من هو القاتل؟ استفاقت بيروت صباح ذلك اليوم من آب اغسطس 1958 على خبر كان له دوي الصاعقة، خصوصاً انه حدث في إبان المدّ الناصري واشتداد حرارة القومية العربية، وشكل عنواناً من عناوين النضال. وقد نصّ الخبر تحت عنوان بارز هو:"مقتل رقيب من بحارة الاسطول السادس"،"ان رقيباً من افراد المارينز التابع للأسطول السادس، وجد مقتولاً عند مدخل احدى البنايات في حي سكني هادئ تقيم فيه عائلات من الوسط المخملي، شرق طريق الشام، في منطقة"مونو"وما زالت الاسباب والدوافع مجهولة"! وتوالت ردود الفعل، فاستفاض بعضهم في التحليل معتبراً ان دوافع وطنية وراء الحادث، وعزا ذلك الى ان مقاومة الانزال الاميركي، على شواطئ الاوزاعي، قد بدأت. واستفاض، أكثر فأكثر فأكد ان هناك مخططاً سرياً بدأ تنفيذه... ويقضي هذا المخطط باصطياد افراد المارينز الواحد بعد الآخر، واختطافهم أينما وجدوا وكيفما تيسّر، والتخلص منهم فوراً، اذا أمكن، لا الاحتفاظ بهم كرهائن، والاكتفاء، فقط، باستعمال الادوات الحادة والجارحة كالسكاكين والخناجر والحراب وغيرها، من الفصيلة ذاتها، وتفادي اللجوء الى السلاح الناري! وناقض فريق ثانٍ هذه الافكار فاعتبر الحادث عملاً فردياً ومعزولاً عن أي افكار قومية او وطنية او نضالية او أي رغبة في مقاومة الاحتلال! ودلّت القرائن ان الرقيب القتيل لم يضرب بأي آلة حادة، ولم يطعن بسكين او بخنجر او بمخرز، ولم يصب بأي طلق ناري، لا من قريب ولا من بعيد، ولم يقضِ خنقاً... وان عراكاً، لا بد قد حصل بينه وبين قاتله او قاتليه! وقد رجّح الخبراء فكرة وجود اكثر من قاتل، كون الرقيب، كما بدا من عضلاته المفتولة، وطول قامته، وجسامة بدنه انه من العتاة الذين لا يؤخذون بسهولة. وفي حين رجّح بعض خبراء المفرزة الجنائية انه ربما سقط من أعلى درج البناية، وكان درجاً مكشوفاً، غير محجوز بقفص ولا مقيد بمصعد... يدور على ذاته في خواء... تساءل آخرون عن سر مجيئه الى هذه البناية بالذات، وجميع سكانها غائبون عنها في قرى الاصطياف كعادتهم في كل موسم! وقال فريق ثالث، ربما كان له أقرباء او اصدقاء قصدهم للزيارة، وقد تعثرت به قدماه فسقط من أعلى الطبقات ولم يكتشف أمره أحد... فقضى متأثراً بجروحه... ولو تسنّى له من يسعفه لربما كان ما زال على قيد الحياة. واستبعد المحققون الجنائيون ان يكون المغدور قد قتل في مكان آخر وتم نقله الى مدخل البناية، لا بل أكدوا انه قتل حيث وجدت جثته ولم يتحرك من مكانه قيد أنملة بدليل الدماء المتخثرة وعدم انتشار أي بقع دم في أي مكان آخر. وكان من الطبيعي للوهلة الأولى، الاستماع الى جميع سكان البناية، النساء منهم والرجال، وقد بينت الافادات ان لا احد منهم يعرف الضحية، ولا صلة قربى بينه وبين أحد منهم، وكلهم في اعمار الكهولة والشيخوخةّ ولكن بعض سكان البنايات المجاورة أفادوا انهم في تلك الليلة، سمعوا من بعيد، ولم يتسن لهم ان يروا، على مدى أكثر من نصف ساعة، جدالاً كان يشتد حيناً ويخفت حيناً آخر، وصراخاً كان يعلو حيناً ويهمد حيناً آخر، وأشخاصاً يتكلمون الانكليزية حيناً