لا يقتصر اعتراض التسوية على بعض الاتجاهات في الساحة الفلسطينية والعربية عموماً، فثمة اعتراض اسرائيلي، ايضاً. والمفارقة ان هذه التسوية التي تعتبر مجحفة بالمعايير التاريخية والقانونية بحق الفلسطينيين، تلقى مقاومة عنيدة من بعض الاتجاهات المتطرفة في اسرائيل، المحسوبة على تيار اليمين والوسط الديني والقومي، والتي ترى في التسوية، المتضمنة مجرد الانسحاب من معظم الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والاعتراف بحق الفلسطينيين في اقامة دولة لهم فيها، انحرافاً عن الصهيونية وكارثة ربما تودي باسرائيل. هذه المعارضة لم تلق الاهتمام المناسب بها في التحليلات العربية، فالخطاب العربي، عموماً، اعتاد التعامل مع اسرائيل بوصفها كتلة صماء، وظاهرة سرمدية، لا تخضع لتفاعلات أو الى تطورات وتغيرات! وعموماً لا يجد الخطاب العربي نفسه معنياً بتفحص الداخل الاسرائيلي وما يعتوره من تعددية أو تناقضات. واللافت في مناقشة هذا الموضوع ان المعارضة الاسرائيلية للتسوية، خصوصاً مع الجانب الفلسطيني، احتلت المشهد السياسي الاسرائيلي، منذ التوجه لعقد مؤتمر مدريد في 1991، خصوصاً بعد عقد اتفاق اوسلو عام 1993 والى الآن. وطوال هذه المرحلة اتضح ان اسرائيل هي التي تعوق هذه العملية، وتسعى الى التملص من استحقاقاتها اكثر بكثير مما يعوقها العرب، على رغم الاجحاف الكامن فيها بالنسبة الى حقوق الفلسطينيين. يمكن ملاحظة ذلك بسهولة. فاسرائيل في ظل شامير عارضت مؤتمر مدريد، ودخلت في مواجهة مع ادارة بوش الأب، وهي شهدت مقتل واحد من أهم رؤساء حكوماتها، وهو اسحق رابين عام 1995، على يد متطرف اسرائيلي، لكونه وقع اتفاقاً للتسوية مع الفلسطينيين. وبعد ذلك صعد بنيامين نتانياهو الى الحكم لإجهاض هذه العملية. وفي ظل حكومة باراك نشطت جماعات المستوطنين لفرض واقع الاحتلال بالاستيطان في الأراضي المحتلة. وبعد ذلك جاء شارون ليحرر اسرائيل تماماً من استحقاقات اتفاق اوسلو، بهذه الحجة أو تلك. وطوال هذه الفترة لم تكمل أي حكومة ولايتها الدستورية، وذلك بسبب الخلافات الحاصلة بين التيارات الاسرائيلية بشأن عملية التسوية. وأخيراً شهد شارون، بكل ما يمثله في اسرائيل، هزيمتين في حزبه ليكود لمجرد طرحه خطة للانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة وأربعة مستوطنات في الضفة الغربية! اي ان حزب ليكود هزم زعيمه الذي يحظى بتأييد 65 - 70 في المئة من المجتمع الاسرائيلي، والذي جلب له نصراً بحجم 40 مقعداً في الكنيست، لمجرد طرح خطة تتطلب الانسحاب من 360 كلم مربع فقط وهي مساحة غزة واجراء، بضعة آلاف من المستوطنين فيها، من حوالى 400 ألف مستوطن في الضفة والقطاع، على رغم ان هذه الخطة لا تمت بصلة مطلقاً الى المجالات المتعلقة بقضيتي القدس واللاجئين! ويمكن تفسير الاحجام الاسرائيلي عن الاستجابة لاستحقاقات عملية التسوية بانقسام المجتمع الاسرائيلي على نفسه في هذا الموضوع. فعلى رغم الاجماع الاسرائيلي على أمن اسرائيل وهويتها اليهودية ورفض حق العودة للفلسطينيين والتمسك بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل والعلاقة مع الولاياتالمتحدة، فإن ثمة طيفاً واسعاً من الخلافات في شأن مساحة الأراضي التي ينبغي الانسحاب منها وقضايا الحدود والمستوطنات والدولة الفلسطينية والتعاون الاقليمي. بالنسبة الى التيارات اليمينية القومية والدينية، في اسرائيل، فإن عملية التسوية تفترض ترسيم حدود اسرائيل: الجغرافية والبشرية والسياسية، ما ينتهك مبررات وجودها الايديولوجية - الصهيونية والأسطورية، وما ينتقص من دورها السياسي الوظيفي المفترض، بتحويلها الى مجرد دولة عادية في المنطقة. هذه التيارات تركز على اعلاء شأن الصراع العربي - الاسرائيلي الخارجي وعلى التعبئة الايديولوجية الصهيونية، والاستيطان باعتباره قيمة عليا، وعلى قوة اسرائيل وفرادتها في المنطقة، وعلى أرض اسرائيل الكاملة مقابل دولة اسرائيل، وعلى الشعب اليهودي مقابل شعب اسرائيل. وهي تنطلق في مواقفها من ان اسرائيل قادرة على فرض التسوية تسوية الأمر الواقع على العرب بوسائل القوة والإملاء. وأما بالنسبة للمشروع الشرق أوسطي فهذه التيارات لا ترى أي ميزة في التعاون الاقليمي، الى الحد الذي يفرض على اسرائيل تقديم تنازلات معينة