حدثت تغييرات كثيرة في العراق بعد انتهاء الحرب الأخيرة التي شنتها الولاياتالمتحدة على العراق، ابتدأت بالاحتلال الاميركي، الذي بدأ في التاسع من نيسان أبريل 2003 وانتهى رسمياً في 28 حزيران يونيو 2004، لتحل محله الحكومة العراقية الموقتة. وخلال أيام ستتسلم الحكومة العراقية الانتقالية زمام الحكم حتى الانتخابات المقبلة التي ستولد حكومة جديدة أخرى في بداية العام المقبل. وخلال السنتين الماضيتين سمعنا وقرأنا عن التغييرات التي ستطرأ على القوانين الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، لكن ما حدث عملياً لم يكن مؤثراً، وما اعلن عنه من قوانين جديدة لم يُنفذ منها شيئ. فما زال القطاع الحكومي يهيمن على سوق العمالة وما زال الاستثمار ضعيفاً تحكمه القوانين السابقة ناهيك عن قوانين الشركات والوكالات التي عفّى عليها الدهر مروراً بما تقدمه المصارف العراقية الضعيفة من خدمات لا ترقى الى الف باء نظيراتها في انحاء العالم. ان الاقتصاد العراقي لن ينهض الاّ بوجود قوانين واضحة تتيح للمستثمرين ان يكونوا خلاّقين في الاستثمار في المشاريع المهمة التي تنهض بالاقتصاد ورفعه من كبوته التي عانى منها خلال سنوات الحروب والحصار والاحتلال الطويلة ناهيك عن الهيمنة الحكومية التي طالت نحو 40 سنة. والقوانين هذه يجب ان تحمي الاستثمار والمستثمرين العراقيين والأجانب على حد سواء كما تعطيهم هامش الحركة الكافي في تحريك رؤوس اموالهم والأرباح التي يجنونها. أما تأسيس الشركات في العراق فإنها عملية عقيمة بدءاً من اختيار الاسم الذي يتحكم به القاموس العربي ومن ثم تحليل الموظف للاسم حتى اختياره مروراً بعقد التأسيس الذي يتمحور على نشاط واحد للشركة الى تعقيدات تغيير الاسم أو الشركاء او بيع الشركة أو دمجها مع شركة اخرى مستقبلاً . كل ذلك يقع تحت رحمة دائرة مسجل الشركات وغرف التجارة والعديد من هذه الطلبات قد ترفض أو تتأخر لأسباب لا تدخل في باب المنطق. و لغرض انجاح الاقتصاد العراقي والنشاطات التجارية يجب ان يتم النهوض بقطاع المصارف الذي لا يزال مريضاً. فرأس مال المصارف العراقية ما زال ضعيفاً على رغم زيادته أخيراً . وما زالت خدمات المصارف لا تتعدى الحسابات الجارية والتوفير وتصريف العملة. أما الخدمات الأخرى مثل التسهيلات الائتمانية والرهن العقاري والمعاملات التجارية ...الخ فحدِِّث ولا حرج ومكلفة جداً. فكيف نريد لرجال الأعمال والقطاع الخاص ان ينهض وليس هنالك من أدوات لذلك. ان ما يجب الاهتمام به في الاقتصاد العراقي الجديد هو القطاع الخاص الذي اصبح في عالم النسيان خلال السنوات الأربعين الأخيرة. وخلال السنتين الأخيرتين دخل القطاع الخاص في مرحلة استيراد المواد الاستهلاكية وفتح الدكاكين، لكن ذلك لا يمثل إلاّ خطوة صغيرة في مجال الطموح المنشود. وهنا يجب ان تُفتح امام هذا القطاع كل الأبواب التي ما زالت موصدة في مجال إعادة الإعمار وتجهيز دوائر الدولة من خلال عقود المناقصات وتصدير ما هو ممكن تصديره وتسهيل مهمة حركته في الساحة الاقتصادية. وحتى ينهض الاقتصاد العراقي هنالك امور أخرى يجب ان تطور مثل البنية التحتية إضافة الى تحسين خدمات الموانئ والمطارات وفتح مناطق التجارة الحرة على الحدود مع دول الجوار مع تطوير وسائط النقل البري والبحري والجوي لأنها المفتاح الرئيس للتجارة الخارجية والمحلية. وقد يقول قائل إن هذه الأمور جميعاً مرتبطة باستتباب الأمن. وهذا صحيح. لكن هناك العديد من المواضيع والأمور في الأمكان اكمالها او اعدادها لكي تأخذ مكانها في حيز العمل على رغم الوضع الأمني الراهن الذي يعتبر سيئاً بكافة المقاييس. وبمعنى آخر ألا نقف مكتوفي الأيدي الى ان يتحسن الأمن كلياً. وعلى الحكومة العراقية المقبلة ان تنوع مصادر الدخل وتقوّي الاقتصاد غير النفطي لأن اقتصاد النفط اليوم يمثل مجمل ايرادات العراق. وفي الوقت نفسه يجب عليها الالتفات الى خصخصة مشاريعها الصناعية . فالشركات والمشاريع الصناعية الحكومية بقرة حلوب فيها بطالة مقنعة تزيد على 85 في المئة والكثير منها اليوم من دون انتاج او ذات انتاجية خفيضة. ويجب ان تكون الخصخصة على مراحل وبطريقة لا تؤدي الى خلخلة الاقتصاد والوضع المادي للعاملين فيه لأن ذلك سيؤدي الى مردودات سلبية. وما يجب الاشادة به هو جهود البنك المركزي العراقي في تقوية العملة العراقية الجديدة مع ثبات سعر صرفها تجاه العملات الصعبة وعملات دول الجوار مما أدى الى إعطاء رجال الأعمال والتجار العراقيين راحة البال في هذا المجال. أما الأمر الآخر الجدير بالإشادة فهو إلغاء 80 في المئة من ديون العراق لنادي باريس. لكن هناك أكثر من 45 بليون دولار ديون على العراق للدول العربية في انتظار الغائها. ويُعد الغاء الديون الأمر الأهم بالنسبة الى العراق لكي يشق طريقه في بناء مستقبله. من يريد بناء وطن جديد عليه أن يبني اقتصاداً قوياً. ومن يرغب في اقتصاد قوي عليه أن يشرع قوانين صحيحة وأن يطبقها على نحو يتيح للجميع التعامل معها بسلاسة بعيداً من المحسوبية والمنسوبية والفساد الإداري والمالي المستشري ونحن لذلك منتظرون. * رئيس مجموعة إنتر - العراق.