلك طالب الشيوعيون بإلغاء قوانين أيلول وليس الشريعة، لأن البسطاء في السودان لو عرفوا أن القوانين المطلوب الغاؤها هي قوانين الشريعة لرفضوا ذلك، فكان ذلك تلاعباً من الشيوعيين في المفردات لغش البسطاء. وقلت أن أول من أقفل الخمارات في السودان هو نميري، وأنه أول من احتفل بالقرآن العظيم في أول محرم من كل سنة، وفي عام 1972 قام الشيوعيون بانقلاب وهم الذين أيدوه في البداية، فقضى نميري عليهم وحجم النشاط الشيوعي في السودان ولولا ذلك لقامت الفتن، وألف كتابين"النهج الإسلامي لماذا"و"النهج الإسلامي كيف"، وهذه من الحسنات التي لا ننساها للرئيس نميري، لكن شعب السودان رفض حكمه وأطاح نظامه، وهو عاد إلى السودان قبل خمس سنوات. وكان نميري يحمل علينا حقداً، ولكن التقى به بعض المايويين ومن الاتحاد الاشتراكي وعرفوه أن المشير عبدالرحمن سوار الذهب أحسن التصرف، وكنت أمنت داره من الحاقدين عليه، وعاد إلى السودان واستقبلته في داره فقابلني وغير فكرته عني، والتقيت به قبل أن يأتي إلى السودان في الحج ودعينا إلى مائدة عشاء في منى قبل سبع سنين ثم في قصر المؤتمرات في جدة. قابلته فسلمت عليه وسلم علي بحرارة، ودعوته إلى بعض مناسبات أولادي وجاءني، ونزوره في العزاء ويزورنا، وكان جدد المدرسة القرآنية التي درس فيها، وأذكر أنه بنى لمسجدنا مئذنة سنة 1977 وهو من اقدم المساجد في أم درمان أنشئ قبل 107 سنوات". سألنا المشير سوار الذهب عن دخوله في العمل الدعوي وهل كان مخططاً لذلك من قبل، فاجاب:"أبداً لم يكن الأمر مخططاً، لكن وضع أسرتي الديني هيأ له، فبعد فترة من تركي الحكم جاءتني جماعة من الإخوان في منظمة الدعوة الإسلامية وهي منظمة خيرية بدأت عام 1400ه في الخرطوم وتشكلت بمبادرة من بعض الإسلاميين في السودان وبعض الإخوة من السعودية وكان من مؤسسيها الدكتور عبدالمحسن التركي وعبدالله عمر نصيف وكذلك الشيخ حمد جمجوم ومن الخليج عدد كبير، اجتمعوا في الخرطوم وكوّنوا ما يسمى بمنظمة الدعوة الإسلامية عام 1980، وشارك في المنظمة الكثير من المصريين وبعض الأفارقة، وطلبوا مني أن أكون رئيساً لها فوافقت لأنني وجدتها منظمة غير سياسية تعمل في مجال الدعوة ولا تعمل في السياسة، وكان ذلك عام 1986". وأبدى المشير انطباعاته عن حال الأمة فقال:"إن الأمة الإسلامية تتعرض لضعف في العقيدة، ويجب أن نظهر للغرب صورة الإسلام الحقيقية ولا نشوه صورة ديننا، وان نبين دعوة الإسلام السليمة ونتفق مع بعضنا البعض ونكثف الجهود للرقي بالأمة، ونطبق الإسلام في أنفسنا. ولا بد أن يكون هناك تنسيق بين الدول الإسلامية وأن نحاول مساعدة بعضنا البعض وأن نتكاتف، ونعيد للجامعة العربية مكانتها، وثقتي كبيرة بأن تعود هذه الأمة إلى سيرتها الأولى".