مقابلة. من كل ذلك يتبين أن عملية التسوية مع الطرف الاسرائيلي ليست سهلة أو مسلماً بها، فثمة اشكاليات عدة تعاني منها اسرائيل وتجعلها حذرة وأكثر ميلاً الى الاحجام عنها، وأهم هذه الإشكاليات تكمن في الجوانب الآتية: أولاً، ان الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين ليس صراعاً بين الشعب الفلسطيني والدولة الاسرائيلية المغتصبة أو المحتلة، فحسب، وانما هو ايضاً صراع مع المجتمع الذي ينتمي لهذه الدولة، ويتماهى مع ايديولوجيتها وسياساتها. أي انه لا يقتصر على الجوانب العسكرية أو الأراضي، وانما يشمل الرموز والرواية التاريخية والمعتقدات الدينية، وهذا الصراع في الإدراك الاسرائيلي يبدو كأنه صراع على الأرض ذاتها، وعلى الوجود يختلف عن الانسحاب من سناء أو الجولان أو جنوبلبنان. ثانياً، الترابط بين الاستحقاقات الداخلية والخارجية، فالتسوية مع الفلسطينيين تتطلب من اسرائيل تعريف حدودها وهويتها ودورها، في المنطقة، وهو ما يفسر التعقيدات المتعلقة بهذه العملية. فالانسحاب من الأراضي الفلسطينية يقوض اسطورة"أرض الميعاد"والاعتراف بالشعب الفلسطيني يقوض اسطورة"أرض بلا شعب". ثالثاً: الطابع التاريخي والسياسي الملتبس للدولة العبرية، فهذه الدولة لم تنشأ بنتيجة التطور التاريخي الطبيعي للتجمع اليهودي في فلسطين، وانما بفعل عمليات الهجرة الاستيطانية - الإحلالية، وعلى رغم ادارة أهل الأرض الأصليين، وبفضل القوة والهيمنة والعون الخارجي. وبسبب ذلك فإن اسرائيل، على خلاف الدول العادية، تتهرب من ايجاد أجوبة حاسمة على الأسئلة المطروحة عليها. والمشكلة ايضاً ان طبيعية النظام السياسي فيها يتطلب نوعاً من الاجماع، لا سيما في قضية كقضية التسوية، وهو غير متوافر في الظروف الحالية. رابعاً، طوال المرحلة الماضية اتضح ان اليسار في اسرائيل كما تمثل بحزب العمل غير ناضج تماماً لعملية التسوية، وانه تبناها للتكيف مع المتغيرات الدولية والاقليمية، ومع الاستراتيجية الاميركية في المنطقة لانتزاع اكبر قدر من المكاسب والمكافآت، من العرب ومن الولاياتالمتحدة، في مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة، على شكل قبول العرب برواية اسرائيل للصراع في المنطقة والدخول معها في علاقات وترتيبات أمنية وسياسية واقتصادية وأمنية ثنائية واقليمية، وتعزيز العلاقة الاسرائيلية - الاميركية. وهذا التيار ينطلق من دعمه للتسوية من واقع الحفاظ على اسرائيل وهويتها اليهودية وصورتها الديموقراطية، وهو يرى بأن الانسحاب من الأراضي المحتلة يجنب اسرائيل المخاطر الديموغرافية الناجمة عن وجود ثلاثة ملايين عربي في الضفة والقطاع، ويحافظ على نقاوة الدولة اليهودية ويخلصها من الأعباء السياسية والأمنية والاخلاقية الناجمة عن الاحتلال. وفضلاً عن هذا الاتجاه، وبسبب من تطورات العولمة الاقتصادية والتغير في عناصر القوة لدى الدول، لم يعد يرى ان مساحة الدولة مهمة لاستقرار اسرائيل وازدهارها، بمقدار ما بات يرى ذلك في ميدان التطور الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، خصوصاً بعدما ضمنت الولاياتالمتحدة أمن اسرائيل وتفوقها في المنطقة. خامساً، عملياً تستمد اسرائيل غطرستها، في عملية التسوية، من تفوقها العسكري والاقتصادي، وانتمائها للغرب، ومن تغطية أقوى دولة في العالم لسياساتها وضمانها لأمنها وتفوقها في المنطقة. وتدل التجارب بأن المجتماعات الاستيطانية المصطنعة، خصوصاً المجتمعات الايديولوجية القومية والدينية والعنصرية، تحتاج الى وقت كبير، والى تجاذبات وضغوطات عدة ومتواصلة، حتى تحسم خياراتها. وفي واقع كهذا فإن البنى والدوافع الداخلية لوحدها تشكل شرطاً ذاتياً لازماً، ولكنه ليس كافياً لعملية التغيير التي تحتاج الى عوامل دفع وضغط خارجية، الى الدرجة التي تحيد عناصر قوتها وتهدد مصالحها، ما يجبر هذه المجتمعات على مراجعة خياراتها وسياساتها، هذا ما حصل في الجزائر وفي جنوب افريقيا، وهذا ما ينطبق على اسرائيل ذاتها الى حد كبير، كما بينت التجربة. لذلك فإن اسرائيل، بوضعها هذا، ستبقى عقبة كأداء أمام عملية التسوية، وهو ما ينبغي وضعه في الاعتبار وعدم الارتكان على مقولة ان التسوية هي مصلحة خالصة لاسرائيل، وما ينطبق على اتفاق اوسلو ينطبق على خطة شارون. * كاتب فلسطيني، دمشق.