يحمل صدور رواية"فصل الأسلحة"للروائي الألباني بيترو ماركو 1913-1991 أكثر من مؤشر على التاريخ الثقافي المحزن لألبانيا في القرن العشرين، وذلك على صعيد أحداث الرواية نفسها الواقعية وليس المتخيلة أو على صعيد الأحداث التي دارت حول صدور ومنعها الرواية عندما نشرت للمرة الأولى في 1964، أي حين كانت سلطة الحزب الشيوعي في ذروتها. ولد بيترو ماركو في قرية قرب مدينة فلورا الساحلية في جنوبألبانيا، وتخرج هناك في المدرسة التجارية، ولكن ميوله الأدبية برزت في وقت مبكر. ففي العشرين من عمره بدأ يكتب القصص وينشرها بدعم من معلمه الكاتب الألباني المعروف أرنست كوليتشي 1903-1975 انظر"الحياة"2/7/2003. وفي آذار مارس 1936، وقبل أن يولد إسماعيل كاداريه، أصدر ماركو مجلة أدبية طليعية ABC، ولكن سلطات النظام الملكي سرعان ما أغلقتها. وبعد إغلاق المجلة توجه ماركو مع بعض الشباب اليساريين الألبانيين إلى إسبانيا للقتال إلى جانب الجمهوريين، حيث حارب هناك مع كتيبة غاريبالدي. وقد اجتمع ماركو هناك مع أرنست همنغواي وغيره من الكتاب المعروفين ألكسي تولستوي وأندريه مالرو وبابلو نيرودا في مؤتمر للكتاب عقد في فالنسيا خلال 1937. وبعد خسارة الجمهوريين انتقل ماركو مع غيره إلى فرنسا المجاورة، ومن هناك عاد في 1940 إلى ألبانيا ليعتقل من السلطات الإيطالية التي كانت احتلت بلاده، ولينفى إلى جزيرة أوستيكا النائية قرب صقلية. أطلق سراحه بعد استسلام إيطاليا فعاد إلى ألبانيا ليشارك في"حرب التحرير الشعبية"التي كان يقودها الحزب الشيوعي الألباني الذي تأسس 1941 خلال وجوده في المعتقل. وبعد وصول الحزب إلى السلطة في نهاية 1944، كان ماركو من الأسماء التي برزت بسرعة لماضيها الثوري، فعيّن في 1945 رئيساً لتحرير الجريدة اليومية الجديدة"باشكيمي". ولكنه سرعان ما اعتقل في 1947 خلال فترة الخلاف في قيادة الحزب، حول مكانة الأدب في ظل النظام الجديد، ولم يطلق سراحه إلا في 1949 حيث سمح له بالعمل في التعليم. ومع أن ماركو كتب الشعر والقصة ونشر منهما الكثير، إلا أنه أثبت موهبته كروائي مع صدور روايته الاولى Hasta la Vista في تيرانا عام 1958، التي تناول فيها الحرب الأهلية في إسبانيا. وبعد سنتين فقط 1960 صدرت في تيرانا روايته الأخرى"المدينة الأخيرة"التي يعتبرها البعض الرواية الحديثة الأولى في الأدب الألباني، مع أن موضوعها يدور حول النهاية المرة للجيش الإيطالي المحتل في ألبانيا. وبعد أربع سنوات 1964 صدرت روايته"فصل الأسلحة"التي جلبت له المشاكل من جديد مع السلطة. ومع أن ماركو يعود في هذه الرواية إلى فترة"حرب التحرير الشعبية"الموضوع المفضل للأدب المدعوم من السلطة، إلا أنه تناول موضوعاً محرماً حتى ذلك الحين، ألا وهو الحب في وقت الحرب. فقد كانت تعليمات الحزب الشيوعي حازمة في هذا المجال، إذ تنص على استبعاد أي تفكير أو شعور بالحب في وحدات"البارتيزان"خلال الحرب سواء مع القوات الإيطالية أو القوات الألمانية