تمثل تركيا راهناً المسألة الاكثر إزعاجاً على الاطلاق التي أورثتها الجغرافيا والتاريخ للاتحاد الاوروبي، وهي على رغم انها سيطرت في الماضي على جزء كبير من جنوب شرق أوروبا، إلا انها ما زالت غير معترف بها مجتمعاً أوروبياً، لان لا صلة بين لغتها وبين اللغات الاوروبية، ودينها ليس المسيحية، وجيرانها إما شرق اوسطيون أو قوقازيون، وهو ما يطرح السؤال: أين تنتهي حدود أوروبا حقاً؟ وما هو الشكل النهائي الدقيق الذي سيتمخض عنه الاتحاد الاوروبي مستقبلاً بالنسبة لوضع تركيا؟ التردد والحيرة والقلق، عناوين ثلاثة تعكس الحال المعاشة الآن في تركيا التي تعيد قراءة علاقاتها الغربية بشيء من الواقعية. ويذهب الذهن في هذه الحال الى الدور الذي سيلعبه رجب طيب أردوغان وحزبه"العدالة والتنمية"لايجاد مكان للعقل السياسي الاسلامي المعتدل في التاريخ التركي المعاصر. فحتى الآن كانت المواجهة بين اثنين كلاهما مجرب وفاشل في التاريخ التركي، وهما التطرف العلماني والتطرف الديني. ففي وقت تبدو مصلحة تركيا في دعم خط أردوغان الاسلامي المعتدل، نجد في كل مكان، خارج تركيا، في أميركا وأوروبا، من يريد أن يعمل على محاصرة حلم أردوغان وخطه الفكري الاسلامي العاقل لصالح متطرفين وعلمانيين مغالين على طريقة مصطفى أتاتورك، فتتعرض الى هدر قوة سياسية كبرى حققها الاسلام المعتدل في تركيا، وتساهم في إعادة عقارب الساعة الى أيام نشوء الدولة التركية حين كانت الاتاتوركية الفجة تحكم الساحتين العسكرية والسياسية في دولة ظهرت فيها في وقت ما السلطنة العثمانية المتميزة في بعض تاريخها. في هذا الواقع استطاع أردوغان أن يفعل ما عجز عنه الكثير من أسلافه، وهو استطاع مجدداً أن يعيد الى الذاكرة الدور الذي لعبته اسطنبول في ماضي العصور، لا كدولة دين وفتح فحسب، بل كدولة عمران وإدارة وقانون أيضاً. وعلى رغم التصريحات الرسمية التي خرجت من أردوغان وأكدت التزامها الكامل النظام القائم وبمبادئ الدولة التي دشنها مصطفى كمال أتاتورك 1882-1930 قبل ثمانين عاماً، وبالتوازي خروج تأكيدات لا تحتمل أي تأويل من قبل المؤسسة العسكرية ذات النفوذ القوي في الحياة السياسية التركية بأن تركيا دولة ديمقراطية علمانية وسوف تظل كذلك، وعلى رغم كل ذلك بقيت العلمانية في تركيا ومستقبلها داخل دائرة الاستفهام, حتى وان هدأت المخاوف قليلاً نتيجة ممارسات تمت بالفعل من قبل الحزب الحاكم وهو ما توقف عنده الكثيرون وبشيء من التفصيل. بيد أن الروائي التركي البارز أورهان باموك لم يخف حذره قائلاً في مقال نشر في"لوس أنجليس تايمز"الاميركية:"في الحقيقة لا أريد لهذا الحزب أن يكون تحدياً للعلمانية" ثم مضى وقد تحلى ببعض التفاؤل قائلاً" نحن الآن امام تجربة جديدة إذ أن أردوغان سيحاول تحجيم دور الاسلاميين في الحكم على رغم أنه جاء من خلفية إسلامية", ثم يختتم مقاله بعبارة موجزة لا تخلو من دلالة:"كل ما أقوله لزملائي وفي الوقت نفسه لمخاوفي، الرجاء التروي لنرى"! غير أن المتأمل والمتابع للشأن التركي ربما لا يرى أن العلمانية في تركيا قاب قوسين أو أدنى من عملية"محاصرة". فبجانب أنه لا توجد دلائل حقيقية في هياكل المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية تشير الى قرب الحصار, هناك عنصر التجذر نسبياً. ولعل هذا الافتراض ينطلق من تصور مؤداه أن العلمانية في تركيا لم تكن فقط نتاج النظام الكمالي وأنما هي امتداد لتراث يعود الى قرنين من الزمان وقبل ثورة كمال أتاتورك في عشرينات القرن الفائت. فمنذ العقد الرابع من القرن الثامن عشر