في نهاية آب أغسطس الماضي اختتمت في بريشتينا الندوة الدولية ال23 للغه والأدب والثقافة الالبانية التي تعقد بالتعاون ما بين جامعة بريشتينا وجامعة تيرانا. ويمكن القول ان هذه الندوة كانت في شكل ما، الى جانب الموضوعات والشخصيات الاخرى، ندوة بلال جعفري واسماعيل كاداريه. فقد كانت مناسبة لاعادة الاعتبار الى بلال جعفري الذي عانى كثيراً في البانيا من جراء نقده الشهير لاسماعيل كاداريه في 1968، وكانت مناسبة ايضاً للتعرف الى اخر ما لدى كاداريه وحول كاداريه في النقد الالباني. وفي الواقع ان سيرة حياة ومأساة بلال جعفري مهمة بقدر ما تكشف عن الوضع السابق في البانيا المعزولة عن العالم، وبالتحديد عن علاقة الادب بالسلطة وعن امكانية الابداع في ظل تحكم الايديولوجيا بالحياة. وفي وضع كهذا يتضح ما الذي يجعل كاتباً مبدعاً كبلال جعفري منفياً ومعزولاً في بلاده، ويجعل كاتباً اخر كإسماعيل كاداريه نجماً معروفاً خارج بلاده ايضاً. ولد بلال جعفري في 1935 في قرية قرب مدينة كونيسبول الحدودية بين البانيا واليونان، أي في منطقة تشامريا التي يمتد معظمها في اليونان والتي تحول معظم سكانها الى لاجئين في البانيا خلال 1944- 1945انظر "الحياة" عدد 16/7/2001. وبعبارة اخرى فقد كان جعفري ينتمي منذ طفولته الى قضية مأسوية بعد ان سعى النظام الجديد في البانيا الى طمسها. ومما زاد من مأساة جعفري في طفولته وفاة أمه في وقت مبكر، كما ان والده الضابط السابق في الجيش الملكي اعدم في 1945 بعد انتصار الحزب الشيوعي في الحرب الاهلية. وفي مثل هذه الحال كانت عائلات "اعداء الشعب" تنفى الى مناطق نائية وتبقى في عزلة تامة عن بقية البانيا، وهو ما وجد نفسه فيه جعفري حيث سمح له بالكاد متابعة الدراسة الثانوية. ومع ذلك فقد عبر جعفري عن موهبة ادبية مبكرة واخذ يكتب الشعر والقصة وينشر نتاجه الادبي في المجلات الادبية المعروفة مثل "درتيا" و"ننتوري". وقد نشرت له في 1966 أول مجموعة قصصية بعنوان "أناس جدد، ارض عريقة" التي كرسته ادبياً مبدعاً على رغم من حصار النظام السياسي له، وفي الوقت نفسه كان يبرر بسرعة اسم المكاتب المجايل له اسماعيل كاداريه ولد 1936 الذي كان آنذاك منسجماً تماماً مع الحزب الشيوعي الحاكم ويتمتع بدعم قوي من انور خوجا وزوجته نجمية خوجا. في ذلك الوقت كانت شهرة كاداريه قد برزت مع رواية "جنرال الجيش الميت"، التي أخذت تترجم وتنشر خارج البانيا ايضاً. وقد أصدر كاداريه بعدها رواية "العرس" التي عقدت حولها ندوة في اتحاد في تيرانا. وفي هذه المناسبة وقف جعفري ليثير بعض الملاحظات والانتقادات التي أصبحت مألوفة الآن لهذه الرواية، ولكنه تعرض الى هجوم عنيف كلفه الكثير. فقد كان كاداريه انذاك "الابن المدلل" للنظام، حيث كانت علاقته الخاصة بعائلة خوجا توفر له حماية خاصة، ولذلك فقد قاد الهجوم على جعفري الكاتب المسرحي فاضل باتشرامي ولد 1921 سكرتير الحزب للشؤون الأيديولوجية في تيرانا. ومن مفارقات الزمن ان باتشرامي الذي قاد الهجوم على جعفري ل"انحرافه الأيديولوجي" سقط في 1972ضمن تصفيات السلطة الدورية