طرح الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة مع أربعة مستوطنات من الضفة الغربية، والذي جاء بعد نحو خمسة أعوام من المواجهات الكثير من التساؤلات عن تأثير هذه المواجهات ومآلاتها، على الطرفين. ولعل التساؤل الأبرز يتعلق بتحديد الطرف المنتصر أو المهزوم في هذه الجولة من الصراع. في الحقيقة ثمة صعوبة في تحديد معنى النصر والهزيمة في صراع ممتد ومعقد. وثمة ما يؤكد استحالة الوصول الى مثل هذه النتيجة المطلقة، في ظل التحولات الدولية والاقليمية، خصوصاً انه لم يعد ثمة مجال في هذا العصر لصراعات وجودية تنبني على النفي والالغاء، في عالم ينحو نحو التعايش والاعتماد المتبادل على قاعدة التنوع والتعددية والنسبية. وعلى رغم اصرار اسرائيل على اعتبار خطوة الانسحاب مبادرة أحادية، ليست للفلسطينيين علاقة بها، وعلى رغم اعتبار انها تقدم على هذه الخطوة خدمة لمصالحها الاستراتيجية، وفي مقدم ذلك التخلص من الخطر الديموغرافي الفلسطيني وصيانة طابعها اليهودي والتجاوب مع متطلبات السياسة الأميركية وتحسين صورتها الدولية، إلا ان هذا الانسحاب، على رغم محدوديته، يعني اعترافاً بفشل مشروع الاحتلال. فهذه المرة الأولى تنهي اسرائيل احتلالها لأرض فلسطينية بضغط من الفلسطينيين ولمصلحتهم، ما يمهد لانسحابات اخرى لاحقاً. والمرة الأولى تفكك اسرائيل مستوطنات من فوق أرض فلسطينية ما يشرع لفكفكة المزيد منها مستقبلاً. وفوق ما تقدم فهي المرة الأولى يقدم الليكود على خطوة كهذه، مع اقراره بأنها تمهد لقيام دولة فلسطينية ولو محدودة السيادة ما يعني ان اسرائيل انتهت تماماً من مسألة معارضة قيام دولة للفلسطينيين. واضح ان الدرس الأساس لاسرائيل، يتمثل في ان هذه الدولة تستطيع ان تمعن قتلاً وتدميراً بالفلسطينيين، ولكنها لا تستطيع ان تفرض إرادتها عليهم. كما انها توصلت الى استنتاج مفاده أنها حتى لو استطاعت السيطرة على الفلسطينيين، فإنها ستجد نفسها، عاجلاً أم آجلاً، أمام خيارين: إما تكريس ذاتها كدولة عنصرية بإخراج الفلسطينيين من دائرة المواطنة للحفاظ على طابعها كدولة يهودية، أو الحفاظ على طابعها كدولة ديموقراطية، بمنح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة المواطنة، ما يحولها الى دولة"ثنائية القومية"، وكلاهما خياران تعمل على تجنبهما. ومع كل هذه الاعتبارات لا يمكن الحديث، أيضاً، بمصطلحات الخسارة عن اسرائيل، فهذه الدولة تعلن انسحابها من الضفة في ذروة قوتها، وتفصح بأنها ستحتفظ بالسيطرة على المجال الجوي والمائي وحتى البري للقطاع. أما من جهة الفلسطينيين فيمكن القول انهم حققوا نصراً تاريخياً، بانسحاب اسرائيل وتفكيكها بضع مستوطنات من بعض أرضهم، وأيضاً بإظهارهم إياها على حقيقتها للداخل والخارج كدولة استعمارية عنصرية، ولكن هذا النصر يبقى جزئياً ومشروطاً، ولا يقلل من قيمته أن الانسحاب سيتم من مساحة لا يتعدى حجمها واحداً في المئة من أرضهم التاريخية فقط، وستة في المئة من مساحة الضفة. ويمكن القول إن الفلسطينيين حققوا أيضاً مكتسبات مهمة من ضمنها ان الانسحاب من غزة يجري من دون تنازل مقابل متفق عليه، وان اسرائيل تراجعت عن لاءاتها في شأن عدم التنازل تحت الضغط والمقاومة، وأن الليكود، أو قسم كبير منه، انزاح الى وسط الخريطة السياسية الاسرائيلية. والأهم من كل ما تقدم فإن الانسحاب يضع الفلسطينيين في مواجهة تحديات كبيرة، لا سيما من النواحي السياسية والاقتصادية، إذ انهم يقفون في مواجهة مخاطر تجميد عملية التسوية عند هذه المحطة، لمدة 10 - 15 عاماً، مع ما يحتمله ذلك من إمعان اسرائيل في تعزيز وجودها الاحتلالي في الضفة، عبر تعزيز الاستيطان والاستمرار في بناء الجدار الفاصل وتهويد القدس. على ذلك يصعب التصديق بأن ثمة طرفاً حقق نصراً استراتيجياً على الآخر، على رغم انه يصح القول ان الفلسطينيين حققوا بعضاً من هذه الإمكانية المشروطة بحسن ادارتهم لأوضاعهم. وخلاصة الأمر فإنه في هكذا صراع، متداخل ومعقد لا يوجد رابحون بالمعنى المطلق للكلمة، ولكن ثمة خاسرون بالتأكيد. فالفلسطينيون، في ظل موازين القوى عربياً ودولياً، لا يستطيعون أن يفرضوا أجندتهم على اسرائيل، ومهما فعلوا تبقى قدراتهم محدودة. ومن جهتها فإن اسرائيل، التي تستطيع ان تقتل وتدمر، عاجزة عن فرض املاءاتها على الفلسطينيين، الذين أثبتوا قدرة مذهلة على الصمود على رغم معاناتهم وضعف امكاناتهم. هكذا فإن النتيجة الواضحة، اليوم، تتلخص في أن الطرفين أبعد ما يكونا عن النصر، بمعناه الناجز، وهما كذلك بالنسبة الى معنى الهزيمة، ما يعني ان ثمة خسارة متحققة للطرفين بغض النظر عن تأثيراتها على كل منهما. ومن الواضح هنا ان اسرائيل هي التي تتحمل مسؤولية عن انسداد هذا الأفق بسبب غطرستها وايديولوجيتها الصهيونية وطبيعتها كدولة استعمارية، فإسرائيل هي التي تحتل وهي التي تصادر الاستقلال الفلسطيني وهي التي تتحكم بحياة الفلسطينيين، لذلك فإن الضغط الدولي والاقليمي ينبغي ان ينصب عليها، لتمكين الفلسطينيين من حقوقهم، ولخلق واقع من العدالة والسلام في هذه المنطقة. كاتب فلسطيني.