مرّت قضية اللاجئين عبر خمسة عقود من الزمن بالكثير من محاولات التصفية الجذرية والجزئية التي انتهت من فشل الى فشل، ففشلت في استهداف شرعية حق العودة وقانونيته وعجزت عن ازالة صبغته الانسانية ولم تفلح نظريات التطور الزمني المراهنة على نسيان القضية او حتى تخفيف جذوتها، لكن المحاولات استمرت بالهدف نفسه وبأشكال متنوعة ووجوه مقنعة، وقد عادوا من جديد ليستهدفوا عمقاً خفياً ودقيقاً في قضية اللاجئين، هذه المرة ركزوا فيها على ضرب المصطلح، فما بين"حق العودة وحق الاختيار"ارادوا لقضية اللاجئين ان لا تنفك تصفيتها عن قرار اللاجئ نفسه، فطرحت مشاريع التخيير بين العودة او التعويض وحق الفلسطيني في تقرير مصيره الآن لتظلل من جديد رغبات التصفية العلمية المدروسة هذه المرة لقضية ايدتها شرائع السماء والارض والقانون والانسانية. وقبل الخوض في دحض مصطلح"الاختيار والتخيير"لا بد من ان نوضح حقيقة مصطلح"حق العودة"نفسه، وهل يمكن للاجئ ان يختار بين هذا الحق وغيره؟ وهل من صلاحياته ان يبدل ما له وما للجميع وما للأمة وما للتاريخ؟ وهل هذا الحق له وحده ام للآباء والاجداد؟ امام هذا المصطلح اسئلة كثيرة قبل ان نقرر نختار او لا نختار. فأنا استطيع ان أمارس الاختيار فيما أملك وحدي، وهنا تكون ممارستي لحق شخصي لا علاقة للآخرين به، وعندما يكون الحق حقي وحق الآباء والاجداد والمسجد الاقصى والآثار التي تروي حكاية في كل حجر من اركانها فان هذا الحق يصبح حقاً لي وواجباً عليّ أي انه"وجوب الحق"وليس حقاً وحسب. واذا كان اصحاب مشاريع التخيير هم من الاكاديميين والقانونيين الذين يحصرون دراساتهم البحثية او القانونية الاكاديمية في اطار النص المكتوب لقانون ما، وسمحت لهم دراساتهم وامكاناتهم العلمية ان يتجاوزوا التاريخ والمعتقد وان يكونوا واقعيين فقط، فنقول لهم ولمن جاء بمشاريع التخيير ان قانوناً او عرفاً دولياً لا يعطيك حقاً في طرح تخيير اللاجئين بين العودة او التعويض في وقت لا يزال فيه الاعتراف بالعودة غير موجود من جانب من يسيطر على الارض مقصد العودة، فلو عدنا الى مرجعيات دولية كالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لرأينا انها لا تجيز تخيير اللاجئين بالعودة الا اذا تم ضمان اعتراف من حكومة البلد المقصود بالعودة وتصورات ورؤى لتطبق هذا الحق خصوصاً ان الرؤى المقابلة لتطبيق التعويض ربما موجودة او انها بالامكان، فكيف لمشاريع التخيير ان تضع اللاجئ امام معادلة العودة او التعويض في حين يسقط احد طرفي المعادلة العودة اصلاً من اعتبارات من بيده تنفيذ المشروع. كما ان المفوضية تؤكد ضرورة توفير الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب من جميع الاطراف المعنية قبل البدء بعملية تخيير اللاجئين، فأي ظرف من هذه الظروف موجود حالياً؟ ان هذه المشاريع ما جاءت لتطرح نظرياتها وخططها الا بعدما توفر الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المناسب لطرح هذا المشروع من وجهة نظر اصحابه، فإن ظرفاً سياسياً وميدانياً في المكان قصد العودة وأنا هنا أتكلم بلسان اصحاب مشاريع التخيير لن يكون حافزاً للاجئ للعودة لمن يعيش تحت أي نظام سياسي مهما كانت درجته، كما ان ظرفاً اقتصادياً مريحاً للاجئ يعيش في اوروبا مثلاً سيمنعه من اختيار العودة الى مكان لا تتوافر فيه ادنى مستويات الرفاهية، وفي المقابل فان ظرفاً اقتصادياً سيئاً للاجئ فلسطيني يعيش في لبنان قد يجعله يفضل التعويض لتحسين ظروفه الحياتية، وان الظرف المدني والاجتماعي لفلسطينييالاردن قد يجعله يفضل هوية معترفاً بها دولياً على هوية مهددة على المعابر والحدود، اضف الى كل ذلك ان من اهم ما اخذ في الاعتبار نسبة ربما اقل من 13 في المئة من مجموع اللاجئين هم فقط ممن عايشوا النكبة وعاشوا شيئاً من طفولتهم في فلسطين. ان مشاريع التخيير طرحت أجندتها في زحمة اعتبارات موضوعية لمن يقف خلف هذه المشاريع وظروف منطقية بالنسبة الى نظريات تطبيق التخيير وفق ما يراد له، الا ان هذه الظروف والاعتبارات لا تبدو كذلك بالنسبة الى فلسطينيي اوروبا الذين يؤكدون تمسكهم بالعودة من خلال مؤتمرات وندوات عقدوها في اكثر من مكان في اوروبا ليجددوا من خلالها ايضاً ان الجنسية والاقامة الغربية ليستا هوية وان الهوية فلسطينية من البحر الى النهر، وان اللاجئ في لبنان يعي المرحلة على رغم جراحه ويؤكد ان لا تعويض ولا توطين ولو اننا توسدنا الثرى وتلحفنا السماء، وان اللاجئين في كل مكان مدركون لماهية المشروع ومعطيات المرحلة وحقيقة المعركة مع المصطلح، بل ان وعي اللاجئين لحجم المؤامرة هو دعوة لكل من خاض في هذه المشاريع، عن علم او غير علم، لان تكون ابحاثنا ودراساتنا وامكاناتنا في المرات المقبلة حول تعزيز حق العودة ووجوبه وحول الحق في التعويض عن خمسة عقود من الصراع مع حقيقة الهوية وان العودة لا تمثل حلماً مستحيلاً بل انها حقيقة راسخة بحتميتها عند كل المؤمنين بعدالة القضية وعدالة المبدأ. طارق حمود بريد الكتروني