وقف تاجر صيداوي أمام محله في البناية المقابلة لمسجد بلال بن رباح في محلة عبرا يراقب ما خلفته المعركة التي انتهت قبل 12 ساعة في هذا المكان مكتفياً بالقول: «هم كبروه وهم قضوا عليه، أما الخسارة فهي على المواطن العادي مثلنا. استمروا في مسايرته في كل أفعاله ولم يوقفوه عند حده في حينه، ولو فعلوا لما وصلنا إلى هنا». أصحاب المحال التجارية في الأبنية المجاورة للمسجد، الذي كان يؤمه الشيخ أحمد الأسير وحوّله إلى مجمع لمناصريه الذين يقدرون بالعشرات ينصر من على منبره المعارضة السورية ويتهجم على «حزب الله» ويتجرأ على أمينه العام السيد حسن نصرالله، لملموا منذ الصباح أكواماً من حطام الزجاج ورموا محتويات براداتهم وواجهاتهم المهشمة والمحروقة، واكتفوا بالرد على كل مطمئن: «الله يسلمك». فالفرحة على شاشات التلفزة بالخلاص من الأسير وجماعته غير موجودة في الجيرة له. الناس هنا يصرون على تمسكهم بالجيش اللبناني ويتمنون لو أن الجيش أمسك بزمام الأمور منذ زمن وليس الآن، لأن إزاحة الأسير كانت «مكلفة للجيش ولنا». الرصاص الفارغ الذي يغطي الشارع الموازي لمسجد الأسير يدل على شراسة المعارك التي دارت منذ بعد ظهر الأحد الماضي وحتى عصر أول من أمس. الجيش ينتشر عند كل مفترق وتتمركز ملالاته في أمكنة متفرقة والسيارات المركونة منذ الأحد الماضي على جانبي الطرق لا تزال في أمكنتها، وهي إما زجاجها محطم أو تمزقت إطاراتها. وممنوع الدخول إلى ما اعتبر «مربعاً أمنياً». الجنود يقفون بالمرصاد لكل شخص يريد الدخول إلى الأبنية التي أفرغت ممن حوصروا فيها «حفاظاً على سلامتهم». وترددت بين حين وآخر أصوات انفجارات قال الجنود إنها ناجمة عن تفجير الجيش عبوات كان زرعها الأسير وأنصاره داخل مجمع بلال بن رباح وخارجه وعثر عليها الجيش. رائحة المازوت التي تنبعث من الطريق، قيل إن جماعة الأسير رموه لإعاقة تقدم الآليات العسكرية للجيش. وهي تمتزج مع رائحة حرائق أتت على شقق سكنية في الطبقات العليا ولا أثر لها في الطبقات السفلى باستثناء أثار الرصاص. والقذائف التي استهدفت مجمع الأسير كانت على جانب واحد من المجمع، الجانب المطل على أودية وتلال مقابلة، أما الجانب الذي تنتصب قبالته أبنية فسلم من الدمار وأصيبت هذه الأبنية به من ناحية الخلف أي الناحية المواجهة للتلال نتيجة قذائف بدا أنها أخطأت هدفها. والتلال المذكورة تعرف ب «تلة مار الياس». يروي سعيد وهو يعمل في مطعم «كنتاكي» في نهاية الطريق الذي يقع فيه مجمع الأسير، ما حصل الأحد: «كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف تقريباً بعد الظهر وكان في المطعم حوالى 21 شخصاً، بينهم ثلاثة أطفال ونساء، سمعنا بداية صراخاً عند حاجز الجيش ثم انطلق الرصاص وفجأة تحول الأمر إلى اشتباك ثم إلى إطلاق قذائف. شاهدنا جنوداً أصيبوا، اثنان منهم أحدهما ضابط والآخر عسكري أصيبا برصاص القنص، ولم يكن بمقدور أحد إنقاذهما. احتمينا في غرفة خلفية هي المطبخ وكلما حاول أحدنا استكشاف الطريق لمحاولة الخلاص بأرواحنا منعته كثافة النيران. بقينا 21 شخصاً في المطبخ، حتى التاسعة والنصف ليلاً بلا كهرباء ولا ماء ولا قدرة على التحرك، الأطفال يصرخون والنساء يبكين وزاد من حال الذعر إصابة الطبقة التي فوق المطعم بقذيفة مباشرة واندلعت النيران فيها، وأطلقنا نداء استغاثة للجيش، فأوقفوا النار دقائق وصعدنا إلى سيارات تابعة للشركة (كنتاكي) وحاولنا الهروب لكن بصعوبة