حدث ذلك في العام 1964، وتحديداً خلال دورة ذلك العام لمهرجان"كان"السينمائي: عرضت ثلاثة أفلام آتية من البرازيل، حملت يومها عناوين بعضها يتسم بالغرابة، كما حملت تواقيع مخرجين بالكاد يعرف أحد اسماً لهم خارج البرازيل. ولكن منذ تلك اللحظة صارت الأسماء معروفة، والعناوين شهيرة... وصار لپ"الظاهرة"كلها اسم يشكل علامة في تاريخ الفن السابع"سينما نوفو". المخرجون كانوا غلاوبر روشا ونلسون بييرا دوس سانتوس وكارلوس دييغيز. وكان سبقهم، في العام نفسه، الى مهرجان برلين مواطنهم روي غويرا، الذي فاز بجائزة في ذلك المهرجان. والغريب ان الأفلام الأربعة التي حملت تواقيع هؤلاء ظلت بدورها علامات فارقة ليس في تلك الپ"سينما نوفو"فقط، بل في سينما العالم الثالث ككل. وحسبنا هنا ان نذكرها حتى نوقظ ذكريات بأسرها تتعلق بحلم سينمائي كبير... لم يكتمل: فمن روشا كان هناك"الإله الأسود والشيطان الأشقر"، ومن دوس سانتوس"الجفاف"، ومن دييغيز"غانغا ثومبا". أما فيلم روي غويرا فهو"البنادق". واذا كان"العالم الخارجي"كله تعرف عبر تلك الأفلام وأصحابها الى تيار سينمائي لم يكن ليعتقده موجوداً في بلد كالبرازيل، فإن ما كان جديراً بالملاحظة يوم ذاك هو ان تلك الأفلام كشفت عما كان هناك من أفلام قبلها للمخرجين أنفسهم ولرفاق آخرين لهم، وأن التيار نفسه كان بدأ يعيش آخر سنواته. ففي ذلك العام بالذات كانت الديكتاتوريات العسكرية بدأت تتوالى على البرازيل، ما استتبع اجهاض أحلام التحرر، من طريق فن يحكي عن الواقع بطرائقه الخاصة. ذلك ان"سينما نوفو"أتت منذ البداية مرتبطة بالسياسة والمجتمع وحركات الاحتجاج الشعبي ضد الفقر والقهر، وضد"الاحتلال"الأميركي الشمالي للبرازيل ولأميركا اللاتينية عموماً. ومن هنا وعلى عكس ما هي الحال بالنسبة الى التيارات التي سبق ان تحدثنا عنها في هذه السلسلة، لن يكون سهلاً التعمق في تاريخ الپ"سينما نوفو"و"جمالياتها"إن لم يكن المرء عارفاً نقاطاً أساسية عن تاريخ البرازيل، ثم عن تاريخ السينما البرازيلية نفسها. وإذا كان التوسع في هذا الحديث المزدوج يبدو، هنا، مستحيلاً، فإن ما يمكن الاشارة اليه هو أن ثمة فيلمين برازيليين حققا أواخر سنوات الستين، لخّصا، كل على طريقته وفي مجاله، تاريخ البرازيل الحديث من جهة، وتاريخ السينما البرازيلية من جهة أخرى، وهما"بانوراما السينما البرازيلية"1968 لخوراندير نوروينا، و"الوارثون"لكارلوس دييغيز 1969... يضاف اليهما واحد من آخر الأفلام التي حققها روشا"تاريخ البرازيل"1974. ارتباط حاسم في شيء من الاختصار تفيدنا هذه النتاجات ان الارتباط بين السينما والأدب والمجتمع في البرازيل كان دائماً قوياً وحاسماً... غير ان الدنو من هذه العلاقة الثلاثية لم يتجسد حقاً إلا مع بداية سنوات الستين، حين لاحت فسحة حرية مكنت سينمائيين مثقفين متأثرين