بتهمة "الإنحراف الأيديولوجي" وبقي في السجن عشرين سنة 1972 - 1991. وبسبب هذا الهجوم الذي تعرض له جعفري بسبب ملاحظاته حول رواية كاداريه فقد تعرض لمزيد من المعاناة. وهكذا حكم عليه بالنفي مرة أخرى وأرسل للعمل في مزرعة في منطقة سكوت. وكانت قد صدرت له في نهاية 1967مجموعة شعرية بعنوان "أرض الحرية الحمراء" ولكنها أعدمت بسبب هذا الموقف ولم تتسرب نسخة واحدة منها إلى المكتبات. في هذه الظروف من الحصار تمكن جعفري بمعجزة من الهرب إلى اليونان في 30 آب 1969، حيث تابع طريقه بعدها إلى الولاياتالمتحدة. وهناك عمل جعفري في الصحافة في خدمة قضيته الكبرى مصير سكان منطقة تشامريا حيث أصدر مجلة "جناح النسر" التي كانت تعتبر من افضل المجلات الألبانية في الخارج كما استعاد نشاطه الأدبي وتوجه إلى الرواية أيضاً. ولكن لعبة النظام لم تفارقه هناك إذ تعرض للاغتيال في 1978 واحرق مقر مجلته في 1981. ومع انه توفي في شيكاغو في تموز يوليو إلا أن روايته "كراستكراوس" لم تنشر في تيرانا الا في1993، أي بعد نهاية حكم الحزب الشيوعي، بينما نشرت في بريشتينا في 1995بعنوان "سقوط بيرات" مع رتوشات بسيطة. في غضون ذلك بدا النقد الأدبي الألباني بعد تحرره من سطوة الأيديولوجيا بمراجعة نقدية شاملة للأدب الألباني في النصف الثاني للقرن العشرين، ومن ذلك أعمال بلال جعفري واسماعيل كاداريه وغيرها. وفي هذا الخصوص فقد بادر الناقد الكوسوفي المعروف صبري حميدي الى نشر دراسة عن بلال جعفري في 1994، وسرعان ما أتبعها في 1996 بكتاب له بعنوان "بلال جعفري الشاعر الملعون". وفي موازاة ذلك فقد أعيد له الاعتبار في ألبانيا ما بعد الشيوعية على أعلى المستويات. فقد منح في 1995 لقب "شهيد الديموقراطية"، ونقلت رفاته في 1996 لتدفن في البانيا وسط مظاهر التكريم. في الندوة ال23 للغة والادب والثقافة الألبانية استقطبت الاهتمام محاضرة باشكيم كوتشوكو الأستاذ في جامعة تيرانا التي كانت بعنوان "الأعمال الأدبية لبلال جعفري". ومع أن كوتشوكو أكد أنه لا تزال تنقصنا معرفة الأعمال الكاملة له بسبب ظروف النفي الداخلي والمنفى الخارجي إلا أن ما يعرف من أعماله يجعله جديراً بأن يكون في صف كبار الكتاب الألبان مثل اسماعيل كاداريه وفاتوس عرابي ودريترو أغولي ورجب تشوسيا وغيرهم. وقد أشار كوتشوكو في هذا الإطار إلى أن جعفري كان يكتب نوعين من الأدب: النوع الذي يمكن أن ينشر والنوع الذي لا يمكن أن ينشر. وقد أكد كوتشوكو بهذه المناسبة تأثر جعفري بأعمال الكتاب الألبان خارج النظام مثل أرنست كوليتشي انظر ملحق "آفاق"، عدد 2/7/2003 وبالتقاليد الأدبية الألبانية ما قبل الشيوعية التي لم تعد مرغوبة آنذاك، وعلى روحه التراجيدية التي تفوق ما نعرفه في الأدب الألباني السابق. مع هذه المحاضرة ل كوتشوكو ومع هذه الندوة الدولية يمكن القول أن بلال جعفري عاد بقوة إلى خريطة الأدب الألباني المعاصر بعد تغييبه في شكل مأسوي، الذي ساهم فيه الساسة والكتاب الكبار مثل كاداريه وباتشرامي وأغولي، حيث سيعاد الآن نشر مؤلفاته من جديد ليأخذ المكانة التي يستحقها.