المحتلةلألبانيا. ومع أن هذه التعليمات كانت بمثابة أوامر قاطعة، إلا أنها لم تستطع بالطبع ضبط المشاعر الإنسانية في كل الحالات، وهو ما حدث مع اثنين من"الرفاق"رمزية جيريا وزاهو كوكا أحبا بعضهما بعضاً. ولكن هذه العلاقة الرومانسية تحولت إلى ما يشبه اللعنة حيث حوكمت رمزية محاكمة ميدانية ونفذ فيها حكم الإعدام رمياً بالرصاص، بينما اندفع حبيبها زاهو في مقدم الصفوف ليقتل برصاص القوات الألمانية في معركة لاحقة. اعتقال ومنع وعلى رغم شهرة هذه القصة المأسوية في صفوف"الرفاق"الذين قاتلوا في"حرب التحرير الشعبية"وأصبحوا لاحقاً في المواقع القيادية في السلطة الجديدة، إلا أن ماركو المتمرد على الدوام جلب اللعنة على نفسه لأنه استلهم هذه القصة في روايته الجديدة. وهكذا جمعت كل النسخ من المكتبات بعد أيام فقط من صدورها وأرسلت إلى معمل الورق لكي تتحول إلى كرتون يستخدم في أمور أخرى لا علاقة لها بالأدب. ولم تهدأ"العاصفة"التي أثارها ماركو بهذه الرواية حتى أصدر في 1973 رواية جديدة بعنوان"اسم في 4 طرق"وضعته مرة أخرى في مواجهة مع السلطة. ومع أن أحداث الرواية تدور في عهد الملك أحمد زوغو 1928-1939، إلا أن السنة التي صدرت فيها 1973 كانت تؤشر إلى تشدد السلطة تجاه"الميول الليبيرالية"في الأدب التي شملت البطش بالكاتب المسرحي المعروف فاضل باتشراي 1922 الذي لم تمنع عضويته في اللجنة المركزية للحزب من الاعتقال والسجن. وفي هذه المرة أيضاً سحبت روايته من المكتبات وأعدمت، ولكنه في هذه المرة منع من حق النشر في أي مكان، وكان هذا أقسى عقوبة لكاتب مبدع مثل ماركو. ولم تكتب السلطة بذلك بل حكمت على ابنه بالسجن لمدة 6 سنوات بتهمة القدح في شخص أنور خوجا. وقد استمر هذا المنع عن النشر الذي كان بمثابة تغييب عن الحياة العامة 8 سنوات إلى أن سمح له في 1982 بالنشر من جديد. وفي هذا السياق نشر في 1989"ليل أوستيكا"التي تحدث فيها عن تجربة النفي في تلك الجزيرة النائية خلال الحرب العالمية الثانية. وخلال تلك الفترة كان ماركو بدأ يعاني المرض نتيجة الظروف الصعبة التي عاشها مع سلطة ديكتاتورية تنكرت لماضيه الثوري ودوره الأدبي وقمعت باستمرار إبداعه الروائي. ومع ذلك عاش حتى نهاية 1991، بعد أن شهد نهاية احتكار الحزب الشيوعي للسلطة وبداية التحول للديموقراطية. ومن المفارقة أن العهد الديموقراطي الجديد هو الذي قام بإعادة الاعتبار الى رواد اليسار في ألبانيا الذين شاركوا في الحرب الأهلية في إسبانيا وپ"حرب التحرير الشعبية"في ألبانيا وسقطوا نتيجة التصفيات المتتالية داخل الحزب الشيوعي التي شملت الرواد في الأدب أيضاً مثل سيف الله ماليشوفا وبيترو ماركو. وهكذا سمحت الذكرى التسعين لولادة ماركو بتكريمه، فأقيم احتفال مهيب سلم فيه رئيس الجمهورية ألفرد مويسيو زوجة ماركو وسام"فخر الأمة"الذي لا يمنح إلا للشخصيات الكبيرة التي لعبت دوراً مميزاً في التاريخ الألباني المعاصر. وظهر بعض رواياته في طبعة جديدة.