تجاوز عمل الهيئات والمنظمات الثقافية غير الحكومية في العراق، بخطوات، عمل المؤسسات الحكومية، كماً ونوعاً. ويقف في الصدارة من هذه الهيئات"ديوان الشرق - الغرب"الذي تديره الشاعرة أمل الجبوري. فقد استطاع هذا"الديوان"، وخلال فترة قصيرة نسبياً، ان يحقق من النشاطات والفعاليات الثقافية ما جعله في الصدارة. وكان آخر هذه الفعاليات إقامة مهرجان شعري، هو الاول لهذه الهيئة في العراق، شارك فيه ستون شاعراً وناقداً وفناناً عراقياً توزعوا على مجمل فعاليات المهرجان التي استمرت على مدى يومين 20-21 /12/2005. وتنوعت هذه الفعاليات بين القراءات الشعرية، وندوات الحوار في قضايا الشعر ومشكلاته الراهنة، وتخلله تكريم لشاعرين من جيل الستينات في الشعر العراقي، واعلان اسماء الفائزين بمسابقة"الديوان"للشعر. واتسمت هذه الفعاليات بسمات اخرجتها عن كل مسار تقليدي. فأولاً تم افتتاح المهرجان بنصوص شعرية ممسرحة لعدد من الشعراء العراقيين والعرب والالمان تمحورت حول الموضوع الذي اتخذه المهرجان محوراً له وعنواناً:"ظلم الاقوى"، في ما تعرض له العراق من حروب جرّت الى الخراب والدمار.... وأراد مخرج العمل خالد علي ان يقدم من خلاله رسالة تقول:"إن الانسان، في أي مكان يكون، اذا تعرض لضغوط خارجية، كالحروب والازمات السياسية، فان اللغة - لغة المواجهة - ستكون واحدة، بغض النظر عن المكان والزمان". وقدم هذه"اللغة الواحدة"ستة ممثلين بأدائهم المسرحي البارع، عبر قراءات حرصت على ان تنقل الى المتلقي حالات انسانية عدة. واعتمد المخرج على بعض الوثائق الصورية التي تدين الحرب في كل مكان، مظهراً من خلال هذا ان لغة الحرب واحدة... وهي لا تنتج غير الدمار والخراب. وثانياً إن المهرجان، الذي اعد اساساً لپ"الاحتفاء بالشعر العراقي"لم يملك القائمون على تنظيمه الا ان يجعلوا له سياقاً عربياً... من خلال الاحتفاء ببعض الرموز الشعرية العربية مثل ادونيس ومحمود درويش اللذين قرأ لهما بعض المسرحيين قصائد ونصوصاً، مما وضع الحضور في جو شعري بالغ التأثير. وترافقت هذه القراءات مع قراءات من أعمال شعراء عراقيين: يوسف الصائغ، عبدالوهاب البريكان، ومحمود البياتي، ورعد عبد القادر.... وثالثاً كانت تلك الالتفاتة الجميلة من المهرجان الى تكريم الشاعرة آمال الزهاوي، التي حضرت حفل التكريم على رغم حالتها الصحية الصعبة، والشاعر عبدالرحمن طهمازي. وعلى صعيد آخر جرى تكريم شعراء آخرين بطبع مجموعات شعرية لهم... وتم الاعلان عن أسماء ومجموعات الشعراء الفائزين في مسابقة"الديوان"الشعري للعام الراهن، وهم: محمد صابر عبيد ومجموعته"عشب ارجواني يصطلي في أحشاء الريح"، وعلي حبش في مجموعته"صواريخ العائلة السعيدة"، وعلاوي كاظم كشيش في مجموعته"عشبه سومرية"، ورعد كريم عزيز في"النصوص فاكهة السواد". واذا كانت مجموعة محمد صابر"ذات وحدة تنبع من قصائد تتخذ من الاسطورة عنواناً ومنطلقاً لها"- كما تعبر الناقدة فريال جبوري غزول، فان الشاعر، في مجموعته هذه، يسعى"الى خلق حالة يتقاطع فيها الوجدان بالتأمل"، متميزاً"بمعجم لغوي ثري، من دون ان يكون صعباً". في حين يستفيد زميله علاوي كاظم - كما يرى عبدالعزيز المقالح -"من السيرة الذاتية لاحياء قيم ودلالات تتسع لتشمل الوطن وهمومه". اما علي حبش، فهو، وان كان على"حداثة تدل على وعي بالكتابة الشعرية الجديدة"مستثمراً فيها"المتاح من امكاناتها"-- كما يرى الناقد حاتم الصكر - الا انه"يقيم شعرية نصوصه على الانزياحات الصورية، واللغوية"التي تتسع بدورها"للبيئي والمحلي والحياتي". اما رعد كريم فتميزت مجموعته بقصائدها القصيرة التي اعتمد فيها"روح المفارقة"، عازفاً على أوتار"الحرب والموت، الكتابة والزمن، الغزل والوصف"، الأمر الذي جعل الناقدة فريال غزول تجد فيها"قصائد محكمة على بصيرة استئنافية". وتكاد قصائد المجموعات الاربع هذه تجتمع في اكثر من مشترك. ففضلاً عن مشترك"الجيلية"، إذ نجد شعراءها يتقاربون عمراً وبدايات، فإن المشترك الآخر، والمهم هو خروجها من رحم اجتماعي وانساني جمع، في دلالاته الشعرية، بين أزمتين عاشهما انسان العراق واكتوى بنارهما الحارقة، وحملت كلمات الشعراء اوجاعها- اعني ازمة الحرب والحصار التي افضت الى ازمة أخرى مدمرة انتهت باحتلال العراق... ونجد كلمات الشعراء، وهي تحاول استيعاب ما حصل للانسان العراقي، تلوذ بالانسان نفسه من شر ما حدث، حافزة فيه انسانيته، لئلا يتحول الوطن محرقة وقودها الانسان والكلمات. مشترك آخر، فني، يتجلى في كون شعراء هذه المجموعات الاربع، الفائزة، يبحثون، كل على طريقته، عن شكل جديد للقصيدة، وما يشكل عنصر اغناء لهذا الشكل من مضامين تستمد نسغها من معاناة الانسان - الشاعر الذي نجده، في حالة شعرائنا الاربعة، لا يقف على اطراف الحياة مكتفياً بالمراقبة، بل هو مقذوف في لجتها، ويعاني تدهوراتها، محاولاً الخروج برؤية تنطوي على الحلم لإنقاذ ما تبقى - من الانسان، لا من الواقع! يبقى القول: إن هذا المهرجان الذي كان استثناءً في الحياة الثقافية الحاضرة في العراق، ومن خلال ما أثار من قضايا تخص واقع الشعر ومستقبله. والأمل ان يصبح تقليداً سنوياً ثابتاً، وألا يقتصرالتكريم في دوراته المقبلة على الشعراء وحدهم، وانما ان يشمل نقاد الشعر ايضاً. وأعلن"ديوان الشرق - الغرب"انه يعد لفعاليات شعرية ونقدية خلال العام المقبل تعضد المهرجان وتفعِّل من دوره، وستكون هناك ندوة عن الشاعر الراحل يوسف الصائغ، وأخرى عن الناقد جبرا ابراهيم جبرا، مع انتظار الاعلان عن تخصيص جائزة للترجمة بإسمه.