منْذ ديوانه الأوّل الصادر عام 1991عنْ دار لارماتان ضمن سلسلة شعراء القارات الخمس بتقديم من الشاعر عبداللطيف اللعبي، لفت محمد حمّودان الانتباه كواحد من أهمّ أصوات الجيل الجديد من الكتّاب المغاربة باللغة الفرنسية. أسلوبه الأنيق الذي يؤجّج اللغة على إيقاع أنفاس متوتّرة، وقصائده المشحونة، المتمرّدة، الغاضبة، سرعان ما قرّبته من قامات محترمة في المشهد الشعري الفرنسي، أمثال ميشال دوغي وكزافيي بور وجان - ميشال مولبوا، وفتحت له أبواب النشر في مجلات شعرية مرموقة Po&sie, Prژsage, Bleu..... ومع توالي القصائد والدواوين، كرّس حمّودان نبرته المتفردة وسط"كاكافونية"الأصوات الشعرية التي تقذفها بغزارة دور النشر الفرنسية. رصيده الآن خمسة كتب شعرية، علاوة على الديوان الأول، له"قصيدة ما وراء موسم الصمت"لارماتان 1994،"هجوم تفجيري"لاديفيرونس 2003،"توهّج"المنار 2004، و"ميكانيكا بيضاء"لاديفيرونس 2005. ومع صدور روايته الأولى"الحلم الفرنسي"عن دار لاديفيرانس، يدشّن الشاعر نقلة نوعية في مساره الأدبي، مؤكّداً أن ثمة أفقاً مغايراً للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية غير ذلك الذي سجنته فيه غالبية أسماء الجيل الجديد، التي تكتب عن الطربوش الأحمر وأطفال الحمّام والشوكولاتة الساخنة وتجارب الجنس المثلي.... وغيرها من الصور النمطيّة التي تلقى رواجاً لدى وسائل الإعلام الفرنسية لأنها تبيع أحسن، في أسلوب مسطّح وباهت لا تستره تدخّلات المصحّحين وتصويبات الناشرين. محمد حمّودان يقف على الطرف النقيض. يكتب أحشاءه من دون فذلكات إكزوتيكية. الأدب عنده هو النقيض الموضوعيّ للبطاقة البريدية. في"الحلم الفرنسي"وقد اختار العنوان بالانكليزية:"فرانش دريم"يروي حلمه الفرنسي، الذي يتقاطع مع أحلام ملايين الشباب المغاربة، بتلقائية وحنق وسخرية مرّة، عبر لغة أنيقة تخترقها ومضات شعرية لافتة. في الصفحة الأولى تطالعنا العبارة المألوفة:"هذا الكتاب رواية. كل تشابه مع أشخاص حقيقيين هو محض صدفة". ونتساءل عن الداعي لذلك. لكنّنا سرعان ما نكتشف أن أحداث الرواية تتقاطع في شكل كبير مع حياة الشاعر."فرانش دريم"رواية سير ذاتية، على الأرجح، يمكن تصنيفها ضمن خانة التخييل الذاتي. كأن الشاعر يقوم بإخراج فصل من حياته على خشبة مسرح، مضيفاً الى الشخوص والأحداث ما يلزم من توابل درامية، إسهاماً في حبكة العرض. السرد يعتمد صيغة المتكلم. يبدأ الشاعر روايته بقصة حصوله على تأشيرة الهجرة إلى فرنسا. يحكي كيف استطاع استمالة موظف في وزارة الخارجية المغربية ليساعده على ذلك، في مقابل زجاجة كحول من النوع الرديء:"لا أكاد أصدّق إلى اليوم. في مقابل قنينة"شودسولاي"وافق أحد موظّفي وزارة الخارجية المغربية المدمنين، وما أكثرهم، أن يلقي نظرة في أجندة العناوين الثمينة التي في حوزته. كانت أجندته دليل هاتف حقيقي، وبسرعة عثر على الشخص المطلوب في زاوية"القنصلية العامة لفرنسا". لا ندرك مقدار ما تحمله هذه المقايضة من سخرية، إلا باستحضار ما يقاسيه الراغبون في الحصول على تأشيرة عبور إلى الضفة الأخرى... يستطرد حمّودان:"بذلك أعفاني من التعرّف الى عذاب الليالي الطويلة في العراء، والطوابير التي لا تنتهي، والضرب بالهراوات، ونظرات الاحتقار في عيون موظفي القنصلية..."، قبل أن يواصل وصف لقائه مع الموظف في فندق تيرمينوس بالرباط، رفقة أخ يكبره نادر، سبقه في الهجرة إلى فرنسا. يرسم لهذا الأخ نادر، بورتريه الانتهازي الذي يصعد بسرعة اعتماداً على النضال النقابي في الجامعة وعلى حساب الآخرين. مثلما تحتل شخصية آدم، وهو أخ أكبر من الأول، حيزاً مهماً داخل الرواية. كان آدم مناضلاً في منظمة يسارية محظورة، طاردته السلطات المغربية خلال حملات القمع التي استهدفت مناضلي اليسار إبان ما يعرف"سنوات الرصاص". غير أنه تمكن من الهرب إلى الخارج. يسرد الكاتب كيف نكّلت السلطات بوالديه وأسرته، على خلفية فرار أخيه