بسبب المازوت الذي كان في الطريق. وروت الصبية نور التي كانت تنتظر والدتها التي سمح لها بالصعود إلى منزلها لإحضار أدوية لها ولزوجها في بناية حمية على يمين المجمع، كيف أن المسلحين حطموا مدخل البناية الأحد وطلبوا من السكان النزول إلى الطبقة الأرضية والاحتماء في إحدى الغرف الخلفية. تقول نور: «كان بين المسلحين فادي البيروتي (المسلح الذي كان أوقفه حاجز الجيش لدى بدء شرارة المعركة) ولم يكن بين المسلحين من كان يتحدث بلهجة غير لبنانية. صعدوا إلى سطح البناية وراحوا يطلقون النار. كنا عشرة أشخاص نهرب من غرفة إلى غرفة كلما اشتد القصف الذي كان يصيب البناية وبلغ عدد القذائف التي انفجرت في البناية 15 قذيفة. لم نعد نحتمل، ومساء أدى المسلحون صلاة العشاء وقالوا لنا اخرجوا فركبنا ثلاث سيارات محطمة الزجاج ورفعنا «بروتيلات» بيضاً أخرجناها من النوافذ ولوحنا بها وغادرنا». نزلت الأم من البناية يعاونها جندي من الجيش في حمل أمتعة انتشلتها من المنزل ونسيت أشياء أخرى كثيرة. «سوبر ماركت البساط» الذي حوصر فيه حوالى 61 شخصاً يرفض المسؤولون عنه التحدث عن التجربة التي مروا بها، أقفلوا المكان بانتظار عودة التيار الكهربائي (مؤسسة «كهرباء لبنان» أعلنت أمس أن فرقها الفنية باشرت إصلاح الأعطال التي نجمت عن الاشتباكات)، لكن أحد أقاربهم الذي يسكن في المبنى الملاصق والذي يقع خلف مجمع الأسير وهو سمير مصطفى البساط يقول: «لا تنزعجي إذا قرر الناس عدم الحديث عما حصل، فأنا كنت سأحتفل الأحد بعيد مولدي ال69 ولم أشهد في حياتي ولا في أي حرب عشتها ما عانيناه الأحد. إنه أبشع يوم في حياتي، متفجرات وقصف ورصاص وهلع. كنا 6 أشخاص بيننا أطفال أمضينا النهار والليل في الحمام ولم نستطع الاقتراب من المطبخ لأخذ شربة ماء ولا حتى لتناول حبة دواء، 36 ساعة من الرعب بلا نوم وكان الموت أمامنا. اقتحم المسلحون البناية وكسروا أقفال السطح وأطلقوا النار من المبنى. ولما جاء الجيش قلنا لهم هذه بيوتنا فتشوها. وأنا شاهدت اثنين من المسلحين أصيبا برأسيهما ممددين على الطريق قبالة البناية. اتصلت بالصليب الأحمر ورجوته أن يأتي لكن مضت خمس ساعات قبل أن يتمكن الصليب الأحمر من الحضور. ورأينا ملالتين للجيش أحرقتا وإحداهما كان ثمة شخص فيها حين اندلعت النار فيها». سمير البساط غادر منزله فقط لأخذ شقيقته إلى المستشفى لغسل كليتيها، ورجع ينتظر عودة الماء والكهرباء. يقول إن أحداً لم يطلب منه مغادرة المنزل لدواعٍ أمنية على عكس أقارب له قال إنهم أبلغوه بأن مسلحين بلباس مدني دخلوا منزلهم صباح أمس، في شارع قريب وطلبوا منهم مغادرته. ولم يعرف ما إذا كانوا من الجيش أو جهاز أمني آخر. في بناية محمد علي نحولي قبالة سوبر ماركت البساط والتي يفصلها عن مجمع الأسير موقف سيارات، تروي زوجة خليل أبي أنطون كيف حوصرت والجيران في الطبقة الأرضية وكيف اقتحم المسلحون البناية واستخدموها لإطلاق النار. وتتحدث عن 36 ساعة من الخوف قضوها خلف جدار اعتبروه آمناً وبينهم والدة نجلاء سعد (زوجة النائب الراحل مصطفى سعد) وشقيقتها من آل حمدان. في بناية «أبو زينب» قبالة مجمع الأسير، يتحدث صاحب ملحمة «حسنة» عما حصل الأحد وكيف أنه احتجز داخل الملحمة مع إحدى زبوناته أربع ساعات قبل أن يغامرا بالخروج تحت أزيز الرصاص إلى سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر نقلتهما إلى خارج منطقة المعارك. ويستغرب شخص آخر يعمل