أساساً بپ"الموجة الجديدة"الفرنسية من الدنو من بعض المسائل الأكثر حساسية في تاريخ البرازيل الحديث: الفقر في الشمال الغربي، موقع السود، التفاوت بين المدينة والريف، ثورات الجياع، السيطرة الأميركية الشمالية... وكل هذا في اطار كان من اساسياته تمجيد فئة من اللصوص وقطّاع الطرق، من الذين يقوم نشاطهم الرئيس على نهب الأغنياء والسلطة لمصلحة الفقراء. والحقيقة اننا في رصدنا لهذه المسائل، نكاد نلخص مواضيع نحو دزينتين من أفلام حققت طوال العقد الستيني، بأساليب وحظوظ نجاح متفاوتة، هي التي شكلت العمود الفقري لپ"سينما نوفو". غير اننا إذا شئنا حقاً أن نغوص في جماليات هذا التيار، فقد يجدر بنا، اضافة الى مشاهدة أفلامه الرئيسة وإعادة مشاهدتها، أن نقرأ كتابات نجمه الأكبر ومنظّره الرئيس غلاوبر روشا، هو الذي اشتهر بكتاباته بقدر ما اشتهر بأفلامه، علماً أنه بدأ حياته صحافياً. وغلاوبر روشا 1939 - 1981، كان يكتب بوفرة وباستمرار، حتى بعيد العام 1974 حين اتهمه أصدقاؤه بأنه تخلى عن مبادئه ونزعته الثورية القديمة ليمالئ ديكتاتورية الجنرالات. المهم ان روشا لخص ما تريده سينماه وسينما رفاقه الجديدة بقوله في نص شهير له عنوانه"جماليات الجوع":"ان بلداً متخلفاً ليس مجبراً بالضرورة على ان تكون له سينما متخلفة. وانه لمن السذاجة، بل لمن الرجعية الاعتقاد بأن في إمكان الفن ان يضر أحداً. وواضح ان سينما نوفو، في رغبتها بأن تشارك في القلق العام الذي تعيشه الثقافة البرازيلية، رفضت كل نزعة شعبوية، مقلصة بذلك من امكان التلاعب بالجمهور.... إن أفلاماً تساهم في السجال الثقافي في بلادنا مثل"الجفاف"- فيداس سيكاس -، و"البنادق"- أوس فوزيس -، و"الإله والشيطان"- ديوس أي او ديابلو -، أفلام صدمت الجمهور، ما جعلها تعجز عن تحقيق النجاح الذي كان مأمولاً. وقد قال لي مبرمج صالات شاب بصدد فيلمي الأخير هذا انه لو حدث ان تآلف مانويل مع انطونيو داس موريتس لقتل قاطع الطريق، بحيث يحصل في النهاية على مكافأته من الكولونيل الثري، كان من شأن الجمهور ان يصفق ويؤيد. غير ان تغيير مسار مانويل، بالنسبة اليّ، كان معناه تبديل شخصية مانويل كلياً، لجعله معدماً، متردداً مثل فابيانو. فابيانو هذا، لتردده، يظل أسير مكانه. أما مانويل، فإنه يواصل سيره عبر طرق تصوف دامية، مستهلكاً طاقته باسم اخلاق مجردة تدعو الى التطهر الجسدي والروحي". زرع ذهنية ما حسناً، هذا الكلام قد يبدو غامضاً بالنسبة الى الذين لم يشاهدوا سينما غلاوبر روشا، أو افلام رفاقه من أقطاب"سينما نوفو"، غير ان تأمل هذا الكلام مرات عدة، سيضع القارئ في قلب الاشكالية التي صنعت لهذا التيار قوته ومعناه، فهنا حتى وإن كان المخرجون أتوا من صلب حركات التحرر الوطني والقضية الاجتماعية، مطلين على غضب زملائهم الانكليز، وعلى تقنيات معلميهم