آدم. وفي فرنسا، يلتقي الكاتب أخاه الأكبر ويكتشف أن سنوات النفي فعلت فعلتها. صار المناضل الثوري شبحاً منطفئاً يسكنه إحباط مدمّر، جعله على قدر لا يصدق من اللامبالاة والقسوة. يمرض الوالد، ويأتي إلى فرنسا للعلاج. يقول الطبيب إنه مصاب بالسرطان ويحتاج إلى جراحة. ويفاجأ الراوي كيف يتملّص أخواه من دفع مصاريف العلاج، ويعتبران الوالد ميّتا قبل أن يموت. صدمات متوالية يتعرّض لها الكاتب، من بلاده ومن إخوته، من زوجته ومن أصدقائه، من المغاربة ومن الفرنسيين، من المثقفين ومن المناضلين... مما يؤجّج غضبه ويعمق حدّة نبرته وحنقه على الجميع، طوال صفحات الرواية، في أسلوب يشدك إليه شداً، مازجاً بين التهكّم والسخرية المرة. في"فرانش دريم"نتعرّف أيضاً، الى جوانب من محنة الطلبة العرب في فرنسا مع العمل والعنصرية، ونكتشف مغامرات الكاتب مع النساء، وحصوله على أوراق الإقامة بعد زواج حقيقي من فرنسية، انتهى نهاية محزنة في مخافر الشرطة، ما جعله يفكر في الرجوع نهائياً إلى البلاد. في الرباط، في مقهى المثلث الأحمر، يتعرّف الى مجموعة من الكتّاب ويشارك في لقاءات ومهرجانات شعرية، ويقف عن كثب على مقدار السخافة والنفاق الذي يسود الوسط الثقافي المغربي، ولا يلوك كلماته:"اكتشفت أنك إذا أردت أن تصبح شاعراً جيداً في البلاد أو أن تنتزع اعترافاً بذلك، وكنت في الوقت ذاته ترفض التحول إلى شاعر يمجّد الرداءة، ولست ابن شخص مهم، إما عليك أن تشتغل مومساً في 5 زنقة سوسة عنوان مقر اتحاد كتاب المغرب، أو تعمل حارساً في بيت الشعر، بحسب الاختيار..." يكيل محمد حمّودان نقداً لاذعاً للشعراء المغاربة ومؤسساتهم، وللكتّاب الانتهازيين الذين يحوّلون الثقافة بطاقة بريدية، والمهرجانات أعراساً رسمية، والموائد المستديرة موائد أكل مخزنية:"رأيتهم كيف يشتغلون بهمّة في إحدى الاحتفالات الشعرية المدعومة من شركة الخطوط الجوية الملكية المغربية. كانوا يساعدون النكّافة - الكبرى التي تطرّز الأبيات الملبّسة ذهباً، والقفاطين الشعرية، ولا تألو أيّ جهد كي يحظى"أصدقاؤنا الشعراء القادمين من كل جهات العالم"بأحسن استقبال، وأن يذهبوا ورؤوسهم مملوءة عن آخرها بكرم المغرب الأسطوري!" يكتشف محمد حمودان أن التغييرات السياسية التي حدثت في المغرب نهاية القرن العشرين وصول أحزاب اليسار إلى الحكم وسمع عنها كثيراً في فرنسا، مجرد وهم في الرؤية وخطأ في التقدير، لأنها أفرزت نخباً جديدة كرّست الممارسات والفوارق الطبقية نفسها:"البلاد التي كانت منذ زمن سجناً، هي في طور التحول إلى مارستان كبير. غالبية الشباب تعرضوا إلى اغتراب قسري وأصبحوا عصابيين تماماً". يحسّ أنه صار غريباً في بلاده أكثر من أي وقت مضى، فيقرر العودة من جديد إلى الغربة لاستكمال"الحلم الفرنسي"... يستأنف مغامراته في ضاحية سان - دوني شمال باريس الآهلة بالمهاجرين العرب والسود والبرتغاليين، حيث يقيم. ويجرّنا الجزء الأخير من الكتاب إلى"فرنسا العميقة"، إلى حضيضها وحاناتها وليلها الموبوء يسمي سان - دوني"جزيرة جولو"ويسمي نفسه أبو سيّاف!. يستعرض وجوه المهاجرين وجريهم المتواصل بحثاً عن لقمة عيش... ويظهر جلياً أن الحياة على أرض"جولو"، على رغم تناقضاتها وقساوتها، تناسب مزاج الشاعر الذي جازف بمعطيات حياته الشخصية وبثّ أحشاءه بين ثنايا الكتاب. ولعلّ ذلك سرّ القوّة التي تشدّك إلى"فرانش دريم"منذ الصفحة الأولى. إنها كتابة مجازفة، على حدود الخطر، جعلت صاحبها يفكر في إحراق كلّ ما كتب... هكذا يختم الشاعر روايته:"كلّما كنت أتقدم في ليل جولو البارد والمقفر، كان الصوت الذي رافقني طوال الرواية يلحّ عليّ أكثر فأكثر، بل يهدّدني ويطالبني بأن أصمت وأقدم هذه الصفحات قرباناً للنار. غير أن تحبيرها بالنسبة إليّ، كان مسألة حياة أو موت. مسألة حياة على الخصوص. ربّما كانت هذه الجملة الأخيرة، تساوي كلّ الكتاب". French Dream, Mohamed Hmoudane, La diffژrence, Paris 2005