والعامية اللبنانية حيناً آخر، مما يدل على ان خلافاً قد ذر قرنه بين مجموعة من الرجال لم يرتفع بينهم صوت امرأة! وعلى الاثر صدر عن الجهات المختصة تحذيرات تدعو الجنود المارينز الى توخي الحذر، وعدم التجول فرادى، وتفادي الاماكن المشبوهة، كالمرابع الليلية، والمواخير، وأماكن اللهو، والتجمعات السكانية والاحياء الفقيرة! واقتفى رجال الأدلة الجنائية آثار البصمات التي كانت تملأ المكان، فاستدلوا منها ان عليهم تتبعها من تحت الى فوق حيث وقعوا على اكثر من بصمة على الجدار الذي يتكئ عليه الدرج في تدرجه الى أعلى، من جهة، وعلى درابزون الحديد الذي يسيجه من جهة اخرى، وهنا أكدت القرائن انهم كانوا أكثر من اثنين! ولكن لماذا صعدوا الى فوق؟ ماذا كانوا ينوون؟ والى أي حد وصلوا؟ وأية طبقة يقصدون؟ طالما انه لم يكن بينهم أحد من سكان البناية؟ وظلت البصمات من هنا وهناك ترقى بهم الى فوق، الى اعلى الطبقة الرابعة، حيث انتهى الدرج، وظهرت آثار عراك! وقد دلت هذه البصمات الى اربعة رجال آخرين غير بصمات الرقيب البحار. اذن كانوا خمسة في تلك الليلة. وكانت بصمات احدهم على محفظته التي بدت شبه خالية من أية نقود بينما محتوياتها الاخرى لم تمس! ولكن لماذا جاؤوا الى هنا؟ الى هذا المكان بالذات. بناية مقفلة، بيت مقفل، لا ملهى، لا مربع، لا مقمرة، وليس هناك ما يدل على ارتكاب الفحشاء. وظل السؤال المحير... كيف استطاعوا ان يقنعوا هذا البحار العتليت بمرافقتهم الى هذا الموقع، على بعد حوالي الكيلومتر عن ساحة البرج، وفي زواريب ضيقة وشوارع شبه معتمة، وهل جاؤوا سيراً على الاقدام ام في سيارة؟ هل كان في حالة سكر؟ هل كان مخدراً؟ لم يظهر انه تعاطى مخدراً، ولكنه كان ثملاً، كما تبين من الفحوص المخبرية! وتركز التحقيق في نقطتين: معرفة الدوافع والاسباب، هل هي دوافع قومية؟ أم دوافع جرمية؟ وسر اختيار هذه البناية بالذات والحي الذي تقع فيه، والطريقة التي تمت فيها الجريمة؟ لمعرفة كل ذلك لا بد من معرفة القتلة؟ والحصول على اعترافاتهم. واتجهت الشبهات، في البداية نحو اصحاب السوابق ممن تنطبق عليهم بصمات الليلة السوداء... وشوهدوا تلك الليلة في مربع نعيمة في ساحة البرج وبرفقة البحار! وانحصرت الشبهات بأربعة شبان مرهونين للتسكع والطيش واللهو. هذا يبحث عن غانية، وذاك يبحث عن لعبة نرد، وآخر هوايته الميسر على انواعه... كانوا رفاق الشيطان والرجس بامتياز، وما استطاعوا الى ذلك سبيلاً... السرقة هدفهم وترويج المخدرات، وتوفير ما امكن من الداعرات والعاهرات لمن يشاء! أربعة من أعمار متقاربة تراوح بين الثانية والعشرين والرابعة والعشرين، خرجوا من ارحام امهاتهم الى احضان الامية والجهل، وتدرجوا في مسارب الحياة وزواريبها يتعاطون اعمالاً تافهة لا تدر عليهم ما يرضي شبقهم لالتهام اعمارهم بكل المثالب والشرور البغيضة! وانصبت التحريات في اثرهم تترصدهم، فتبين انهم اختفوا عن مراتع لهوهم منذ وقوع الجريمة! وغابوا عن علب الليل، فازدادت الشكوك بأمرهم، وظهر ان احدهم ذهب باتجاه طرابلس، وآخر باتجاه صيدا، وثالث