والامبراطورية العثمانية لا تألو جهداً في الاقتداء بالغرب الاوروبي العلماني. ولعل دولة التنظيمات في بدايات القرن التاسع عشر ما هي إلا ثمرة لهذه الجهود. ومع مجيء كمال أتاتورك لم يكن الامر صعباً أمامه، فقد أضاف بكارزميته الطاغية وسطوته ما كان يسير بخطى حثيثة الى واقع فرض بقوة الدستور والقانون, ووضع خطاً فاصلاً بين ما يمكن أن نسميه بالعلمانية المذبذبة في إطار التلفيق والتوفيق مع النصوص الدينية، والعلمانية بمعناها في النص القانوني الرافض لأي استناد مع النص الديني. لقد عاشت تركيا الحديثة أكثر من ثمانين سنة تحت وهم أن وصول المحسوبين على التيار الاسلامي الى السلطة سيقلب البلد رأساً على عقب وسيقيم نظاماً جديداً من العلاقات الوثيقة بين الاناضول ومحيطها الاسلامي، وسيضع حداً للتوجه العلماني الذي شاء اتاتورك أن يكون قاعدته لدولته الجديدة. ونخلص من هذا كله أن تركيا دولة تمارس فيها الديمقراطية حتى وأن بدت في بعض جوانبها مشروطة, أما العلمانية فباقية لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع التركي بعد أن استندت الى رؤية فرنسية للعلمانية التي بزغت في أعقاب الثورة الفرنسية التي فصلت الكنيسة - بصرامة - عن الدولة. وعلى رغم أن الاسلام لم يمنع في تركيا، إلا أن الدولة أخذت في تهميشه، وتولى العسكر التركي حامي العقيدة الاتاتوركية، قيادة الصراع لقمع أي شكل لقوة دينية منظمة. بهذا المعنى حاول أتاتورك نفي ماضي تركيا الاسلامي بعيداً عن إدراك وتعبير الجماهير. وعلى رغم أهمية العديد من الاصلاحات الغربية التي قادها أتاتورك إلا أن محاولة قمعه للدين بين الشعب لم تنجح، وعادت تركيا ثانية الى التعبير الطبيعي عن الشعور الديني، خصوصا في السياسة، وأصبحت أول دولة علمانية في تاريخ العالم الاسلامي تنتخب بحرية حزباً إسلامياً للسلطة من دون أن يخرج هذا الحزب العدالة والتنمية عن المحددات الايديولوجية للنظام السياسي للمؤسسة التركية. لقد ترك سحق الاتاتوركية لقوة وهيبة الدين في تركيا الجديدة، تحديات روحية واجتماعية، بطيئة الالتئام، على مدار القرن العشرين، غير أن الغالبية من الشعب التركي ظلت متدينة وفخورة بالميراث العثماني حتى وهي تتحول الى"مواطنين يدينون بالولاء للجمهورية الجديدة"على حد قول غراهام فولر، ومع تطور النظام التعليمي والاصلاح الاقتصادي بزغت قوة جديدة كان لها أهميتها في المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وقد دعمت هذه القوة التي اطلق عليها اسم"نمور الاناضول"الاحزاب التي تحترم التقاليد الدينية، وجاء انتصار حزب"العدالة والتنمية"الذي يقوده الثنائي أردوغان - عبد الله غل في انتخابات 2002، ذروة هذا الدعم بين"نمور الاناضول"والحركات الدينية. لا شك أن أهم ما ميز تجربة أردوغان الذي تحمل عليه الصهيونية، أنها بنت مراجعة عميقة وشجاعة لمسيرة الحكم في تركيا منذ أتاتورك حتى الآن. فقد توصل أردوغان بنتيجة الممارسة الى أن ما يمكن أن يقود تركيا ويمنعها من المغامرات ليس اليمين السياسي المتطرف ولا العسكرية المتسلطة مهما كانت دعواها الايديولوجية، بل هو صيغة حكم تمثل حقيقة الشعب التركي سواء في أريافه أو مدنه كشعب مسلم تواق الى تطوير حياته بعيداً عن التطرف سواء الى اليمين او الى اليسار. ودارسو التجربة السياسية التركية منذ مصطفى اتاتورك حتى ايامنا مالوا بأكثريتهم الى الاعتقاد أنه للمرة الاولى يأتي الى السلطة حكم يمثل بشكل متوازن ميول الشعب التركي المختلفة ويقدمها لمسلمي العالم، اضافة نوعية لتجاربهم. * كاتب سوري.