في أحد الدكاكين ويقطن في محلة التعمير حيث نال نصيبه من الاشتباكات التي حصلت، «كيف أن مشكلة على حاجز للجيش تحولت وخلال أقل من خمس دقائق إلى معارك طاحنة وكأن الأمر مدبر». ويقول: «غزارة النيران لم تسمح لنا برؤية شيء. لم نرَ قتلى من جماعة الأسير. وما شاهدناه على شاشات التلفزة عن مخازن ذخيرة مضحك، سطل لبن فيه كيسان من الرصاص وثلاثة بنادق لا تعني مخزناً، عند رجال دين آخرين يوجد أكثر منها». ويتابع أن «السوريين يأتون إلى مسجد الأسير من أجل الصلاة لكنهم ليسوا من أتباعه، وفق متابعتنا للجوار». سكان المحلة يبدون ارتياحهم لوجود الجيش، لكن لديهم الكثير من الأسئلة عن حيثيات ما حصل، وكذلك الإعلاميون الذين أمطروا القيادات الأمنية التي تفقدت المكان، بعشرات الأسئلة عن استتباب الأمن ومصير الأسير. وكان مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر ادعى على فضل عبدالرحمن شمندر المعروف بفضل شاكر وعلى الموقوف السوري حميد نجم و20 آخرين فارين بإقدامهم على الإتجار بالأسلحة الحربية والأعتدة والأجهزة اللاسلكية واستعمالها. وأحال الملف على قاضي التحقيق العسكري. وكلف أطباء شرعيين معاينة جثث المسلحين وإجراء الفحوص المخبرية لمعرفة هويات أصحابها. وباشر التحضيرات للادعاء على المسلحين الموقوفين الذين بلغ عددهم أربعين. وزار صقر عبرا عصراً لمعاينة مكان الاشتباكات. وزار صيدا قائد الجيش العماد جان قهوجي وجال على الوحدات العسكرية، واجتمع الى الضباط والعسكريين وقدم لهم التعازي باستشهاد رفاق لهم، منوهاً «بتضحياتهم الجسام خلال المعركة والتزامهم روح المناقبية والانضباط»، داعياً اياهم الى «مواصلة الاجراءات الامنية لطمأنة المواطنين وترسيخ الاستقرار في المدينة وتسهيل عودة الاهالي المتضررين الى منازلهم». كما وصل إلى سراي المدينة المدير العام لقوى الأمن الداخلي بالوكالة روجيه سالم وترأس اجتماعاً في مقر قيادة منطقة الجنوب الإقليمية لقوى الأمن الداخلي في حضور رؤساء الوحدات التابعة لقوى الأمن، وحضور قائد منطقة الجنوب الإقليمية العميد طارق عبدالله. وشدد في كلمة له على وجوب «تطمين الناس ومساعدتهم على فتح أبواب منازلهم ومؤسساتهم ومحالهم التجارية وحراسة الأبنية التي لحقتها الأضرار، ونحن بصدد إرسال تعزيزات إلى مدينة صيدا لإعادة الأمور إلى طبيعتها». وكان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تابع الأوضاع في صيدا من خلال اجتماعات أمنية وإدارية، وأوعز إلى الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة إبراهيم بشير للتنسيق مع الجيش اللبناني من أجل الإسراع في إنجاز الكشوفات على أضرار الأحداث. كما بحث مع وزير التربية حسان دياب في موضوع استئناف الامتحانات الرسمية في المدينة بعد تجميدها. واتصل ميقاتي برئيس المكتب السياسي في حركة «حماس» خالد مشعل وتشاورا في وضع المخيمات الفلسطينية في لبنان. واستقبل وفداً من الفصائل الفلسطينية للغاية ذاتها أكد على لسان أمين السر فتحي أبو العردات «الموقف الفلسطيني الحيادي». وسمع ميقاتي من وفد من «الجماعة الإسلامية» مطالبتها «بمعالجة الإشكال الذي أنبت حالاً مثل حال الأسير». كما جال الرئيس السابق لبلدية صيدا عبد الرحمن البزري على مناطق الاشتباكات وأشاد بالجيش الذي «افتدى الوطن ووحدته»، محملاً الحكومة السابقة مسؤولية «إهمال صيدا وأمنها وسماحها بإنشاء المربعات الأمنية التي دفع ثمنها المواطنون».