باتجاه الهرمل، ورابع باتجاه الضنية، وخامس باتجاه جرود صنين. ولكن العيون التي لا تنام تعقبتهم وكان لا بد لها من ان تصيب الهدف. وجيء بابراهيم من طرابلس، فأفاد انه ليلة الخامس من آب كان فعلاً مع حامد وشربا كأساً من الجعة في بار نعيمة في ساحة البرج، ثم ذهبا كل في حال سبيله، وقال انه شاهد البحار القتيل، ولكنه لم يتعاط معه ولم يكلمه لاسباب عزاها الى المزاج، وانكر بداية انه يعرف مكان حامد، فهو لم يره منذ مدة ولم يسمع عن اخباره منذ تلك الليلة... ثم تراجع عن نكرانه واعترف. وجيء بحامد فأنكر أية علاقة له بمقتل الرقيب البحار، وكما قيل له ان ابراهيم اعترف بكل شيء ولا مجال للكذب،"انكر ان يكون قد رأى ابراهيم تلك الليلة في مربع نعيم... ولكنه عاد وتراجع، وأقرّ بأنه التقى ابراهيم، وكان يوسف ثالثهما، ولكنهم لم يتعاطوا مع البحار، تفادوا الاحتكاك به اذ شعروا انه غير ودود. وجيء بيوسف فاعترف انه التقى ابراهيم وحامد في مربع نعيمة... وانهم شربوا الجعة وتبادلوا الاحاديث مع بعض الحاضرين، ودخّنوا لفافات الكيف... ولكنه خرج باكراً... ولا يعرف ماذا حدث بعد خروجه... فقيل له بأن ابراهيم وحامد اعترفا بأنه هو الذي قتل الرقيب البحار فجنّ جنونه، وخرج عن طوره، ولكنه استدرك: لا احد منّا قتل الرقيب البحار سلوا ناصيف... وجيء بناصيف، فاعترف، بعد ان علم باعتقال ابراهيم وحامد ويوسف انهم التقوا في تلك الليلة كعادتهم في بار نعيمة... وكانوا جميعهم مفلسين وپ"خرمانين"يبحثون عن صيد سمين، بدافع السمسرة، فتقربوا من الرقيب البحار بعدما تبينوا انه ودود ويبحث بدوره عن صيد مغر بدافع اللهو والترويح عن النفس، وعلموا منه انه بحاجة الى دليل يبعد عنه وحشة الغربة في ليل بيروت ويوفر له مباهج الحياة والتنقل في مرابعها... وقد سكروا في تلك الليلة حتى الثمالة... وسال لعابهم حينما تبينوا، وهو يسدد حساب البار عن الجميع ان محفظته تحتوي كمية من الدولارات! وفيما كان هاجس الرقيب البحار الحصول على عاهرة مهما كان الثمن، كان هدفهم الاول والاخير الحصول على ما في محفظته من دولارات ليس أكثر... وأخذوا بعد ان خرجوا من بار نعيمة في ساعة متأخرة جداً يجرجرونه وراء رغباته باتجاه مكان هادئ يتسنى لهم فيه الاستيلاء على ما في محفظته. وقد اعترف ناصيف بأن ابراهيم صاحب فكرة المجيء الى ذلك الحي السكني الهادئ، والى تلك البناية بالذات لأنه يعرف ان سكانها كلهم غائبون في الجبل بحكم صداقته لأحد العاملين في محل للسمانة في تلك المنطقة، كان يخطط معه للسطو على تلك البيوت بقصد سرقتها! وخدعنا الرقيب البحار بأننا نعرف امرأة راقية في حي بعيد عن ضوضاء ساحة البرج، وان بامكانه ان يمضي الليل معها بهدوء وأمان... كنّا نلف وندور به في تلك الطرقات الضيقة، سيراً على الاقدام... وحين كانت الشكوك تساوره وتجعله يحرن، ويعاند... كنّا نطيب خاطره ونسترضيه بأن الفرج قريب! ولما دخلنا الى امام البناية، بدأ الشك يزداد لديه، بانه ضحية خدعة، اذ لا شيء يوحي بأن وراء هذه السكينة مراتع للهو... فرفض الدخول... وهنا رحنا من