الفرنسيين، كما على علاقة الايطاليين بالواقع، فإنهم، حتى في أفلامهم الفقيرة المتقشفة تلك، التفتوا في شكل جدي الى عنصر روحي بدا الأوروبيون مفتقرين اليه. فهم بعد كل شيء كان عليهم ان يتعاملوا مع مجتمع تشكل الأبعاد الروحية والدينية والسحرية مكوناً اساسياً، ليس فقط من ثقافته، بل من حياته. ومن هنا، اذا كانت افلام مثل تلك التي ذكرنا، وأخرى مثل"شاطئ الرغبة"1962 لروي غويرا و"أراض تهتز"لروشا، وپ"انطونيو داس موريتس"1969 لروشا أيضاً وپ"الآلهة والموتى"لغويرا 1970 وپ"ماكونايما"1969 لدي اندرادي، وقبلها جميعاً"لعبة الليل"للبناني الأصل والتر هوغو خوري... وبقية أفلام دوس سانتوس، اذا كانت هذه الأفلام كلها تذكرنا، شكلاً ومواضيع، بشيء، فإنما هي تذكرنا بالواقعية السحرية التي تشكل أساس أدب أميركا اللاتينية برمته. ومن هنا لم يكن مفاجئاً أن يقول غلاوبر روشا في بيانه الشهير:"ان النظريات تموت ان لم توضع موضع التطبيق. والپ"سينما نوفو"موجودة... وهي رد خلاق وممارسة فاعلة في بلد غني بالامكانات وبالتناقضات. ومع هذا، فإن نيتنا ليست في أن نجعل من السينما الجديدة هذه حلقة مقفلة على السينمائيين أنفسهم... بل إن نضالنا يهدف الى زرع ذهنية بأسرها...". طبعاً من يتأمل تاريخ هذه الحركة، سيجد انها كانت"تلفظ أنفاسها"في الوقت نفسه الذي كانت بدأت أبعادها النظرية تظهر وأفلامها الأخيرة تتحقق، من دون ان تنال نجاحاً، هناك حيث كانت غايتها ان تصل: أي الى عمق ذهنيات الشعب البرازيلي. غير ان ما يعوض على هذا كله هو أن هذه الحركة وجدت، وان"موتها"الرسمي، لم يمنعها من أن تستمر فاعلة في أنماط عدة من ضروب الانتاج الفني والأجنبي في البرازيل وغيرها. اذ حتى وإن كانت هذه الحركة بدت، مع مطلع السبعينات، وبحسب تعبير الباحث الفرنسي مارسيل اومس"مغامرة حملت في داخلها جوعاً خاصاً دفعها الى التهام نفسها"، فإنها تبدت لاحقاً وبالتراكم، فكرة وممارسة تحولنا الى صرخة يأس وغضب"في أوبرا جماعية، طمأى الى غد يبزغ وسط العواصف". كانت، في اختصار، محاولة لطرح السؤال حول تعقد الأصول وحول دروب الجوع والثورات المجهضة داخل البرازيل الحديثة. وهي في هذا المعنى بالتحديد حملت كل الأهمية المسبغة على مشروع كان غلاوبر روشا، على أية حال شديد الدقة حين قال:"في شكل أساس، يمكننا ان نرسم صورة توليفية للفن في البرازيل على الشكل الآتي: حتى اليوم أدى تفسير مزيف للواقع الى بعث جملة من الالتباسات التي لم تنحصر في المجالات الفنية، بل أصابت بالعدوى، أيضاً، المجال السياسي.... وعلى هذا النحو يمكننا ان نعرّف ثقافتنا بكونها ثقافة جوع. وفي هذه النقطة بالذات تكمن الجدة المأسوية للسينما الجديدة سينما نوفو مقارنة بالسينما العالمية: جِدَّتُنا تكمن في جوعنا، الذي هو بؤسنا الكبير... هذا البؤس الذي نستشعره من دون ان نفهمه".