جديد نطيّب خاطره ونشعره بالأمان، كان السكر قد هدّه، وتعتعه، فصار يميل يميناً ويميل يساراً، يتكئ على هذا ويستند الى ذاك... واخذنا نصعد به الدرجات بجهد جهيد... قلنا له ان"المرأة الورعة"تسكن في آخر الطبقات... وكدنا نحمله... وكان كلما وصلنا امام باب احدى الطبقات تهافت عليه يطرقه بشدة من دون جدوى وكنّا نمنّيه بالأمل الموعود في الاعلى، حتى وصلنا الى الطبقة الرابعة وتوقف الدرج امام جدار... وانتهى المشوار الصعب. كان التعب قد أخذ منا مأخذه... ولما ادرك ان لا أحد سيفتح لنا الباب، ولم يعد هناك طبقات موعودة، وليس وراء كل الابواب التي طرقها بشدة أية امرأة تقية او داعرة، لا فرق، ثارت ثائرته، فأخذ يرفس الباب بقدميه ويوجّه لنا اللكمات. وعبثاً حاولنا اقناعه، عن طريق الخداع، ان المرأة المقصودة تسكن فعلاً في هذه البناية، وفي هذه الطبقة ولكنها على ما يبدو غائبة، واننا نعرف امرأة اخرى في البناية المجاورة، فقد كان يزداد هياجاً ويوجه لنا الشتائم والركلات... وخصوصاً حين شعر بأننا نريد سلبه. وعبثاً حاولنا انزاله بالتي هي أحسن، فقد تشبث بحديد الدرابزون معانداً ومصراً على ان نحضر له المرأة الموعودة... ولما استبد بنا اليأس عن ثنيه عن تنفيذ رغباته والانتقال الى مكان آخر بحجة أننا اخطأنا وقصدنا البناية الخطأ، تمسك بنا وأخذ يوجّه لنا اللكمات من جديد يميناً وشمالاً مما اضطرنا لأن ندخل معه في عراك شرس... كان على رغم كل شيء متماسك البنية، قوي العضلات عتليتاً بالفعل! وعندما استبد بنا اليأس في اقناعه للنزول، تكاتفنا كأربعة وقررنا التخلص منه، مهما كلف الامر وبأية وسيلة. فاستفدنا من التعب الذي أضناه مع السكر، وحملناه معاً بجهد مضن! أفلت منّا مراراً، ولكننا ازددنا تشبثاً به، وفي حال من اليأس والاصرار على وضع حد لهذه المأساة تمكنا من قلبه فوق الدرابزون الحديد ورميناه في منور الدرج المكشوف حيث استقر جثة هامدة عند المدخل. لاقى حتفه على الفور لم يتحرك من مكانه... لم يزحف، لم يحاول النهوض.. لم يصدر عنه أي أنين او أية استغاثة! لم يكن امامنا خيار آخر وهو اصعب الخيارات التي واجهناها في حياتنا القصيرة... اذ لم يكن في نية أي واحد منا ان يرتكب جريمة، اية جريمة، ومهما كان حجمها! *** روى لي ابراهيم، هذه الجريمة بحذافيرها وهو احد الشركاء الاربعة بعد خروجه من السجن حيث امضى اطول عقوبة في السجن بلغت عشر سنوات باعتباره المنفذ والمخطط، وقد اجمع الرفاق الثلاثة على انه هو صاحب فكرة التخلص من الرقيب البحار برميه من اعلى الدرجات، وهو صاحب فكرة خداعه بتأمين داعرة له، وهو صاحب فكرة سوقه الى تلك البناية في الحي السكني الهادئ وهو الوحيد بين الثلاثة الذي يتكلم الانكليزية. اما الثلاثة الآخرون فقد امضوا في السجن مدداً تراوحت بين ثلاث سنوات وخمس سنوات! قلت لابراهيم: ولكنكم صرحتهم امام المحكمة انكم قتلتموه بدافع وطني وخداعكم له كان للتمويه. فأجاب: هذا الادعاء ساهم في تخفيف مدد الاحكام التي قضت بها المحكمة على كل واحد منا! بيروت - آب أغسطس 1969 باريس - آب 2005